Print
فريد الزاهي

هل كانت الحداثة الفنية العربية سابقة على النهضة؟

5 يوليه 2022
آراء



دأب مؤرخو الثقافة العربية، في حديثهم عن النهضة الفكرية والأدبية في مجتمعاتنا الحديثة، على الإعلاء من شأن روادها من قبيل محمد عبده والأفغاني والكواكبي وقاسم أمين وغيرهم، وفي كلامهم عن الحداثة الثقافية دأبوا على ردها إلى المفكرين والكتاب والروائيين وأحيانًا إلى بعض الساسة؛ وكأن منتجات اللغة كانت لوحدها وراء التحولات الثقافية بالعالم العربي. والأدهى من ذلك أن الفنون البصرية عمومًا، من رسم وتصوير تشكيلي ونحت، تخضع في هذا التاريخ الثقافي، الذي يفصلنا عن بداياته ما يقل عن القرنين بقليل، إلى تعامل خاص وأحيانًا إلى تهميش مقصود، كما لو أنها مجال تبلور خارج التاريخ الثقافي العربي، أو كأنها خلفية باهتة منفصلة عن هذا التاريخ، لها مسار خاص لا يرتبط لا من قريب ولا من بعيد بما يمكن أن يشكل مصائر الإنسان العربي.

نهضة ثقافية وحداثة بصرية

لا غرو في أن النهضة الثقافية العربية قد ارتبطت بضرب من الإصلاح الديني وتحديث الفكر وانفتاحه باتجاه معطيات العالم المعاصر آنذاك. فقد كانت كتابات محمد عبده والكواكبي والأفغاني وقاسم أمين وغيرهم سعيًا حثيثًا لتحديث الإنسان العربي من خلال تشذيب تصوره للإسلام وللسياسة والديمقراطية ومناهضة الاستبداد كما من خلال الدعوة إلى تحرير المرأة. وكان للصحافة، التي مارسها الشيخ محمد عبده وغيره، دور كبير في ذلك. فلقد سُميت تلك الفترة بتحولاتها التوفيقية "نهضة" لأنها سعت بشكل أو بآخر إلى مجاوزة فترة تكلست فيها الثقافة العربية وضمُرت لغتها وصار الإسلام فيها عبارة عن قواعد صارمة لا مجال فيها للاجتهاد والتأويل. إنها مرحلة انبعاث يكمن أنموذجها في ماضيها وأفقها في حداثة ممكنة.

وليس من قبيل المصادفة أن يكون من بين عناصر التحرير والتحول ما كتبه بشكل صارم الشيخ محمد عبده عن زوال دواعي تحريم التصوير وبطلانها في وقته. فعندما زار أحد متاحف صقلية عام 1902 وقف بشكل عيني على ما تمكّنت منه الفنون الجميلة من التذكير بالشخصيات والأحداث. وبيّن أن منع التصوير كان مرتبطًا بالوثنية والإشراك، وهو أمر لم يعد واردًا بعد استتباب الإسلام في البلدان العربية وغيرها، ما يوجب إبطال ذلك، خاصة أن مصر ولبنان وبعض الدول العربية الأخرى كانت، في ذلك الوقت، قد عرفت ظهور فن التصوير وإنشاء مؤسسات ومحترفات تهتم بإشاعة ذلك.

بالمقابل إذا كان بعض الرحالة العرب والمغاربة قبل القرن العشرين قد افتتنوا بتقنيات البلدان الغربية، ومستوى حضارتها، وتقدمها العلمي والتقني والطبي، فإنهم بالمقابل لم يبدوا إلا انبهارًا ملتبسا أمام الفنون. فهذا رفاعة رافع الطهطاوي في رحلته الشهيرة يصف عوائد باريس، وقوانينها ومعمارها، لا يتحدث من بين الفنون إلا عن المسرح والرقص، وعن الفرجات التي تحتضنها المسارح. أما الفنون الأخرى من رسم وتشكيل ونحت وغيرها، فإنه يكتفي فقط بتعدادها. وهو يختلف في هذا عن الرحالة المغاربة الذين زاروا فرنسا وإنكلترا وإسبانيا بين القرن السابع عشر، الذين كانوا أكثر ذاتية واستنكارًا واستغرابًا وفتنة. فقد أجمعوا على استنكار لعبة المسرح والتمثيل، نظرًا لانبنائها على التنكر والتظاهر واختلاق العواطف، وبعضهم انبهر بالطابع المحاكاتي للمنحوتات في الساحات العمومية، حتى ليخالها الرائي حية.

من اليمين: قاسم أمين، محمد عبده، رفاعة رافع الطهطاوي، الكواكبي، الأفغاني



حين عاد الطهطاوي إلى مصر اهتم أكثر بمجالين في التحديث: الترجمة والصحافة. وكان اختياره ذاك أقرب إلى المفهوم العربي للنهضة المتمركز على اللغة والعلوم والتقنيات. أما الفنون الأخرى فقد كانت قد تعرضت للتحريم والتجريم خاصة منها الفنون الجميلة، من نحت وتصوير ورسم، بالرغم من بعض المنفلتات القليلة التي تجسدت في المنمنمات. وهو تاريخ له وطأته، ويصعب مجاوزته أو تغييره.

هذا ما يفسر في بلدان منكرة للتصوير كالمغرب والجزائر، أن ولادة التصوير العربي جاءت عبر المنمنمة والرسم المؤسلب في أوائل القرن الماضي، بالجزائر علي يد محمد راسم (1896-1975)، وبالمغرب على يد محمد بن علي الرباطي (1861-1939). بيد أن هذه الأسْلبة (القريبة من التصوير في المنمنمة) قد استوحت لدى الرباطي أساليب التصوير الغربي تقنيةً ومواد، لأنه تأثر بمعلمه الفنان الإنكليزي جون لافيري رسام بورتريهات البلاط البريطاني، كما استوحى محمد راسم تقنيات معلمه الفنان الفرنسي إتيان ديني. أما بلبنان الذي يتوفر على طوائف مسيحية متصلة دينيًا وثقافيًا بالغرب، فإن هذه الحداثة البصرية كانت أكثر جذرية، وانطلقت وقتًا طويلًا قبل أن يدعو محمد عبده إلى وقف تحريم التصوير.  

فجورج قرم (1852-1930)، الذي يمكن اعتباره ليس فقط رائد التصوير والفن التشكيلي العربي، وإنما أيضًا مصدر الحداثة البصرية، بدأ التصوير في سن مبكرة، وتلقى تكوينًا أكاديميًا بروما، قبل أن يمارس تصوير الطبيعة والشخصيات، كما المشاهد الدينية. وحبيب سرور (1860-1939)، عرف المسير نفسه، وتخصص في تصوير البورتريهات. وحتى لا نتحدث أيضًا عن صليبا الدويهي وجبران خليل جبران، نكاد نجزم بأن هذه الحداثة البصرية، التي ولدت بالتصوير التشكيلي المسندي، قد كانت بناء جديدًا للذات وللفرد. فالمصور المسيحي التقليدي الذي كان يرسم الأيقونات والمشاهد الدينية المسيحية، كان يُعتبر صانعًا، ولا يوقّع أعماله، مثله في ذلك مثل الفنان المسلم الذي يصوغ الزليج ويشكل الخط والزخرفة. أما مع الفنان الأكاديمي الحديث، كما مع الفنان العصامي الجديد، فإن ممارسة التصوير قد مارست القطيعة مع مسألتين مهمتين: تحريم التصوير (على الأقل بخصوص المسلمين)، ومجهولية مبدع العمل الفني وعدم التوقيع الاسمي.

إذا كانت النهضة العربية قد سعت إلى توسيع المجال الفكري لولادة الفرد، الذي يتمتع بهذا القدر أو بذاك بوجود سياسي واجتماعي، ضدًا على تقاليد استبدادية واتباعية واختزالية وجماعية قبلية، فإن الفنان التشكيلي كان يساهم في ولادة الفرد من خلال انبثاق الفنان الذي لا يغيب وراء عمله الفني، وإنما يغدو مالكًا له ومرجعًا أكيدًا لديمومته؛ كما من خلال تخليد صورة الفرد والشخصيات المعروفة ومنحها ذاكرة وانتشارًا وهوية شخصية إنسانية فردانية ومميزة.

جبران خليل جبران، جورج قرم، صليبا الدويهي



البورتريه ولادة للفرد ومدخل للحداثة

كانت المنمنمات (مثلها مثل الأيقونات قبل عصر النهضة الأوروبية)، بطابعها المؤسلب والعمومي، لا تهتم بالملامح الشخصية، وتتشابه فيها وجوه الشخصيات. فهي لم تكن تهدف إلى تصوير الشخص بدقة بقدر ما كانت ترمي إلى تشخيصه رمزيًا. وقد ظلت المرآة بشكلها المعدني القديم، ثم بشكلها الزجاجي الحديث، هي الوسيلة الوحيدة التي يرى بها الإنسان وجهه. فالوجه هو العضو البشري الوحيد الذي لا يراه صاحبه. والوجه (لغة) هو الصورة، أي موطن هوية الإنسان. وحين ظهر البورتريه ليأخذ مكان الأيقونة في الغرب، كان ذلك إعلانًا عن ولادة الذات والفرد والإنسان والفنان معًا.

من ثمّ، فإن ما كان يمارسه جورج قرم وحبيب سرور وصليبا الدويهي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كان "ثورة" موازية للنهضة العربية، غير أنها كانت ذات طابع حداثي لا نهضوي، وكانت أكثر جذرية وذات مدى أعمق لأنها ترتبط بولادة الفرد والهوية الفردية، فيما أن فكر عصر النهضة كان يفكر في الجموع والجماهير والشعوب. لهذا، لنا أن نزعم أن الحداثة البصرية العربية سابقة بشكل ما على النهضة العربية وعلى الحداثة العربية معا، تاريخا وإن لم يكن أثرها أكبر أو أوسع. فلقد كان جورج قرم (من مواليد 1852) معاصرًا لمحمد عبده (من مواليد 1849) والكواكبي (من مواليد 1855). ومع أن عصر النهضة بدأت تباشيره قبل ذلك بزمن فإن حركيته لم تتأكد إلا في أواخر القرن التاسع عشر، في وقت كانت فيه بورتريهات جورج قرم قد صارت شهيرة، إلى حد أن الطلبات توالت عليه، فسافر عام 1887 إلى الإسكندرية ليصور بريشته القادة الزعماء هناك وكذلك بعض الوجهاء. ثم دعاه الخديوي عباس الثاني سنة 1894 إلى مصر من جديد لإنجاز بورتريه له.

لقد منح الفنان الحديث للناس وجهًا لم يكن لهم من قبل، ويمكنه أن يخلد ذكرهم بصفاتهم لا برمزيتهم، في وقت لم تكن فيه الفوتوغرافيا قد انتشرت كثيرًا، ولم تكن الألوان تستعمل فيها بعد، ولا يمكن طبعها وإخراجها في أحجام متوسطة أو كبرى. فإذا كان الناس بالغرب قد تخلوا عن البورتريه الفني لصالح الصورة الشخصية الفوتوغرافية، فذلك لقدرتها على الاستنساخ ولأنها تحولت أيضًا إلى بطاقة للزيارة تستعمل في الأعياد والمناسبات. أما في العالم العربي فالفن الشخصي الذي يزاوج بين البورتريه والمناظر الطبيعية كان في ذلك الوقت ضربًا من الحظوة لا يمكن للفوتوغرافيا، التي بدأت تنتشر تدريجيًا، أن تنزله بسرعة من عليائه. بالموازاة مع ذلك، في المغرب مثلًا، كانت الفوتوغرافيا سباقة لمنح الناس وجوها. فقد مارس بعض الأجانب هذه التقنية في مدينة طنجة منذ أواخر القرن التاسع عشر. وأقاموا استوديوهات التصوير التي همّت أعيان المدينة والأجانب لتشمل كل شخص قادر على أداء ثمن الصورة. بل إن بعض هذه الاستوديوهات ستتخصص في التصوير الاستشراقي لنساء شبه عاريات كان أغلبهن من المومسات اليهوديات في ذلك الوقت المبكر. والحقيقة أن اليهود المغاربة في تلك الفترة كانوا أقرب للغرب وأكثر حداثة، وكانوا من أوائل من تبنى التصوير الفوتوغرافي. بل إن أحدهم كان أول من فتح استوديوها للتصوير في مدينة فاس، عام 1910، سنتين قبل دخول الاستعمار الفرنسي للمغرب.

لم يُكتب للبورتريه التشكيلي أن يستمر طويلًا كمانح للوجه والهوية لعرب عاشوا غياب التصوير (مسلمين ويهودًا) أو عاشوا في كنف أيقونات تتشابه ملامحها. فبعد أن كان البورتريه في المشرق حكرًا على الملوك والقادة والوجهاء والأعيان، استشرى التصوير الفوتوغرافي وأضحى يتغلغل في كافة الأوساط، من علّية المجتمع نحو سافلته. وكان أيضًا وسيلة للتأريخ والدعاية. فقد صدر كتاب مصور بالمغرب عام 1926 يوثق لزيارة رئيس الوزراء الفرنسي للبلاد. كما أن مؤرخ سلطان المغرب في الفترة نفسها سوف يهدي هذا الأخير بورتريهًا له وفي ظهره كتب أبياتًا تمدح رسم (صورة) الملك وقدرتها على تخليد وجهه. وبعد أن بدأت الصحافة تستخدم الصور، بدأ الكتّاب أنفسهم منذ عشرينيات القرن الماضي يثبتون في الصفحة الموالية للغلاف صورة لهم ويكتبون شعرًا عنها مادحين قدرتها على تخليد رسم (صورة) الشخص. 

لقد كان البورتريه التشكيلي، وبعده بفترة قصيرة البورتريه الفوتوغرافي، دخولًا للإنسان العربي إلى زمن هويته الشخصية، التي تمكنه من التوق إلى الفردانية في مجتمعات كانت تنبني على الجمعانية الدينية والقبلية والعائلية. وكان ظهور البورتريه المطابق للشخص (لا البورتريه الأيقوني المؤسلب) علامة على ولادة الفنان المستقل عن صانع الصور. كما أن البورتريه الفوتوغرافي سمح لأصحابه بالوجود فرديًا خارج مجهوليتهم، لأن وجههم علامة على وجودهم المستقل وعلى فردانيتهم. لقد كانت صورة الوجه (ولو كان البورتريه كاملًا) مدخلًا لفردانية الذات وولادتها في مجتمع ينبني على الجمعانية. ومعلوم أن الحداثة بمفهومها الأبسط تنبني على مفهوم الفرد الواعي بذاته وبكينونته الفريدة المميزة. كما أن التنوير أيضًا لا يمكن أن يقوم إلا على وجود الأنا، تلك التي تملك اسمًا ووجهًا ومن ثم وعيًا بوجودها الفرداني. ومهما وسمنا حداثتنا بالمعطوبة أو غير المكتملة أو المبتورة فإن الصورة لا زالت إلى حد اليوم تؤكد هوية الفرد وفردانيته، في البورتريه كما في السيلفي، إلى حد يجعلنا نزعم أن وفرة صورة الوجه قد أفقدت الإنسان المعاصر وجهه الأصل ومنحته وجوهًا كثيرة، وجعلت فرديته هوية سائلة.