Print
أحمد الجندي

عن "عيد البوريم": أسطورةٌ في خدمة السياسة

19 فبراير 2023
آراء

يحتفل الإسرائيليون سنويًا بما يعرف بـ"عيد البوريم"، أو ما يسمى بعيد المساخر في الترجمات العربية، في يومي الرابع عشر والخامس عشر من شهر مارس/ آذار العبري، والذي يوافق يومي السابع والثامن من شهر مارس/ آذار الميلادي هذا العام 2023، أو في يومي الرابع عشر والخامس عشر من شهر مارس/ آذار الثاني، إذا كانت السنة العبرية كبيسةً، مثلما كان الوضع في العام الماضي.
يعود سبب الاختلاف في موعد الاحتفال بهذا العيد إلى طبيعة السنة العبرية؛ فالسنة العبرية تتبع التقويم القمري. ولما كانت السنة القمرية أقلّ في عدد أيامها من السنة الشمسيّة، فإن اليهود يضيفون شهرًا زائدًا "نسيء" على السنة العبرية، يكون بين شهري فبراير/ شباط ومارس/ آذار، ويسمى آذار الأول، ويحدث هذا كل ثلاثة أعوام، حتى يتعادل التقويم العبري القمري مع التقويم الشمسي. ونتيجة لذلك أصبحت لدينا سنة عبرية بسيطة تتكون من اثني عشر شهرًا فقط (تحتوي شهر آذار واحد)، وسنة عبرية كبيسة تتكون من ثلاثة عشر شهرًا (تحتوي على شهري آذار الأول، وهو الشهر المضاف، وآذار الثاني، وهو آذار فقط في السنة البسيطة).
ونتيجة تكرار شهر آذار في السنوات الكبيسة يتكرر الاحتفال بـ"عيد البوريم" مرتين في السنة نفسها؛ إحداهما تبدأ في الرابع عشر من آذار الأول (ويسمى البوريم الصغير)، والمرة الثانية، وهي العيد الرئيسي، تكون في الرابع عشر من شهر آذار الثاني.
يربط التقليد اليهودي الاحتفال بـ"عيد البوريم" بقصّةٍ من عالم الخيال، تمّ خلقها من كاتب يهودي قديم، وضمّها علماء اليهود في ما بعد إلى أسفار العهد القديم، وأصبحَت أحد الأسفار المعتمدة. السفر حمل اسم بطلته الأسطورية إستير، ويحكي عن خلاص اليهود من مكائد هامان، وزير الملك الفارسي أحشويروش (حكمَ بلاد فارس في الفترة ما بين 486 ـ 465 ق.م.)، وربما كان اسم الملك فقط هو الشيء الوحيد الذي يحمل قيمة تاريخيّة في القصة.

إسرائيليون يحتفلون بعيد المساخر بأزياء تنكرية في القدس المحتلة (26/ 2/ 2021/فرانس برس)


تبدأ القصّة بقرار أحشويروش الملك باختيار امرأة بديلة له عوضًا عن زوجته، وشتي، التي لم تطع أوامره. وتحكي القصة على طريقة قصة سندريلا، كيف أصبحت إستير اليهودية زوجةً للملك أحشويروش، كما يشير الاقتباس التالي: "فقال غلمان الملك الذين يخدمونه: ليطلب للملك فتيات عذارى حسنات المنظر، وليوكل الملك وكلاءً في كل بلاد مملكته، ليجمعوا كل الفتيات العذارى حسنات المنظر. والفتاة التي تحسن في عيني الملك فلتملك مكان وشتي".




يسمع مردخاي اليهودي، وهو أحد الشخصيات الثلاث الرئيسيّة في القصة، عامل القصر البسيط بالأمر، فيقرر أن يدفع بإستير ابنة عمه، والتي كانت تحت رعايته، إلى المنافسة، ويوصيها بإخفاء هويّتها اليهوديّة، فتفوز إستير، ليس بالمسابقة فحسب، بل بقلب الملك أيضًا. ثم تزداد مكانتها عنده حينما تكشفُ له عن مؤامرة بعض عمّال القصر لاغتياله بناءً على معلومات نقلها لها مردخاي.
تحكي القصة لاحقًا أن هامان، وزير الملك، أراد قتل مردخاي وشعبه اليهودي، وأنّه حصل على موافقة الملك، وكتب أمرًا لكل ولاة البلاد مختومًا بختم أحشويروش بقتل كل يهودي. وحينما يعلم مردخاي، يغتمّ ويُطِلع إستير، فتتحايل على الملك الذي يعدها بأن يرضيها، ولو بإعطائها نصف ملكه. في هذه اللحظة تكشف إستير للملك عن أنّها يهودية، وأنّها تريد رأس هامان لرغبته في قتل شعبها، فيقرّر الملك صلب هامان على النصب ذاته الذي أقامه لصلب مردخاي. ويعطي الملك إذنه بأن ينتقم اليهود من كل أعدائهم، حتى الأطفال والنساء، ليتحول يوم التخلص من اليهود إلى يوم خلاص لهم. وبدت الصورة وكأن اليهود قد تحكموا في كل المملكة، بما في ذلك الملك نفسه.
لم تكتف إستير بقتل أبناء هامان العشرة، وخمسمئة رجل، بل طالبت بمزيد من القتل حتى وصل عدد القتلى في هذا الانتقام غير المبرر إلى خمسة وسبعين ألفًا في يوم الثالث عشر من شهر آذار، وقرر اليهود الاستراحة والاحتفال في يومي الرابع عشر والخامس عشر.
تكشف القصة السابقة، وهي نسخةٌ مختصرة من القصة الكاملة بالطبع، عن كم كبير من المفارقات، فالملك الذي أراد تكريم مردخاي، وجه سؤالًا لوزيره هامان عن كيفيّة تكريم من خدم الملك بإخلاص. كان هامان يجيب عن سؤال الملك ظنًا أن أحشويروش يريد تكريمه هو. لكن السخرية أنه كان يخبره عن طريقة تكريم عدوه مردخاي. وقد تعرض هامان وعائلته للهلاك على يد اليهود، بعدما كان يريد قتلهم جميعًا. وكان الموعد الذي حدده لإهلاكهم هو موعد هلاكه هو، بل وعلى النصب ذاته الذي أعده لصلب مردخاي. ووقعت ثروته بيد اليهود بعد أن كان يخطط للاستيلاء على ثرواتهم. والخاتم الذي كان الملك قد أعطاه له عاد وأعطاه لمردخاي بعد أن صلب هامان. كل هذه المفارقات تبدو وكأنها تجسدت في عصرنا الحديث في الفكر الصهيوني. وكما كانت هذه المفارقات شكلًا من أشكال الانتقام من عدوّ اليهود الخياليّ القديم، فإنها تظلّ صالحةً للتطبيق، إذا ما تمكَّن اليهود المشبعون بتلك الروح الصهيونية الانتقاميّة من أعدائهم، أو حين تصبح لديهم القدرة على الانتقام.
تسمية العيد بالبوريم تربطه القصّة نفسها بالكلمة الفارسية "پور أو فور"، وتعني القُرعة، ويقصد بها القرعة التي أجراها هامان ليحدّد مصير اليهود، وهي التي سيستخدمها كاتب السفر المجهول، في مفارقة ساخرة أخرى، بعد عبرنتها بأداة الجمع العبرية لتصبح اسمًا لهذا العيد "بوريم"، وهي ذات علاقة بكلمة "پاره" الفارسية، بمعنى قسم، أو جزء(1)، وإن كانت تفسيرات أخرى قد ربطت الكلمة بوريم بالكلمة الأكدية puru بمعنى المصير(2)، وهي ليست بعيدة في معناها على أية حال عن المعنى الفارسي المذكور، على أساس أن القرعة التي قام بها هامان كان من المفترض أن تحدّد مصير اليهود.
الربط الذي حكته القصة بين اسم العيد والقرعة التي أجراها هامان كان أحد الأسباب التي دفعت العلماء إلى الاعتقاد بأن أصل هذا العيد احتفالٌ وثني، والقول بأنّه منقولٌ عن أحد الشعوب الوثنيّة القديمة. وقد تعددت الآراء في ذلك؛ أحدها ربط بين "عيد البوريم" وأحد الأعياد الفارسية القديمة التي كان الفرس يحتفلون بها بعد تمكنهم من التخلص من المجوس الذين تولوا حكم بلاد فارس بعد موت الملك قمبيز الذي حكم في الفترة ما بين 530 ـ 522 ق.م. فبين هذا الاحتفال الفارسي الذي ذكره هيرودوت، و"عيد البوريم"، بعض وجوه التشابه القليلة، خصوصًا من ناحية أنَّ الاحتفال جاء بعد مذبحة.
رأي آخر أشار إلى أن "البوريم" هو عيد هيلينستي كان اليونانيون يحتفلون به عند فتح زجاجات الخمور الجديدة، ويقابله عند الرومان عيدٌ كان يسمى فيناليا. ويقال بأنّ اليهود ربما بدأوا نقله إلى تراثهم في الثلث الأخير من القرن الثالث قبل الميلاد، وكان عيد فرحٍ وتبادلٍ للهدايا، مثله في ذلك مثل "البوريم".

يهود يقرأون بمناسبة "عيد البوريم" في فندق بمارينا دبي في الإمارات العربية المتحدة (25/ 2/ 2021/Getty) 


ثمة فرضيَّة أخرى حاولت تقريب أسماء أبطال القصة الواردة في سفر إستير وأسماء آلهة بابل القديمة؛ وهذه الفرضية تقول بأن سفر إستير يعرض لنا قصة انتصار آلهة بابل مردوخ وعشتار على آلهة عيلام. ومَنْ ربطوا بين القصتَيْن قاموا بذلك على أساس المقاربة الواضحة بين اسمي إلهَيْ بابل، مردوخ وعشتار، واسمي بطَلَيْ القصة اليهوديَيْن، مردخاي وإستير، وبالتالي افترضوا أصلًا بابليًّا لهذا العيد.
هذه الفرضيّات كلها مجرد نظريّات، لا يملك أحد القدرة على إعطاء احتمالية تصديق أحدها على الأخرى. لكنها رغم ذلك تعكس توجّهًا يكاد يصل إلى درجة اليقين بأن حكاية إستير كلها ما هي إلا أسطورة أنتِجَت لغرضٍ ما يخدم أهدافًا سياسيّة، وأن العيد يتضمن أشكال احتفال وثنية من دون أن يُعْلَم مصدرها، أو خلفيتها، أو حتى زمنها، وأن هذا العيد ليس عيدًا دينيًا على الإطلاق.




ثمة أدلةٌ واضحةٌ على أن "البوريم" ليس عيدًا دينيًا، فالقصة في سفر إستير تخلو تمامًا من ذكر اسم الرب، كما أن الاحتفال بالعيد يخلو كذلك من أي طقوس دينية، فلا ذكر لقرابين أو صلوات، باستثناء ما اعتاد عليه البعض من قراءة سفر إستير في هذا العيد. وإذا أضفنا إلى ذلك الممارسات التي ارتبط العيد بها، فإننا نصبح أمام عيد يختلف تمامًا عن طبيعة الأعياد اليهودية الأخرى.
لقد اعتاد اليهود في احتفالهم بهذا العيد ممارسة أمور عاديّة يمكن أن تتكرّر في الأعياد عامة، كتبادل الهدايا، وتناول بعض أنواع المعجنات التي يأخذ بعضها شكل المثلثات، وتحشى ببذور الخشخاش، أو حشوات أخرى، وتسمى هذه المعجنات "آذان هامان". لكنهم أيضًا يقومون بأفعال غريبة، كالإسراف في شرب الخمر إلى درجة الثمالة؛ بحيث لا يميز اليهود في ظل حالة السكر الشديد بين جملتي "ملعون هامان"، و"مبارك مردخاي"، حسبما يوصي التلمود. يضاف لذلك لبس الأقنعة والملابس التنكرية التي ربما أصبحت جزءًا من هذا الاحتفال في العصر الوسيط بتأثير من الاحتفالات الكارنفاليّة في إيطاليا، ثم انتقلت بعدها إلى أوروبا، وأضيف إليها طقس احتفالي آخر يتم فيه حرق دمية تمثل الوزير هامان(3)، وإمعانًا في إذلال اسم هامان، وكي لا يبقى لاسمه ذكر على الإطلاق، اعتاد اليهود عند قراءة سفر إستير في العيد أن يصيحوا بصوتٍ عال كلما جاء موضع ذكر اسمه، فلا يسمع حينها إلا ضوضاء، فكأنما حلت عليه اللعنة حيًّا وميّتًا.
بالنظر إلى الأفعال السابقة، وإلى كم المفارقات الساخرة في القصة، يحتارُ المرء: هل جاءت التسمية العربية للعيد بالمساخر، وهي الترجمة التي يستخدمها أيضًا موقع الخارجية الإسرائيليّة، من هذه الأفعال الغريبة في العيد، أم لتذكرنا بسخرية الأقدار المتكررة في القصة؟
إذا أتينا إلى القصة نفسها، ومدى أصالتها ومصداقيتها التاريخية، فإننا في إزاء عمل يبدو وكأنه يطل علينا من عالم الخيال، ليس فيه أي شيء تاريخي على الإطلاق سوى اسم الملك الفارسي، والذي يبدو غريبًا داخل هذا العمل، وكأنّه قد أقحِمَ داخل القصة فقط، ليعطي انطباعًا بأننا أمام عمل تاريخي، والأمر ليس كذلك بالطبع. لا تذكر المصادر الفارسية أي تفاصيل مشابهة لما جاء في القصة يجعلها محتملة التصديق. كما لا يرد اسم إستير، ولا اسم قريبها مردخاي، في هذه المصادر، كل ذلك دفع للقول بأننا أمام عمل فولكلوري محض، تصح مقارنته بقصص "ألف ليلة وليلة"، لما بينهما من نقاط تشابه مثلما يقول بعض باحثي العهد القديم(4).
ليس ذلك فحسب، بل إن سفر إستير الذي يحكي القصة ظل محل خلاف كبير بين اليهود أنفسهم، حول إمكانيَّة ضمّه إلى أسفارهم المقدسة أم لا. وخلال قرون طويلة، كان علماء التلمود يرفضون اعتباره واحدًا من أسفارهم المقدسة. يضاف إلى ذلك أن كثيرًا من القوائم المسيحية التي تحصي أسفار العهد القديم تخلو من ذكر سفر إستير(5).
ولو وضعنا في الاعتبار أيضًا خلو الاحتفال بالعيد من أي ملمح ديني، فسوف يتبين أن أهمية العيد سياسية بحتة. ولعل ذلك ما دفع عددًا كبيرًا من المتخصصين في دراسة العهد القديم للقول بأن كاتب السفر لا يحكي في الحقيقة عن أوضاع اليهود في العصر الفارسي، وإنما قصد أن يعكس حالة العداء الكبير بين اليهود بقيادة أسرة المكابيين اليهودية، واليونانيين في القرن الثاني قبل الميلاد، وأنه ربما وظّف العصر الفارسي لعدم قدرته على التصريح باليونانيين كعدو حقيقي، وذلك على أساس أن أول ذكر للسفر يعود إلى هذه الفترة. أي أن السفر ربما كتب من أجل تصوير الوضع السياسي، وربما لهذا السبب أيضًا سيحظى السفر لاحقًا بدرجة كبيرة من الأهمية عند الحركة الصهيونية بسبب خلفيته السياسية، حتى وإن كانت من خيال المؤلف.
ولو عدنا إلى موقع وزارة الخارجية الإسرائيليّة، سنجد هذا الحس السياسي بهذا العيد بارزًا، حتى أن الموقع أسقط مصطلح معاداة السامية على ما كان هامان يخطط له قبل أن ينشأ المصطلح بآلاف السنين. يقول الموقع: "وعلى مر السنين، أصبح عيد المساخر، والذي يحتفل فيه بذكرى خلاص اليهود، وإفشال مؤامرة الإبادة لهامان، رمزًا لانتصار الشعب اليهودي على حكم طغيان لا سامي"(6).
إن قصة "البوريم"، كلّها على ما يبدو، جاءت من أجل إشعار اليهود في كل مكان أنهم في خطر داهم ودائم، بلا جريرة يرتكبونها باستثناء كونهم مختلفين، وأنّ تخلّصهم من هذا الخطر يرتبط عند الضعف بالحيلة والمكر والخداع، ثم الانتقام من أعدائهم ومن نسل أعدائهم، وإن كانوا أبرياء، إذا ما أصبحوا في موضع قوة. وإذا تتبعنا خط الصهيونية منذ نشأتها حتى وقتنا الحالي، فسوف نجد تشابها كبيرًا بين الصهيونية المعاصرة، وتلك الصهيونية القديمة التي جسدتها تلك الحكاية التي لا تنتمي إلى عالم الحقيقة.


هوامش:

[1]  - w. Gesenius: Hebrew and English Lexicon of the Old Testament. p. 839 – 840.
[2] - אנצקלופדיה מקראית (موسوعة المقرا العبرية): الجزء السادس، ص. 447.
[3]  - G. W. Macrae: "Purim, Feast of". The New Catholic Encyclopedia Vol. 11, P. 834 – 836.
[4]  - E. Bickerman: Four Strange Books of the Bible. Shocken 1967. P. 171 – 240.
[5]  - T. Longman & R. B. Dillard: An Introduction to the Old Testament. p. 213.
[6] - موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية
https://mfa.gov.il/mfaar/informationaboutisrael/thejewishreligion/jewishholidays/pages/purim.aspx