Print
رشا عمران

عشت لأسعد

6 يناير 2022
آراء

"عشت لأروي" هكذا يصف ماركيز حياته، وهو يسرد سيرته الذاتية على امتداد ما يزيد عن الخمسمئة صفحة، فالحياة بالنسبة له "ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه". كان ماركيز أحد عباقرة الحكي في العالم، سارد من طراز خاص، في سيرته الذاتية وصف مهم لعلاقته مع السرد والحكاية، ولقدرة ذاكرته على اختزان تفاصيل لا تلفت انتباه أحد، ثم في قدرته على استخدامها كمادة لحكاية من حكاياته، يعترف ماركيز أن ما سبب له السعادة في حياته أشياء قليلة، الكتابة كانت في رأس القائمة.

يعتبر الفيلسوف اليوناني العظيم سقراط أن "سر السعادة، كما ترى، لا يتم في السعي إلى المزيد ولكن في تنمية القدرة على التمتع بالأقل"! بينما يرى الفيلسوف الألماني نيتشه: "إن السعادة هي الشعور بأن القوة تزيد وبأن الفرد قادر على السيطرة على المحيط عبر المقاومة"! وبين هذين المفهومين المثاليين، يعيش الكائن البشري حياته ساعيَا لتحقيق رغبات وأحلام خاصة به، دون أن يفكر أو ينتبه أن هذا السعي بحد ذاته هو للبحث عن السعادة، التي يراها كل منا، لا حسب قناعاته وأفكاره، كما يفترض أن تكون، وإنما حسب احتياجاته ونواقصه.

تفترض مجموعة كبيرة من البشر أن السعادة تكمن في المال، وقد يكون هذا الكلام صحيحًا، ليس أن المال يشتري السعادة، ولكنه بالحد الأدنى يقي من ذل الفاقة والاحتياج والسؤال، يضمن القليل من الكرامة والاكتفاء، وفي الاكتفاء سر السعادة حسب أرسطو، ولكن! إذا كان المال يحقق السعادة فلماذا ينتحر الأثرياء؟! لماذا يتحول بعضهم إلى مدمنين على المخدرات والكحول؟! لماذا يعيش كثر منهم وهم يشتكون من حزن مديد حتى أن بعضهم يهجر أعز ما لديه ويتقشف لاعتقاده أن سر السعادة في التقشف؟!

بينما يفترض البعض أن السعادة تكمن في الحب ومشاركة تفاصيل الحياة مع شخص آخر، فلو كان سر السعادة في الحب، فمن أين إذًا أتى الفن العظيم عبر التاريخ الذي يحكي عن الحزن الذي يسببه الحب، وعن الخيبة والخذلان وآلام الفقد والشوق والبعد؟ من أين أتت تلك القصائد العظيمة والأغنيات الرائعة؟ من أين ينبع الوجد وكسر القلب والروح؟! ولماذا تخلدت آلاف قصص الحب بسبب نهاياتها المأساوية؟ الحب يسبب الضعف والضعف انكسار والانكسار حزن، لا يمنح الحب لا القوة ولا السيطرة اللتان حكى عنهما نيتشه، ومع ذلك يبحث كثيرون عن الحب لأنهم يعتقدون أنهم سيكونون سعداء معه.

ويرى البعض أن الأولاد هم من يمنحون السعادة، لهذا يعيش المحرومون من الأولاد في حزن خفي يتجلى لدى رؤيتهم أطفال الآخرين، وربما يعوضون نقصهم بتبني طفل ما أو تربية حيوانات أليفة، وربما يحسدون من لم تحرمهم الحياة من نعمة الأولاد، وبالمقابل يشتكي الآباء والأمهات، ليس من المسؤولية الثقيلة في تربية الأولاد، وإنما من الخوف الدائم على أولادهم، ومما يسببه لهم هذا الخوف من حالة فقدان للأمان النفسي اللازم للسعادة. "أولادكم ليسوا لكم هم أبناء الحياة"، يقول جبران خليل جبران، والحياة حين تأخذ الأولاد في جيوبها تتسبب بالتعاسة للأهل.

الإيمان العميق بالإله بالنسبة لمجاميع بشرية كثيرة هو سر السعادة التي يبحث عنها الإنسان، فالإيمان يفترض التسليم بالقضاء والقدر، وهو يمنح الطمأنينة بعدالة ستأتي في الحياة الآخرة، بمكافأة نهاية الخدمة على الصبر والتحمل والشكر، وهو أيضا يولد القناعة والرضى، حسب المؤمنين. غير أنك لو سألت هؤلاء هل هم سعداء في حياتهم لأجابوك بدون تردد: "الدنيا متاع الغرور، العبرة في الآخرة".

البعض يرى السعادة في الجبروت، في القوة، في التقرب من آلهة القتل، في الانتصار على أعداء مفترضين وكسرهم، في الحرب وفي سفك الدم، بيد أن هؤلاء تنقصهم الجرأة للإفصاح عن ضعفهم وخوفهم من الآخرين، فيستعيرون انتصارات مزيفة تجعل منهم سكينًا في يد الموت، ويظنون أن السعادة تكمن في موت الآخرين، لكنهم سرعان ما يدركون أنها سعادة عابرة يسببها الانتشاء بمشهد الدم. كان الرومان يطلقون صيحات الفرح لدى رؤية (العبد) مضرجًا بدمه إثر صراعه مع الأسود أو النمور أو مع (عبد) آخر، في مدرج احتفالي ما، لكنها سعادة تزول ما أن يعود المتفرجون إلى حياتهم العادية فيدركون البؤس الذي يعيشون فيه بعد انتهاء حفلة الترفيه الدموية.

يرى البعض أن جوهر السعادة يكمن في الفنون والإبداع، ويراه آخرون في الجمال، وآخرون في السفر، والبعض يراه في الجنس، وآخرون يرونه في الانغماس في ملذات الحياة، كثر أيضًا يعتقدون أن سر السعادة يكمن في التضحية والعطاء، فأن تعطي السعادة بكأس سترتد إليك بألف كأس، حسب نظرية الكارما، هناك من يرى السعادة في العزلة، وهناك من يراها في الصداقات العميقة، والبعض يعتقد أن السعادة الوحيدة الحقيقية هي هناك، حيث الفراغ والصمت، في الموت، فلا يتوانى عن الانتحار للوصول إليها، بعضهم أيضًا يرى أن الصحة هي السعادة، فلا وجود للفرح مع جسم عليل، العمل أيضًا يراه البعض جوهر السعادة، الاستقلالية وتحقق الذات، الحرية والحق أيضًا! كل ما سبق هو محاولات حثيثة لوصول الكائن البشري إلى السعادة، للحصول على مقدار ضئيل منها، إذ أننا نعيش لنسعد، هذا ما يجب أن يكون غاية الحياة أصلًا، لهذا نهرب جميعًا من الحزانى، نبتعد عنهم غريزيًا، نخشى من انتقال عدوى الحزن إلينا، رغم أننا لسنا سعداء أصلًا، لكنه ميلنا للسعادة ورغبتنا فيها تجعلنا ننفر من المرضى والمشوهين والفقراء والجوعى والمشردين والمكتئبين، هذا النفورالذي يظهرنا كعنصريين، هو بالحقيقة أغلبه خوف من عدوى الحزن أن تنتقل إلينا.

"عشت لأسعد"- ربما هذا ما يجب أن يكون عليه اختصار حياة البشر لو أن عدالة ما تحكم العالم، ذلك أن عبثية الحياة والموت تجعل من كل هدف خارج السعادة هو مجرد وهم وعبث مضاف، لكن العدل هو أحد السلالات الأخلاقية المنقرضة، فللحياة عواء مخيف، حاد وجارح، يجعل من السعادة المجردة حلمًا منقرضًا، لهذا نعيش ونحن نحاول أن نعثر عن بقايا لذلك الحلم، محظوظ ذلك الذي سيمسك جوهره بيده، أو من يجده في داخل قلبه، فجوهر السعادة يكمن في الوجدان الطفل الذي يملكه كل منا، لكننا نفقده كلما تقدمنا في العمر، إذ أننا محكومون بنهاية، تسلب منا جوهر السعادة وتجعلنا دائمي البحث عنه في ذات الوقت.