Print
آمال مختار

حول مسلسل "براءة".. قدّم صورة سيئة عن المرأة التونسية

24 أبريل 2022
آراء

بحسب منطق "الترند"، أي الأكثر مشاهدة، يعدُّ مسلسل "براءة" (القصة والسيناريو والإخراج لرجل الأعمال التونسي، سامي الفهري) هو الأوّل في اقتناص اهتمام المتفرّج التونسي، بالرغم من توفر مسلسلات تونسية أخرى قد تفوقه من حيث الجودة الفنيّة والإبداعية في نظر النقاد المختصين في هذا المجال. وكان الفهري قد اقتحم عالم الإخراج التلفزي بلا دراسة ولا تجربة مهنية في العمل، كمساعد مخرج، مثلًا، وذلك منذ إخراجه لمسلسل "مكتوب" الذي امتد لأربعة مواسم رمضانية. وقد كتب سيناريو الجزء الأول السيناريست الطاهر الفازع، ثمّ لأسباب نجهلها تولى الفهري كتابة بقية الأجزاء الثلاثة مع الإخراج، وكان هذا العمل قد بث على القناة الوطنية الأولى في موسميه الأولين، أي في رمضان 2008، ورمضان 2009، بينما وقع بث الموسم الثالث في رمضان 2012، والجزء الرابع في رمضان 2014، على القناة الخاصة لسامي الفهري، التي كانت تحمل اسم "التونسية". منذ هذا العمل، توالت أعمال الفهري الدرامية التي يقدّمها في كلّ رمضان لتقسّم المجتمع التونسي في كل عمل إلى نصفين مختلفين، بل ومتعارضين في الرأي. أما ما حدث مع مسلسل" براءة"، الذي قُدّم موسمه الأوّل في هذا الشهر الكريم، والذي انتهي منذ يومين معلنًا عن موسم قادم، فهو إضافة إلى تقسيم المجتمع إلى نصفين متعارضين من حيث الرأي، صدم هذا المجتمع صدمة كبرى من حيث الطرح الذي قدّمه في ما يخصّ وضعية المرأة التي قدّمها في صورة سلبيّة للغاية ومختلفة عن المشهد العام للمرأة التونسية التي تميّزت دائمًا بوضعية المرأة المتعلمّة والذكية، والحرّة بالخصوص، بالرغم من بعض قوى الردّة التي ظهرت في بناء المجتمع التونسي في السنوات العشر الأخيرة.


بنية درامية مفككة

سامي الفهري 




يبدو أن قصة وسيناريو هذا العمل، التي كانت بإمضاء المخرج نفسه، كما جاء ذلك في الجينيريك الفني للمسلسل، كُتبت من منطلق عقلية "البوز"، التي يؤمن بها الفهري إيمانًا شديدًا، ويعدها الطريق الوحيدة للنجاح في زمن الوسائط الرقمية حسب ما يقوله الخط التحريري لقناته التلفزية.
ومن هذا المنطلق، تزاحمت كل القصص التي باتت تشكل ظواهر جديدة وغريبة على المجتمع التونسي في ذهن الفهري، فوضعها كلها في سلّة واحدة كمَن يضع البيض مع البطاطا، فخرجت للناس مدهوسة بلا ملامح ولا هويّة ولا هدف.
تزدحم الحكايا في هذا المسلسل مثل الركاب في حافلة في ساعة الذروة.
ينطلق المسلسل بحكاية يوسف، زوج مريم، الذي استشهد في عملية إرهابية في محاكاة للعملية الإرهابية التي حدثت في أحد الفنادق في مدينة سوسة الساحلية في صائفة 2015. وهنا أراد الفهري أن يطرح قضية الإرهاب، وتركها مفتوحة، وذهب إلى حكاية أخرى.
مريم زوجة يوسف تصاب بانهيار عصبي حاد بسبب موت زوجها، ما أدى بها إلى حد رؤية زوجها يوسف في كل رجل تراه، حتى أنّها تعرّضت للاغتصاب وهي الفاقدة لأهليتها من زوج صديقتها وجارتها. وهنا أراد الفهري أن يطرح قضية المرأة المريضة النفسية، التي تتعرّض للانتهاك من دون أن تجد من يقف إلى جانبها حقيقة، وليس زعمًا كما في حال صديقتها التي وقفت حائرة بين نفسها وخيانة زوجها لها وبين حق صديقتها المريضة، وبين طمس الحقيقة خوفًا على والد بنتيها من السجن.
الخط الثالث الموازي لكل هذه الحكايات هو حكاية الحاج ونّاس، والد مريم، الرجل المتدين والمقتدر الذي خطر له أن يتزوّج عرفيًا من المعينة المنزلية التي كان يعاملها في المشاهد الأولى من المسلسل مثل ابنته. هنا، أراد الفهري أن يطرح، ولأوّل مرّة في تونس، من خلال الدراما التلفزية هذه الظاهرة الغريبة عن المجتمع التونسي، التي بدأت في التسلّل إلى بنيته منذ عشر سنوات تقريبًا حتى باتت تابو جديد من تابوهات المجتمع، التي لا يسمح بالخوض فيها، خاصة أنّ قانون مجلّة الأحوال الشخصية التونسي يعاقب بالسجن كل من يتزوّج على زوجته الوحيدة من دون طلاقها.



الطرح الذي قدمه الفكري لم يكن في إطار تنبيه إلى الظاهرة لمعالجتها، بل إنّه قدّم الأمر على أنّه ممكن رغم مخالفته للقانون التونسي.
في خط آخر مفتوح على حكاية أخرى وقضية أخرى، جعل الفهري من الفتاة حنين، ابنة صديقة العائلة، موضوع بيع وشراء، إذ فكّرت زوجة الحاج ونّاس أن تزوجها لزوجها عرفيًا لتشتت طاقته بينها وبين الزوجة الثانية، ولتظل هي المسيطرة، فأقنعت صديقتها بذلك مقابل راحتهم المادية، وهنا يسحب الطمع والحاجة والد حنين إلى الموافقة.
فتظهر المرأة مرّة أخرى في وضعية سلبية. تزداد سوادًا عندما يكتشف أن الابن الصغير عاشق لها، ويريد الارتباط بها، وتقع المساومة وتنتهي البنت خطيبة إلى الشاب الذي سافر إلى فرنسا للدراسة مقابل مبلغ مالي تسلمه والدها.
في الأثناء، يقرّر الأب تزويج حنين إلى ابنه الأكبر طلال مقابل منحه المال لإقامة مشروع مقاولات صغير متعللًا بأن الفتاة غير المتعلّمة لا تليق بابنه النابغة، بل إنّها ستعطل مساره الدراسي. يعلم الابن ياسين، فيعود في زيارة خاطفة ليسلب لبّ حنين، ويختلي بها انتقامًا من أخيه، تاركًا الفتاة تتخبط في مشكلتها.
تعود حنين إلى طلال الأخ الأكبر لياسين، وتتزوج منه بعد أن تقوم برتق عذريتها.
وهنا طرح آخر مرتجل لظاهرة النفاق والكذب بين الأزواج الشباب، حيث يسمح الشاب لنفسه بالاستمتاع مع رفيقته، لكنّه عند الزواج يريد زوجة عذراء، ولأن المرأة غير قادرة على مواجهة زوجها بالحقيقة تبدأ حياتها معه بكذبة صغيرة في ظاهرها، لكنها تؤسس لعائلة لن تكون سليمة.
القضية المهمة الأخرى، التي طرحها الفهري من خلال كليشيه اجتماعي متمثل في الفتاة التي تسرع بالتحجب ما إن تحسّ بأنّها قد ارتكبت خطيئة. بل ويأخذها الإحساس بالذنب إلى الشيخ الإمام في الجامع لاستشارته من أجل توبة نصوحة.
هنا، أيضًا، تشكل ظاهرة استشارة الشيوخ في تونس مشهدًا غير مألوف، إذ تعودنا أن تذهب الضحية إلى مراكز التأهيل النفسي والاجتماعي للاستشارة، لأن دور المشايخ في تونس يقتصر على الإمامة في الصلاة وخطب الجمعة، وليس توزيع الفتاوى، بل للإرشاد الديني السمح.

عزّة السليماني 


القضية الأخيرة التي جاءت في زحمة هذه الحكايا والقضايا تمثّلت في ذهاب زوجة الحاج ونّاس مرارًا وتكرارًا إلى العرافة والدجال إيمانًا منها بقدرتهما على العلاج مقابل فشل الأطباء في معالجة مريم المريضة النفسية التي لم يتحسن حالها مع الطبيب النفسي كما تحسن حسب رأيها بعد أحجبة العرافة.




الحقيقة أن هذا الازدحام في طرح قضايا عدّة تشكل تابوهات في المجتمع جعل الفهري، وهو غير المختص في كتابة القصّة والسيناريو، يقدّم مجزرة لكل تلك القضايا الحساسة، وبدلًا من طرحها بأسلوب حرفي لإبراز مخاطرها على المجتمع، ولمناقشتها، طُرحت بأسلوب مفكك ومشوش بدا وكأنّه يدعو إلى ترسيخها وتثبيتها باعتبارها مستندة على الفتاوى الشرعية التي لم يكن وراءها في المسلسل أي مستشار أو مدقق من دكاترة العلوم الدينية في تونس، وما أكثرهم.


الإخراج
وكما كان السيناريو مفكّك البنية، وشخصياته تسبح في الفراغ، بلا حبكة فنيّة، ولا بناء نفسيًّا محكمًا، كانت زاوية الإخراج مرتبكة، فلا يفهم المتلقي رسالة المخرج إليه، وماذا أراد أن يبلّغ مشاهديه من خلال رؤيته التي تعود المخرجون قولها من خلال أعمالهم، ومن خلال الزاوية التي يختارونها لوضع قضية ما تحت أعينهم التي ترى ما لا يراه المتفرّج العادي. غير أنّ الفهري الذي ازدحمت رأسه بكل تلك القضايا الخطيرة لم تكن لديه للأسف الرؤية الواضحة والجلية لتقديم طرح جيّد ومفيد للمجتمع وللدراما. فكان التنقل بالكاميرا من صورة إلى أخرى، ومن مشهد إلى آخر، من دون تلك الحياكة الفنية، وذلك التقطيع المحكم للزمن السردي في العمل الذي كان مضحكًا، فكنت ترى مثلًا مشهد الفتاة حنين وهي تجلس مع خطيبها في المقهى سافرة، وتتحدث عن زواجهما، لتراها في المشهد الموالي تمامًا مرتدية للحجاب مخضبة اليدين بالحناء تجلي في المكان نفسه مع زوجها، ويتحدثان عن إنجاب الأطفال!
يقوم المسلسل، حسب الظاهر من السيناريو والعنوان "براءة" على حكاية الطفل إسلام (لماذا اسمه إسلام؟ ولماذا اسم والده يوسف؟ ولماذا اسم والدته مريم؟)، الذي يتحرّك في عالم الكبار، وهو الطفل ابن الأربع سنوات، لكن كلامه الذي يدل على عقليته يقول إنّه أكبر من سنّه بكثير، فكيف لطفل في مثل سنه أن يتشبث بالصلاة، ويتحدث في بعض الشؤون الدينية، وشؤون الكبار، وهو لم يختن إلا في منتصف العمل؟؟
يعتقد المتفرّج في بداية العمل أنّ هذا الطفل البريء سيشكّل العمود الفقري للمسلسل، كأن يرى المشاهد العالم من خلال رؤية الطفل، أو كأن نلاحظ عبر التقدم الزمني مدى تأثير تلك القضايا الكبرى التي حدثت أمامه في بنائه النفسي ابتداء من موت والده في الحادثة الإرهابية اغتيالًا بالرصاص، واعتباره شهيدًا لأنّه حاول إنقاذ سائحة من الموت.
لكنّ المتلقي طوال حلقات المسلسل ظلّ يراوح مكانه مع الطفل إسلام، الذي شاهدناه يرأف بكلب ويربيه، ويصحب جدّه الذي يسرق منه معلومات حول ابنته مريم أم إسلام.
وفي الأخير، نراه ينقذ الجنين (أخوه أو أخته) الذي ولدته مريم في ظروف صحية صعبة (لوحدها في المنزل)، ثمّ أخذته لتضعه في حاوية القمامة. وبعد أن تفرغ شاحنة البلدية الحاوية وتذهب في عمق الليل، يبرز من ورائها الطفل الصغير حاملًا الجنين!!
كيف أنقذه وهو الطفل الذي لا يقدر على أخذ الجنين من الحاوية التي تكبره بكثير؟! هل هناك من ساعده؟! ربّما، لكن الأكيد أنّ لا شيء مقنعًا في هذا العمل المترهل الذي لامس قضايا خطيرة تهمّ مجتمعنا التونسي ذا التركيبة المختلفة والمتأرجحة بين علمانية الغرب والشريعة التي ما زالت تحكم الشرق.
لامس مسلسل "براءة" هذه القضايا الخطيرة بأسلوب شوّه طرحها، فقدّم صورة سيّئة عن المرأة التونسية، من مغتصبة وهي في حالة غير طبيعية، إلى خادمة تقبل بالزواج العرفي الممنوع في القانون التونسي، إلى فتاة غير متعلمة تقدّم نفسها في لحظة ضعف، ثمّ تصلح "الخطأ" بكذبة رتق العذرية، إلى بنت يبيعها والدها لرجل كبير في السنّ مقابل امتلاكه للأرض التي كان يعمل فيها.
أين المرأة المثقفة، المتعلمة، الأستاذة والمحامية والدكتورة والصيدلانية والقاضية والموظفة؟ وكل الأرقام تؤكد أن  نسب النجاح في كل الميادين عند بنات تونس عالية جدًا.


أداء جيّد

ريم الرياحي 


في هذا الخضم من الارتجال، تميّز الأداء التمثيلي لأغلب الممثلين برغم ترهل البناء النفسي للشخصيات. وأرى شخصيًا أنّ خبرة الممثلين النجوم أنقذت العمل من الفشل الكلي. فالممثل فتحي الهداوي أضاف من خبرته إلى شخصية ونّاس، كما أضافت النجمة ريم الرياحي لشخصية زهرة، كذلك فعل البقية، مثل كوثر الباردي، وفتحي المسلماني، والممثلة وعارضة الأزياء العالمية، عزّة السليماني، في دور مريم.

فتحي الهداوي 


اعتمد الفهري أيضًا على مجموعة من نجمات الإنستغرام، مثل أحلام الفقيه، التي أدت دور الخادمة التي قبلت بالزواج العرفي، وفاطمة برتقيس، ونجلاء بن عبد الله، وياسين بن ڤمرة، ومحمد علي بن جمعة، وأميمة بن حفصية، وأمين الجبالي، وغيرهم، إلى جانب الطفل محمد عزيز زوبلي، الذي كشف على موهبة كبيرة نرجو لها النمو والتأطير في مناخ سليم.

هل يعني تصدر المسلسل مرتبة الأكثر مشاهدة النجاح؟




سؤال متداول بكثرة على منصات التواصل الاجتماعي حول هذا العمل المفكك فنيًا، والخالي من أولى درجات الدراما التلفزية وحبكتها، لكنّه ما فتئ يجني النسب الأعلى في المشاهدة على القناة التلفزية الخاصة لرجل الأعمال سامي الفهري، وهو نفسه مخرج العمل، وصاحب المنصة الاولى في تونس لمشاهدة الأعمال الدرامية الخاصة به، مثل "براءة"، و"فوندو".
ألهب هذا المسلسل النقاشات والخلافات والآراء على منصات التواصل الاجتماعي بين من يشتم، ومن يدافع، ومن يناقش، وأصدرت وزارة المرأة بيانًا نددت فيه بقضية الزواج العرفي الذي يخضع حسب مجلة الأحوال الشخصية في تونس إلى حكم سالب للحرية، كما طالبت الوزارة الجهات المسؤولة عن الإعلام السمعي البصري أن تؤدي دورها من دون المساس بحرية التعبير في الفن والثقافة، والتي يجب عليها هي الأخرى التحرّك والإبداع وفق القانون والميثاق الاجتماعي.
الأكيد أن كل ما أثير حول هذا المسلسل من قيل وقال وزوبعة في المجتمع التونسي لا يعني الفهري في شيء بقدر ما يعنيه أنّه نجح في أن يكون هو وحده نجم رمضان لهذه السنة بغض النظر عن الطريقة التي نجح فيها.