Print
باسم سليمان

مدننا الفاضلة والفاسدة.. تاريخ من الأحلام والكوابيس

22 يونيو 2022
آراء

 

لعبت فكرة اليوتوبيا دورين مهمّين في تاريخ الثقافة الإنسانية. وتكمن أهمية الدور الأول بأنّ البشرية قد تحدّرت من مجتمع مثالي أسطوري كانت تعيش فيه حياة هانئة، كجنة دلمون السومرية(1) والزمن الذهبي الإغريقي الذي ذكره الشاعر هسيودوس(2)، ولكن لأسباب أخلاقية وقدرية فقدت ذلك الزمان المثالي. أمّا الجدوى من الدور الثاني، فقد تجلّت في تطلعات الإنسان إلى إعادة خلق ذلك الزمن الذهبي عن طريق الفضيلة والقوانين، وبناء مدن مثالية متخيّلة تكون نواة صالحة تهتدي بموجبها الإنسانية إلى تجاوز الحروب والمجاعات والطمع والفساد الأخلاقي وحبّ المال.

لقد كانت تلك اليوتوبيات تحمل في طيّاتها من النوايا الجيدة الكثير، إضافة إلى الرغبات الصادقة التي كانت الدافع الأساسي الذي أمّن لمؤلفيها الطاقة والقدرة على تخيّل كل تفصيل في تلك المدن؛ بدءًا من التشريعات القانونية والاقتصادية، فالعلاقات المجتمعية والأسرية، وصولًا إلى حياة الفرد الخاصة وعلاقته بغيره. وقد ترتّبت على تلك التخيّلات سرديات أدبية كانت لها أهمية غير مباشرة، لكنّ فعالة في صيرورة الإنسانية عبر تاريخها. وهنا لنا أن نسأل قبل أن نعرض لأهم تلك اليوتوبيات: هل نجحت كمخيال أدبي بأن تضاهي دلمون وأزمنة هسيودوس الذهبية، أم يصح عليها قول أبو يزيد البسطامي: إنّ في الطاعات من الآفات، ما لا تحتاجون معه إلى أن تطلبوا المعاصي؟(3).

لقد وسم أفلاطون فكرنا وخيالنا، بحيث لا يمكن أن يتم تخيّل مدينة مثالية، إلا ونتذكّر مدينته الفاضلة (4) ومع ذلك كان توماس مور (1535-1478) هو الذي نحت كلمة يوتوبيا من الكلمتين الإغريقيتين: Ou وتعني: لا، وTopos وتعني: مكان. ومن خلال الجمع بين هاتين الكلمتين أنشأ كلمة Utopia التي تعني: اللامكان، وفي الوقت نفسه تعني: المثالي. هذا التعارض أكّده مور بعدة إشارات في كتابه: يوتوبيا (5) والتي لحظها د. أنجيل بطرس سمعان، مترجمه إلى العربية في مقدمته التي وضعها للكتاب، بأنّ مور لم يكتف بمعنى النفي للمكان في عنوان الكتاب، بل إنّه أطلق على الجزيرة التي قامت عليها مدينته اليوتوبية: اللامكان، كذلك عاصمة الجزيرة: أموروت، والتي تعني المدينة الشبحية، ونهرها: أنايدر ويعني النهر اللامائي. هذا النفي المتعمّد من قبل مور يأتي تفسيره في نهاية كتابه، بأنّ هكذا مدينة مثالية من المتعذّر تحقيقها، وإن كانت مرغوبة بشدّة. وعلى الرغم من تنويه مور، إلا أنّ اليوتوبيات قد أصبحت جسرًا للمطالبة بإصلاحات سياسية ودينية ومجتمعية واقتصادية وتربوية وأسرية، فليس غريبًا أن يقول أوسكار وايلد(6): "إنّ التقدم هو تحقيق المدينة الفاضلة".

إنّ التفكير بالمدينة الفاضلة عادة ما يحمل الكثير من المشاعر الإيجابية. وهذا يعود أولًا، إلى أمثلتها مع تلك الأساطير التي صوّرت بداية الإنسان على أنّه قد كان في فردوس لا يناله لا شقاء ولا ألم، قبل أن يسقط من عليائه إلى حضيض الواقع المرّ. والأمر الثاني هو الرغبة الصادقة التي اكتنفت الحالمين بتلك المدن، والذين سعوا فعليّا إلى تطبيقها كحال ليكورجوس، حاكم مدينة إسبارطة، والذي ذكره بلوتارك في تاريخه، على الرغم من أنّه لم يحسم الأمر بوجوده الفعلي في التاريخ. هذه الإسبارطة كانت المنافسة الفعلية لأثينا. ولنا أن نقول حيال هزيمة أثينا أمام إسبارطة، بأنّها كانت أحد الأسباب التي دفعت بأفلاطون لتصوّر مدينته الفاضلة، ناسجًا على منوال الأحكام والتنظيمات التي وضعها ليكورجوس؛ وهذه حال المهزوم مع سطوة المنتصر(7).

كان توماس مور (1535-1478) هو الذي نحت كلمة يوتوبيا من الكلمتين الإغريقيتين: Ou وتعني: لا، وTopos وتعني: مكان 



لقد أشار بلوتارك(8) في تاريخه إلى أنّ النظم القانونية والاقتصادية والاجتماعية التي أوجدها ليكورجوس قد دامت خمسة قرون، ولذلك سنناقش إسبارطة كمدينة يوتوبية قد تحقّقت على أرض اليونان استنادًا إلى مزاعم بلوتارك.

استولى ليكورجوس على حكم إسبارطة بانقلاب على حكّامها، مدعومًا بإحدى نبوءات كاهنات معبد دلفي. وعلى الفور شرع في تطبيق نظمه مستخدمًا القوة في قمع أيّة معارضة لنهجه. وبعد أن توطّد حكمه، عمل على توزيع الأراضي بين شعب إسبارطة، ولم يكن هذا العمل الذي من الممكن قراءته بنوايا حسنة هدفه إشباع البطون الفقيرة للعبيد الذين كانوا اليد العاملة في إسبارطة، بل كان هدفه إيقاف الغنى الفاحش، لأنّه يفسد نفوس الإسبارطيين الذين يجب أن يشغلوا أوقاتهم بالتدريبات الرياضية والعسكرية وتعليم الأطفال والتسلية. عمل ليكورجوس على منع تداول الذهب والفضة واقتناء سلع الرفاهية، وأن تسقف البيوت بالقرميد، أو أن يفرش البيت بأثاث ثمين، فالتقشف يجب أن يطال كل نواحي الحياة. ولأجل ذلك أصدر عملة معدنية حديدية، فتوقفت التجارة الخارجية إثر ذلك، حيث لا أحد من التجار الأجانب يقبل بأنّ تسدّد أثمان بضائعه بالحديد. وفرض رقابة شديدة على الخروج من إسبارطة، ورقابة أشد على الغرباء الداخلين إليها، كي لا يتأثر شعب إسبارطة بالأفكار الجديدة. ولكي تعمّ المشاركة، فرض أن يكون تناول الطعام في قاعات عامة، وأن تكون الثياب شبه موحّدة، والزواج هدفه إنجاب ذرية قوية مسقطًا محرمات الزواج المعهودة، فإن وجدت امرأة متزوجة، وكانت بنيتها قوية، فلا يجب أن يمانع زوجها من اضطجاع رجل آخر مع زوجته، لأنّ الهدف من هذا الإجراء هو إنجاب أطفال أصحاء. وكان على الإسبارطيين أن يحضروا مواليدهم الجدد أمام مجلس الشيوخ ليتم التأكّد من سلامتهم البدنية، وإن وجد المجلس فيهم مرضًا رماهم في أحد الكهوف، فمن لم تمنحه الطبيعة الصحة لا يحقّ له الحياة. وبالنسبة للتربية فلم يعهد للأسر بتنشئة أطفالها، وإنّما للمجالس، والغاية من كل إجراءات ليكورجوس، هو أن تكون إسبارطة جاهزة لأي حرب، وهي المنخرطة دومًا في حروب مع جيرانها.

إنّ التأمّل في هذا الملخص السريع يكشف بأنّ الفرد قد خسر شخصيته بالكامل لصالح مدينة إسبارطة. وهذا ما سنراه في أكثر اليوتوبيات التي سنذكرها لاحقًا، بل سنجد أنّ الأدب الديستوبي، أدب المدينة الفاسدة، سيناقش إجراءات شبيهة بالتي قام بها ليكورجوس وحولت الإنسان إلى مجرد آلة بلا روح، وكأنّنا أمام رواية جورج أورويل (1984).

لا يبتعد أفلاطون بمدينته الفاضلة كثيرًا عن ليكورجوس، إلا بألفاظ وحنكة الفيلسوف، لكن الفيلسوف لا يتورّع عن الكذب الأبيض حتى يقنع أهل مدينته - كأنّنا مع ميكافيلي بمقولته السياسية: الغاية تبرّر الوسيلة- بأنّ الإله قد خلقهم طبقات من ثلاثة معادن: الذهب، الفضة، النحاس. فأهل الذهب هم الفلاسفة الحكّام، وأهل الفضة هم الحراس، وطبقة النحاس تمثّل بقية الشعب من عمال وحرفيين وزرّاع، والذين لم يكلف أفلاطون نفسه عناء التفكير بشؤونهم، فقد حصر تفكيره بطبقة الحراس التي سينتقى منها الفلاسفة الحكّام، فيما الأكثرية الباقية تشكّل طبقة الحراس الموكل إليهم الدفاع عن المدينة الفاضلة وضبط أمنها، الذين لا يحقّ لهم تملك أي شيء، ولا تكوين أسر بالمعنى المتعارف عليها، فالزواج والإنجاب يجب أن يكون من أجل تحسين النسل، كما يفعل صاحب المزرعة مع حيواناته. ولأجل ذلك فرق أفلاطون بين الآباء والأمهات وأطفالهم، كي لا تتحكم بهم عواطفهم، أمّا من يولدون بإعاقات جسدية، فقد أبعدوا إلى مكان خفي. ولكي يتأكّد أفلاطون من السيطرة على سلوك حراس مدينته كان يجب استبعاد الشعراء والفنانين وحظر أنواع معينة من الموسيقى، فأفلاطون أول من وضع مانفيستو الرقابة على المصنّفات الفنية، إن جاز القول، لكن ألا يذكّرنا ذلك بالرواية الديستوبية "فهرنهايت 451" لراي برادبوري، التي يصور فيها نظامًا شموليّا يعمد إلى حرق الكتب بدرجة (451) فهرنهايت.  

لكي يتأكّد أفلاطون من السيطرة على سلوك حراس مدينته كان يجب استبعاد الشعراء والفنانين وحظر أنواع معينة من الموسيقى



لقد ساوى أفلاطون بين الذكور والإناث، كما فعل ليكورجوس، ومنع طبقة الحكام والحراس من التملّك مع تأمين حاجاتهم كاملة من قبل الطبقة النحاسية، وقد علّق أرسطو على ذلك بأنّ أفلاطون قد وجد بأسلوبه هذا دولتين في دولة واحدة؛ أصحاب المال في مواجهة أصحاب السلطة. ولا بدّ أن الحرب واقعة بالضرورة بينهما(9). وهذه المدينة الفاضلة حالها كحال إسبارطة، لا بدّ أن تنتهج أسلوبًا توسعيّا حربيّا. وفي كلتا المدينتين ذابت شخصية الفرد الخاصة في قطيع المثالية. لم يتوقّف أفلاطون كثيرًا عند مدينته الفاضلة، وخاصة في كتاب القوانين، حيث أصبحت رؤيته أكثر واقعية.

نستطيع أن نعتبر يوتوبيا أفلاطون وليكورجوس ومن بعدهما توماس مور المقياس التخييلي التي نسجت عليه المدن الفاضلة فيما بعد، حيث لم تتوقّف البشرية عن إنتاج الرؤى اليوتوبية. فقد كتب القديس أوغسطين: مدينة الله. كذلك فعل فرانسيس بيكون بتصوّره مدينة يقودها العلماء. وفي تراثنا العربي كتب الفارابي متأثرًا بأفلاطون مدينته الفاضلة برسالة عنونها: آراء أهل المدينة الفاضلة، ولربما أفضل إضافة للفارابي كانت محاولته التوفيق بين العقل والنقل وبين الفلسفة والدين في مدينته.

تغيّرت الأزمنة، ممّا اقتضى أن تتبدل الطروحات التي تبتغيها المدن الفاضلة، في بداية عصر التنوير والنهضة الأوروبية عن اليوتوبيات في الأزمنة السابقة. ونستطيع أن نشمل أهم المبادئ التي يجب أن تقوم عليها المدن؛ فمن الناحية الأخلاقية كانت الفضيلة بصبغتها المسيحية مضافًا إليها توفّر الخيرات المادية حتى يستطيع أهل تلك المدن العيش بسوية لائقة. ومن ناحية أخرى فقد نظر إلى العمل بكل احترام، مع القول بتحديد ساعات العمل. في حين كان العمل اليدوي والتقني في جمهورية أفلاطون محتقرًا(10). هذه الرؤى جاءت نتيجة لصعود النبلاء والملوك وتفسخ المجتمع الأوروبي، لذلك كتب مور وكامبانيلا وأندريا يوتوبياتهم التي كانت في الوقت نفسه نتاجًا لعصر النهضة وردّا عليه.

لقد رفض اليوتوبيون النزعة الفردية التي سادت عصر النهضة، بحيث جاءت تصوراتهم قامعة للفردية مع توحيد شكل المنازل والملابس والالتزام الصارم بالعمل، وغياب المظاهر الفنية والقضاء على الملكية الفردية، وإحلال الملكية الجماعية بدلًا منها، والتحكّم في بنية الأسرة. وهذا ما دعا الفيلسوف جان بودان إلى رفض الانغماس بهكذا تصورات وبناء جمهورية خيالية فاشلة وبدون فعالية، كتلك التي تخيّلها أفلاطون وتوماس مور مستشار إنكلترا (11).

لم يختلف القرن الثامن عشر في محتوى يوتوبياته، إلا أنّه ركّز على الحرية الدينية والجنسية. وفي القرن التاسع عشر ارتبطت اليوتوبيات بميلاد الحركة الاشتراكية، حيث يصعب التمييز بينها وبين الحركات التي تدور في فلك الإصلاح الاجتماعي، لكن الاشتراكية العلمية رأت في اليوتوبيا بأنّها مضادة للتفكير العلمي، فأصبحت كلمة يوتوبيا دلالة على التحقير والاستهجان. وقد ضم إنجلز إلى تلك اليوتوبيات المزدراة كل الخطط والمشروعات التي لا تعترف بتقسيم المجتمع إلى طبقات، ولا تقرّ بحتمية الصراع الطبقي والثورة المجتمعية. وشمل إنجلز في تصنيفه سان سيمون وفورييه بزمرة اليوتوبيين الحالمين بحجة أنّ هؤلاء لم يمثّلوا مصالح البروليتاريا، كما هو مفترض.

لم تختلف يوتوبيات بداية القرن العشرين عن سابقاتها، بأن تتصوّر المدينة الفاضلة على جزيرة معزولة، أو في باطن الأرض، وحتى في كوكب بعيد يقع قرب نجم الشعرى، يشبه كوكب الأرض، كما فعل هـ. ج ويلز. لقد ركزّت تلك اليوتوبيات على أنّ المكننة الصناعية ستؤمّن العصر الذهبي للبشر وذلك ابتداء من يوتوبيات القرن الثامن عشر، لكن مع نتائج الحربين العالميتين وسيطرة الأحزاب الشمولية وتغوّل الرأسمالية، تحوّل الحالمون بمجتمع مثالي إلى الديستوبيا/ المدينة الفاسدة، فالحلم لم يعد قادرًا على تخيّل مستقبل أفضل، بل أصبح كابوسًا يجب التحذير منه. لم تتخلّف النساء عن ركوب قاطرة السرد اليوتوبي، فقد كتبت مارجريت كافينديش روايتها: العالم المحترق عام 1666. وتتالت إسهامات النساء بهذا الأدب حيث ركّزن على المساواة بين الجنسين، وتخيّلن عالمًا اختفى فيه الذكور، كما في رواية ماري أي برادلي: عالم ميزورا: نبوءة (1881). وتتميز الروايات اليوتوبية النسوية بأنّها تصوّر عالمًا تحكمه النساء، وتتولى فيه مسؤولية الإنجاب (12) وكأنّنا أمام مملكة الأمازونيات التي حاربها هرقل. 
 

كتب راي برادبوري روايته "فهرنهايت 451" ردًا على سطوة وسائل الإعلام وانحسار الثقافة الحقّة المتمثّلة بالكتب التي كانت تحرق بدرجة 451 



الديستوبيا الابنة العاق لليوتوبيا

إنّ الرغبة في ضبط حياة البشر التي رأيناها بدءًا من يوتوبيا ليكورجوس وصولًا إلى يوتوبيات هـ، ج ويلز، لم تشفع لها النوايا الجيدة. وقد بدأنا نرى الإرهاصات في التحكّم وفق مستوى الآليات المتاحة عير الأزمنة، لكن مع التطور الكبير في العلم والمكننة الصناعية أصبح البشر كالعبيد في إسبارطة الذين كانوا يقتلون من دون شفقة. قدم جيرمي بنتام مشروعًا لبناء سجن نموذجي يدعى: بانوبتيكون والذي يعني: الذي يُرى منه كل شيء. وهكذا نرى كيف أنّ الروائي الروسي يفجيني زيمياتين أوجد للزجاج دورًا محوريّا في روايته: نحن. والمغزى من ذلك هو المراقبة الشاملة من قبل السلطات الحاكمة للأفراد. إنّ المراقبة الشاملة والتحكّم بالبشر هي جوهر روايات الديستوبيا، فنجد أنّ ألدوس هكسلي قد كتب روايته: عالم جديد شجاع، ردًا على أحلام هـ. ج ويلز الطفولية، فمع التقدّم العلمي أصبح بالإمكان تحديد حياة المرء بيولوجيا كما رأى ألدوس، حيث قسّم البشر إلى نوعين: ألفا وبيتا. لقد كانت روايته تهكمية وساخرة من الأنظمة الشمولية في زمنه، أمّا السعادة التي كانت أحد أهداف اليوتوبيا فأصبح التحصّل عليها بتناول مخدر السوما، وبذلك يغمز ألدوس من قناة مقولة ماركس: الدين أفيون الشعوب (13).

عملت روايات الديستوبيا (14) على تصوير المخاطر الناتجة عن نظم الحكم الشمولية وسيطرة وسائل الإنتاج وقمع الحرية والتنميط الذي يطال الأفراد بأخصّ خصوصياتهم عبر التحكّم السلوكي. كتب راي برادبوري روايته "فهرنهايت 451" ردًا على سطوة وسائل الإعلام وانحسار الثقافة الحقّة المتمثّلة بالكتب التي كانت تحرق بدرجة 451. ولم يتأخر جورج أورويل عن اللحاق بالنظرة الديستوبية للقرن العشرين والمستقبل، فكانت رؤيته ردًّا على الظروف القاسية في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت ظلال الفاشية تُرى في مدينة لندن إلى جانب نقده للحكم الشمولي الستاليني. وقد أشار أورويل إلى نقطة مهمة في القرن العشرين ألا وهي تزوير التاريخ وحيوات البشر عبر مكنة مخابراتية يحكمها الأخ الأكبر.

تنزع روايات الديستوبيا إلى تصوير مقاومة الفرد للأنظمة الشمولية السياسية والاقتصادية والدينية عبر حكاية فرد غير مدجّن وخاصة في روايات فيليب كيه ديك، ففي روايته "زمن الجنون"، يكتشف بطلها أنّه يعيش في حاضر مخيف وماض مزّيف، فيناضل لأجل الخلاص منه.

شملت نظرة الديستوبيات الكثير من القضايا العنصرية والجندرية والبيئية، ففي رواية الكاتب الأميركي من أصل أفريقي جورج سكايلر: نهاية الأسوَد، يسرد سكايلر بأنّ العلم قد اكتشف طريقة لتغيير لون الجلد، بحيث ينتهي التمييز بين الأعراق، ومع بدء العلاج يتفكّك المجتمع الأميركي وتعمّ الفوضى.

مارجريت أتوود

تصوّر لنا مارجريت أتوود في روايتها: حكاية خادمة (1985) عالمًا تحكمه دولة دينية متطرفة تقصر فيه دور النساء على أن يكن مجرد آلات إنجاب، حيث تناقش أتوود السيطرة على النساء ومعاملتهن كمجرد وسائل جنسية.

ولأنّ تحدّيّات القرن العشرين لا تنتهي، ومع تزايد المشاكل البيئية، كانت روايات اليوتوبيا والديستوبيا حاضرة لتصوّر مستقبلًا قد تمكّنا من حل مشاكلنا البيئية فيه، عبر الهرب إلى كواكب أخرى تفضح لنا النهاية الوخيمة التي آلت إليها الكرة الأرضية، ما دمنا سنظل على وتيرتنا المتسارعة في استغلال موارد الطبيعة. تم نحت مصطلح الإيكوتوبيا/ اليوتوبيا البيئية من قبل إرنست كالينباخ في روايته: إيكوتوبيا، وذلك في شكل مجموعة من التقارير كتبها صحافي عن منطقة معزولة استقلّت عن الولايات المتحدة الأميركية يعرض فيها كيف عادت تلك المنطقة إلى القيم الريفية والاستخدام الانتقائي للتكنولوجيا كي تتحقّق الاستدامة التامة للموارد البيئية. أمّا ستانلي روبنسون، فكتب عن استعمار المريخ، وكيف من الممكن تدارك الأخطاء البشرية التي لوثت الأرض.

لقد غطّت الرؤى اليوتوبية والديستوبية أكثرية المشاكل التي يحياها الإنسان. وقد ساهم الأدب العربي بالعديد من الرؤى اليوتوبية. فكتب فرانسيس مراش "غابة الحق" (1865)، وتبعه عبد الرحمن الكواكبي بكتابه "أم القرى"، ومن ثم يوسف إدريس بـ"جمهورية فرحات"، وسلامة موسى بـ"أحلام اليقظة"، ورواية "يوتوبيا" لأحمد خالد توفيق. عالجت الروايات العربية الحديثة مفهومي اليوتوبيا والديستوبيا وخاصة في مواجهة قمع الديكتاتوريات ومنع الحريات وأدب السجون. ونستطيع أن نعتبر أن ما كتبه المفكرون العرب والأدباء من بدايات القرن العشرين إلى الآن ليس بشمولية ما كتبه الغرب، لكنّهم قطعوا شوطًا لا بأس به.

لا ريب في أنّ المدينة كتجمع بشري مناقض للريف والقبيلة، سينتج طموحات مختلفة ومشاكل متباينة مع التنظيمات البشرية القديمة. فمع أشكال السلطة الجديدة من ملوك وأباطرة وديكتاتوريين وشركات عابرة للحدود، وحاجات اقتصادية عمادها التجارة والإنتاج الصناعي وبنى اجتماعية محورها الأسرة وخاصة الفرد، كانت المدينة حمّالة الرؤى اليوتوبية والديستوبية، فمن بابل التي بُلبلت بها الألسن، وإلى الآن ما زالت المدينة تلعب دورين: تارة كحلم يقظة جميل، وتارة أخرى ككابوس مديد.

المصادر والإحالات:

1- دلمون هي حضارة قديمة قامت في جزيرة البحرين وشرق الجزيرة العربية في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وعرفها السومريون بأرض الفردوس وأرض الخلود والحياة.

2- "الأعمال والأيام" هي قصيدة من حوالي 800 بيت للشاعر الإغريقي هسيودوس، وكتبها حوالي سنة 700.

3- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، الناشر دار الكتاب العربي- بيروت.

4- المحاورات الكاملة، أفلاطون، المجلد الأول: الجمهورية، نقلها إلى العربية شوقي داود تمراز- بيروت 1994.

5- يوتوبيا، توماس مور، ترجمة وتقديم، د. أنجيل بطرس سمعان، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987.

6- http://www.wilde-online.info/the-soul-of-man-under-socialism-page11.html 

7- المدينة الفاضلة في التاريخ، ماريا لويزا برنيري، عالم المعرفة، العدد 225 لعام 1997.

8- المصدر السابق.

9- المصدر السابق.

10- الأسطورة والفكر عند اليونان، جان بيار فرنان، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012.

11- المدينة الفاضلة في التاريخ، مصدر سابق.

12- الخيال العلمي، مقدمة قصيرة جدًا، ديفيد سيد، ترجمة نيفين عبد الرؤوف، إصدار مؤسسة الهنداوي- مصر 2016.

13- المدينة الفاضلة في التاريخ، مصدر سابق.

14- الخيال العلمي، مصدر سابق.