Print
أحمد الجندي

"الجنيزا اليهودية" في مصر.. ثروة علمية وفرصة أكاديمية كبيرة

28 مارس 2022
آراء

في بداية عملي معيدًا في جامعة القاهرة، وبحكم تخصصي في اللغة العبرية، شاركت في لجنة علمية كانت مكونة من عدد من المتخصصين في اللغة العبرية من جامعتي القاهرة وعين شمس؛ كان هذا تقريبًا في عام 1993، وكانت مهمة هذه اللجنة مراجعة محتويات ما يعرف بـ"جنيزا القاهرة". ولم تكن هذه الجنيزا في الحقيقة جنيزا القاهرة، بل كانت جنيزا مقابر اليهود في البساتين، لكن مراجعتنا لها كانت تجري في معبد ابن عزرا، الذي يقع ضمن مقابر اليهود في منطقة الفسطاط في مصر القديمة بين جامع عمرو بن العاص والكنيسة المعلقة عند محطة مترو مار جرجس.
كان اليهود خلال عصور طويلة معتادين على التخلص/ الاحتفاظ مما في أيديهم من أوراق لا يحتاجونها، وكانت عادتهم إلقاء هذه الأوراق من خلال فتحة تطل على غرفة مغلقة من جميع جوانبها باستثناء هذه الفتحة التي عادة ما تكون في أعلى جدار الغرفة.
كان دافع هذا التصرف متغيرًا؛ ففي بعض الأحيان يكون للحفاظ على مقتنياتهم حتى لا تقع في أيدي غير اليهود، وأحيانًا يكون الدافع الخشية من أن تتدنس هذه الأوراق، خاصة حينما يتعلق الأمر بنصوص دينية، أو كانت تتضمن اسم الرب، فيلقون بها في هذه الفتحة من أجل هذا الغرض، مثلما نفعل نحن عندما نحرق بعض الأوراق حين تحتوي على آية قرآنية، أو حديث نبوي.
المهم هنا أن الموضوع كثيرًا ما كان يخرج عن هذه الأغراض، فيلقون فيها أوراق حسابات شخصية، أو وثائق زواج قديمة، أو عقود بيع وشراء، أو أي شيء آخر. وعلى مدار السنوات، تمتلئ الغرفة هذه بشكل تام، وربما يقومون بسدها فتتحول مع الوقت إلى ذكرى، وسرعان ما يطويها النسيان.
وكانت هذه الغرفة تسمى جنيزا، من الفعل العبري جاناز، بمعنى حفظ، أو خزّن، فيكون معناها بذلك المخزن.
محتويات الجنيزا التي كنا نراجعها كانت في أغلبها نصوصًا عبرية، وأحيانًا آرامية، أو العربية المكتوبة بالخط العبري (التي تسمى اليهودية العربية)، وكانت محتوياتها تتنوع ما بين نصوص توراتية عبرية، أو مترجمة، أو عقود بيع وشراء وإيجار.. إلخ، أو كراسات مسطورة تتضمن حسابات بضائع مكتوبة بخط يدوي، وبأحبار ثابتة باللون الأزرق، أو الأحمر، أو ألوان أخرى، مما يشير إلى حداثتها، ونصوص رقيا دينية، وقصاصات ورقية، وأشياء أخرى متنوعة يمكن أن تكون ذات فائدة كبيرة بالطبع لدارسي مجالات مختلفة في التاريخ والاجتماع لمن أراد أن يتعرف على أوضاع اليهود الاقتصادية والاجتماعية والدينية وعاداتهم طبقًا للنصوص المكتشفة.
كانت الجنيزا التي كنا نراجع محتوياتها في ذلك الوقت حديثة جدًا، ولم تكن تمت بصلة للجنيزا القديمة (جنيزا القاهرة) ذات القيمة العلمية الكبيرة، والتي يرجح أنها كانت تعود للقرن التاسع الميلادي، ويقال إن اكتشافها كان عن طريق المصادفة بعد أن اصطدمت عربة خشبية (كارو) بجدارها، فأدى ذلك إلى كشف محتوياتها. وكان الاحتلال الإنكليزي لمصر حينها في سنواته الأولى، فبيعت بعض مكتشفات الجنيزا من وثائق إلى المهتمين بعلم الآثار، أو الدراسات اليهودية، في ذلك الوقت، ونقل أغلبها إلى جامعة كامبريدج. وهناك بدأ الاهتمام بها على يد سولومون شختر، الحاخام اليهودي المشهور في ذلك الوقت.





ما دفعني إلى الكتابة عن موضوع الجنيزا هو سلسلة التغريدات التي نشرها الصحافي الإسرائيلي، روعي كيس، يتحدث فيها عن أن الشهر الماضي شهد اكتشاف جنيزا جديدة داخل المقابر اليهودية القديمة في القاهرة. وطبقًا لكلام كيس، فإن عددًا من أعضاء هيئة الآثار المصرية "اقتحموا" المقبرة، وشرعوا في إفراغها في عشرات الجوالات (الأكياس)، رغم معارضة أفراد الجالية اليهودية في القاهرة، ومن دون إذنهم.
ويشير كيس إلى أن أعضاء الجالية اليهودية في القاهرة كانوا قد بدأوا في السنوات الأخيرة، وبالتنسيق مع السلطات المصرية، وبتمويل أميركي خاص وحكومي، بتنظيف ما تبقى من المقبرة اليهودية في القاهرة في منطقة البساتين وصيانتها، في ظل إهمال هذه المقابر على مدار عقود، وأنه خلال هذا المشروع تم رفع أطنان من القمامة، وأعيد بناء الجدار المحيط بالموقع.
وخلال الأسابيع الأخيرة، عثر أفراد الجالية اليهودية في القاهرة، ممن يعتنون بالمكان، على جنيزا جديدة في أحد أماكن الدفن تابعة لعائلة موصيري (وهي عائلة يهودية من أصول إيطالية هاجرت إلى مصر في القرن الثامن عشر، واستقرت في القاهرة، وكانت عائلة غنية ومؤثرة في الاقتصاد المصري، حيث كانت مهتمة بالاستثمار في قطاع الفنادق، وساهمت في تأسيس شركة فنادق مصر التي ضمت عددًا من أشهر فنادق مصر، كفندق كونتيننتال، ومينا هاوس، وسافوي، وسان ستيفانو، وغيرها، وكان للعائلة حوش كبير للدفن في مقابر اليهود في منطقة البساتين).

من كتب وبحوث الجنيزا اليهودية  في مصر


المعلومات التي أشار إليها كيس لا تحدد تاريخ الوثائق التي عثر عليها في هذه الجنيزا، وهل تعود إلى القرن الماضي، أو إلى قرون مضت، وإن كنت أرجح أن وثائقها تنتمي لأواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. ومن المعروف أن مثل هذه الوثائق تتعاظم قيمتها العلمية والثقافية حسب المرحلة التاريخية التي تنتمي إليها، وكلما كانت قديمة كلما نظر إليها المتخصصون باعتبارها كنزًا هائلًا.
ومن الواضح أن أفراد الجالية حاولوا منع أعضاء هيئة الآثار المصرية، وإقناعهم بوجوب وجود شخصية دينية ـ حاخام ـ يشرف على هذه العملية، لكن أعضاء هيئة الآثار لم يستجيبوا لذلك، وأخذوا محتويات الجنيزا معهم.
أفراد الجالية اليهودية في مصر لم يستسلموا، وقرروا التوجه إلى السفارة الأميركية في القاهرة لمعالجة الأمر، معربين عن قلقهم البالغ إزاء سلوك السلطات في مصر.
المصادر التي نقلت القصة للصحافي الإسرائيلي توقعت أن ما فعلته السلطات في مصر راجع لخشيتها من قيام الجالية بنقل محتويات الجنيزا من القاهرة، وتهريبها إلى الخارج، وهو ما تنفيه الجالية، وتقول إنها ترغب فقط في المشاركة في الكشف عن مقتنيات الجنيزا، خاصة وأنها تنتمي لليهود. يضاف إلى ذلك طبقًا لكلام هذه المصادر أن الطريقة التي تم بها أخذ محتويات الجنيزا طريقة غير مهنية يمكن أن تضر بمواد الجنيزا.




ويتعجب كيس من أن يحدث ذلك في ظل اللقاءات بين قيادات البلدين، وآخرها اللقاء الذي جمع معهما القيادة الإماراتية، إضافة إلى تدشين خط الرحلات بين مطار بن غوريون وشرم الشيخ، أخيرًا.
وإذا كان ثمة تعليق على كلام الصحافي الإسرائيلي، وما حدث، فإني أوجزه في الآتي من واقع خبرتي في موضوع الجنيزا، وتعاملنا مع موظفي هيئة الآثار في ذلك الوقت:
ـ ما فعله أعضاء هيئة الآثار المصرية بنقل محتويات الجنيزا المكتشفة، إذا صح ما جاء في هذه السلسلة من التغريدات، هو عين الصواب، من واقع التجربة الأولى التي شهدت سرقة أو بيع محتويات الجنيزا القديمة التي أشرت إليها ضمن هذا المقال، والتي منعت مصر من الاستفادة العلمية منها، أو تأسيس معهد علمي يكون له تأثير على مجال الدراسات اليهودية في العصر الوسيط.
ـ يغلب على ظني أن ما ذكره الصحافي عن تعامل أعضاء هيئة الآثار مع الجنيزا بشكل غير مهني يؤثر سلبًا على الوثائق المكتشفة صحيح؛ فمن واقع تجربتنا كان موظفو الهيئة يحضرون لنا وثائق الجنيزا التي علينا مراجعتها وهي في جوالات من القماش للأسف؛ ما يعني أنها كانت معرضة للتلف جراء الرطوبة والحشرات المختلفة، فضلًا عن الغبار بالطبع، ولا أظن ذلك قد تغير للأسف.
ـ كنا قد أحسسنا أثناء عملنا في الجنيزا تجاه بعض موظفي هيئة الآثار ـ للأسف ـ بالإهمال الشديد، وعدم الاهتمام، وأحيانًا عدم الأمانة في الحفاظ على هذه الثروة العلمية. وما أرجوه أن يكون هنالك ثمة اهتمام بما اكتشف من وثائق هذه المرة، والتعامل معها تعاملًا علميًا، من دون أن تقدم السلطات أي تنازلات تتعلق بثروة علمية هي ملك لمصر، وليس للطائفة اليهودية.




ـ ما فعلته الجالية اليهودية على الأغلب تم بالتنسيق مع السلطات الإسرائيلية، من أجل تدويل القضية، حتى يضغط المجتمع الدولي ومؤسساته على مصر لتنفيذ ما يريده أفراد الجالية في مصر، على أساس أن ما اكتشف قد يكون مرتبطًا بعائلات يهودية، وأنها لا تنتمي إلى الحكومة المصرية. لكن حقيقة عيش أبناء هذه الطائفة في مصر، وحملهم للجنسية المصرية، يجعل مسألة لجوئهم إلى السفارة الأميركية من أجل الضغط على مصر في هذه المسألة أمرًا مستهجنًا، ويؤكد ما ذكرناه سابقًا في موضع آخر عن اليهود من شعورهم الدائم بالعزلة وعدم الانتماء للبلدان التي يعيشون فيها.



*أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية ـ جامعة القاهرة.