Print
رشا عمران

ناجون ولكن...

13 مايو 2022
آراء



تعرّف ويكيبيديا (الناجون) بأنهم أولئك الذين تمكنوا من العيش والاستمرار في الحياة بعد الهولوكوست ومحارق النازية والاضطهاد الذي مورس ضد اليهود ومناصريهم قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية على يد جيش هتلر وجيوش المحور في أوروبا وشمال أفريقيا، ويشمل التعريف أيضًا كل من فرّ إلى دول الحلفاء والدول المحايدة قبل الحرب وفي أثنائها، وكل الذين عانوا من اضطهاد جمعي من غير اليهود في ظل السلطة النازية والذين عاشوا منهم في معسكرات الاعتقال، وشمل التعريف أيضًا العديد من المجموعات التي عانت ومورس عليها عنف ما فترة الحرب العالمية الثانية. هكذا ظل مصطلح ناجون لفترة طويلة من الزمن مرتبطًا بمن لم يقتله جيش هتلر النازي ودول المحور. 

بعد 2011 عاد المصطلح ليظهر من جديد، حيث أطلقته مجموعة من السوريين على كل من استطاع النجاة من الهولوكوست السوري سواء بالفرار أو اللجوء إلى أي مكان خارج سورية، أو لمن نجا من الموت تحت التعذيب في المعتقلات السورية (لا ينطبق هذا المصطلح على من يعيشون حتى اللحظة في سورية حتى لو كانوا على قيد الحياة ولم يتعرضوا للاعتقال، ذلك أن الوضع المعيشي المزري وانتهاك الكرامات الذي يتعرض له من ظل في سورية يضع أصحابه تحت مصطلح ضحايا لا ناجين، ولا ينطبق على من يعيش في مخيمات الدول القريبة من سورية للأسباب ذاتها). كما ظهر المصطلح (ناجيات) لكل النساء العربيات اللاتي استطعن الحديث عن تجاربهن في التعنيف الجنسي والتحرش والاغتصاب وذلك بعد ظهور حملة Me Too العالمية التي دشنت لحملة الناجيات حول العالم. 

بهذا التعريف يمكن القول إن جميعنا نحن السوريين الذين نعيش خارج سوريا (ناجون) فعلًا، فالحفاظ على الحياة هو نجاة، ومثله القدرة على الحديث عن الانتهاكات الجنسية، لما في الحديث عن التعرض الجنسي للنساء من حساسية كبيرة في الكثير من المجتمعات حيث تضطر العديد من النساء للعيش مع تلك التجارب المؤلمة بصمت خشية تعرضهن لما هو أعنف عائليًا ومجتمعيًا، ما يجعل من الحديث عنها علنًا نجاة من الأذى النفسي المستمر بعد نجاة المعنفة أو المغتصبة من الأذى الجسدي. 

لكن ثمة ما ينقص في صورة النجاة التي تبدو علينا، نحن نجونا من الموت ومن الاعتقال ومن الذل هذا مؤكد، لكن هل نجونا من أثر كل ما حدث خلال العقد الماضي؟ وهل أصلًا نجونا من أثر الاستبداد الذي عشناه وتلقاه أبناؤنا منا خلال ما يتجاوز السبعين عامًا من عمر التاريخ السوري الحديث؟ هذا سؤال لا يبدو أنه مهم، خصوصًا مع الأحداث السورية المهولة خلال الشهر الماضي، مثل انكشاف ونشر فيديو مجزرة التضامن والذي أعاد السوريين إلى الدائرة القاتلة الأولى، ومثله مشهد الحشد السوري في انتظار المعتقلين الذين أفرج عنهم ضمن مرسوم (رئاسي) لمعرفة هل هذا الشخص المختفي أو ذاك ضمن المفرج عنهم أو يعرفه أحد المفرج عنهم، في مشهد مأساوي لا يمكن أن يرى إلا في بلاد القهر والذل التي تلقب بـ(سورية الأسد) أو ما يشبهها على ندرة ما يشبهها.

الحشد السوري في انتظار المعتقلين الذين أفرج عنهم ضمن مرسوم (رئاسي) (gettyimages)


وصلتني قبل مدة صور من معرض أقيم في دمشق القديمة كان نتاج ورشة لطلاب الفنون، تيمة المعرض هي طائر الحمام أو الستيتية التي تشتهر بها دمشق القديمة، أكثر ما لفت نظري من بين صور اللوحات لوحة تصور قفصًا كبيرًا مفتوحًا من الأعلى يطير منه عدد كبير من طيور الحمام الناجية من الحبس في القفص، لكن ثمة قفص صغير مربوط بإحدى قائمتي كل طير من الطيور الهاربة من القفص الكبير. أدهشتني اللوحة وأدهشني الخيال الذكي لصاحبها، وهو كما عرفت شاب في أوائل عشرينيته، عاش أكثر من نصف حياته في حرب عبثية ومجنونة وظالمة. خيل إليّ حين رأيت اللوحة أن الشاب ذاك يصف حالة السوريين الذين تمكنوا من الخروج من سورية بدون أي تعليق، وربما يمكن للوحة كهذه أن تكون أكثر دقة في التعبير عن مصطلح (ناجون) الذي أطلقه السوريون على من تمكن من النجاة من الهولوكوست السوري.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتحار هتلر وكبار مساعديه، بدأ اليهود الضحايا محاولة استعادة حيواتهم المفقودة بالاتكاء على مظلومية الاضطهاد المحقة، لكن المظلومية تحولت مع الوقت إلى ابتزاز متواصل وظلم واضطهاد لشعب آخر يوازي الظلم الذي تعرض له اليهود، تحول غالبية الناجين منهم إلى نازيين من نوع آخر، ذلك أن من نجا منهم والتحق بأرض الميعاد حمل معه أيديولوجية دينية أو طبقية أو قومية وحمل أيضًا أمراض المجتمع الذي كان يعيش فيه مضافة إلى الأمراض التي تنتج عن مظلومية تجد ما يغذيها كل يوم. 

ورغم أن السوريين الناجين من الهولوكوست السوري موزعون في كل العالم ولا وجود لأرض ميعاد تجمع تشتتهم، ولن يعودوا يومًا إلى سورية التي أرادها النظام وحلفاؤه مفيدة خالية من كل من صرخ ضد النظام يومًا، فإننا أيضًا خرجنا من محرقة سورية ونحن محملين بأيديولوجيات مختلفة: دينية ومذهبية ومناطقية وعشائرية وعائلية، وخرجنا مثقلين بكل إرث الاستبداد الطويل مضافًا إليه ظلم جريمة دولة ونظام ضد شعب كامل ومظلومية الإحساس بالتخلي وعدم الاكتراث. خرجنا بتحالفاتنا وبغائضنا ونمائمنا ومشاكلنا، خرجنا بعد أن استعدنا ذاكرتنا القديمة التي يبدو كما لو أنها اختفت في السنة الأولى للثورة وحلت محلها ذاكرة اتضح أنها مؤقته فيها الكثير من الود والمحبة والتسامح والاحتضان والمواطنة، كانت ذاكرة بحجم الحلم لكنها سقطت مع سقوطه لنعود إلى ما اعتدنا عليه سابقًا بوضوح أكثر ذلك أنه بات مدعما بمظلومية الاضطهاد. 

وإذا ما كان قد أتيح لليهود أن يمارسوا العنف المختزن في دواخلهم ويطلقوا أمراضهم ضد شعب آخر أعزل، فإننا نحن السوريين الناجين نفعل ذلك ضد أنفسنا، نضطهد ونعرف ونحارب ونكره بعضنا بعضًا ونتآمر على بعضنا البعض، وننكل بأنفسنا كما لو أننا كلنا جلادون وضحايا ولسنا جميعًا ناجين من مجرم واحد.

نحن ناجون بدنيًا من الموت، نستحق هذا اللقب بجدارة، لكن علينا أن نتوقف قليلًا عند مصطلح (ناجون) ذلك أننا لم ننج نفسيًا لا من أثر الاستبداد وأمراضه المجتمعية وتجذرها فينا ولا من أثر المظلومية التي تبنيناها كقضية لم نعرف كيف نستثمرها لصالح استعادة الحلم الذي فقدناه، بل حولناها إلى قضية تخلى العالم عنها لأننا جزأناها إلى مجموعة من القضايا الصغيرة حسب أيديولوجياتنا وأمراضنا المختلفة.