Print
إسكندر حبش

جون دوس باسوس: مانهاتن التي تلتهم أبناءها

3 أغسطس 2023
آراء

(1)

أعتقد أن قسمًا من أبناء جيلي ومن دون شك، قسمًا كبيرًا من الأجيال التي سبقتنا، قد قرأت (بلغة إنكليزية أو فرنسية) ثلاثية الروائي الأميركي جون دوس باسوس USA كما روايته "تحويلة مانهاتن" التي عرف من خلالهما – كما عبر أعمال أخرى – شهرة كبيرة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين الماضي. كنّا قرأناه، حين وجدنا أن جان بول سارتر اعتبره أعظم كاتب أميركي (في مقالة له بمجلة NRF يعود تاريخها إلى عام 1938... في الواقع قرأنا مقالة سارتر هذه في أحد أجزاء كتابه "مواقف" الذي استعاد فيه جملة من كتاباته الصحافية السابقة). كنّا في بداية الثمانينيات لا نزال ننظر إلى ما كتبه سارتر، بكونه المثقف الشهير والحاضر في نضالات اليسار، والفيلسوف، إذ لم يكن قد مضى على وفاته سوى أشهر قليلة جدا، أي لم يكن قد سقط بعد في النسيان، ولم تسقط الكثير من مقولاته الفكرية، كما هو عليه الحال اليوم.

قرأنا دوس باسوس، واكتشفنا ذلك الكاتب الكبير، المدهش. لا أعرف حقًا، إن كان رأينا هذا جاء يومها من جراء التأثر بما كتبه سارتر، أم فعلًا هو رأي خاص من جراء متعة القراءة. كلّ ما أذكره أن دوس باسوس دخل في نقاشاتنا وأصبح واحدًا من نقاط ارتكازنا ونقاشنا (على الأقل بالنسبة إليّ). أول ما قرأت له يومها "تحويلة مانهاتن" لأكتشف فيها ذاك "الفريسك" الاجتماعي الهائل، الواسع جدًا الذي ترى في داخله عالما بأسره، يقع تحت شارة الكفاح، وعلى مختلف الصُعد. رواية تقف على تضاد مع روايات إميل زولا مثلا (الذي كان جزءا من المنهاج الدراسي: "الأرض"، و"جرمينال" وغيرهما...)، إذ أننا لسنا أمام بيئة معينة موصوفة، بل نحن أمام عالم مزدحم بشكل كامل، يهتز على إيقاع هذه المدينة الضخمة، على الآمال التي يحتويها ويجسدها. مدينة تشكل بمفردها رمز أميركا الجديدة! رمز "كل شيء ممكن"!

بقيت قراءتنا لدوس باسوس مقتصرة على لغة أجنبية، ولا أخفي سروري، حين تفاجأت مؤخرًا بصدور ترجمة عربية له، عن "مؤسسة هنداوي" (نشر إلكتروني)، إذ تنقل ياسمين العربي رواية "تحويلة مانهاتن" لتضعها أمام قراء العربية وذلك بعد مئة سنة تقريبًا من صدورها بلغتها الأصلية (صدرت عام 1925)، بينما، وللصدفة البحتة، نجد أن دار غاليمار الفرنسية، في الوقت عينه تقريبًا، تعيد ترجمة وإصدار هذه الرواية التي كانت صدرت بالفرنسية عام 1928، ضمن مشروع لها بإعادة ترجمة بعض الأعمال الكلاسيكية معتبرة أن لغتها صارت قديمة. لكن في الواقع، يكمن الهدف من إعادة ترجمة الكثير من الأعمال، في تصحيح ذلك الميل الذي كان سائدًا في فرنسا قبل الحرب العالمية والقاضي بـ "تكييف" الروايات الأجنبية مع اللغة الفرنسية، ما أدى إلى ظهور كوارث في الترجمة، أو حتى بتر بعض المقاطع وإعادة كتابتها تمامًا بما يتناسب مع الثقافة الفرنسية. وأعتقد أننا، نحن، لم نتخلص بعد من كوارث الترجمة هذه نهائيا، إذ ثمة رقيب دائم، قد يمنع الكتاب، لذا تلجأ بعض الدور إلى تعديل ما، ليس على طريقة المنفلوطي بالطبع، بل وفق ما تقتضيه ظروف مجتمعاتنا.  

"تحويلة مانهاتن" بنسختيها العربية والإنكليزية وفي الوسط دوس باسوس على غلاف مجلة "تايم" عدد 10 آب/ أغسطس 1936


(2)

كان ويليام فوكنر معجبًا بـ دوس باسوس، ومن جهته، أبدى دوس باسوس إعجابه بفوكنر. كان كل منهما يقول عن الآخر إنه كاتب أفضل منه. لكن عند ملاحظة الاختلاف في ثروتهما الأدبية، لا بدّ أن نقول اليوم إن فوكنر كان متواضعًا حينها للغاية. اعتبر دوس باسوس همنغواي سيد الأسلوب الغنائي الجاف، ورأى همنغواي في دوس باسوس مؤرخًا عظيمًا، رسامًا للوحات جدارية تاريخية هائلة، وذلك قبل أن يتشاجرا حول المسألة الشيوعية. كلاهما ذهبا إلى إسبانيا لمعاينة الحرب الأهلية. دعم دوس باسوس الأناركيين والتروتسكيين، بينما دعم همنغواي الستالينيين. لقد أحرقت السياسة بينهما كل شيء، وأدار كل واحد منهما ظهره للآخر.

(3)

حين أعلن جان بول سارتر، في آب/ أغسطس 1938، في مجلة NRF، بعد "تأمله" في روايتيّ "الشارع المتوازي 42" و"1919"، أنه يعتبر أن "دوس باسوس أكبر كاتب في عصرنا"، فهو في ذلك كان يحدد الغرض من فنه الذي "يجعلنا نشعر بأن اللعبة انتهت". لقد أدرك سارتر، يومها، التناقض ما بين فن رواية القصص الجديد تمامًا وبين "اليأس التاريخي" الذي عرفه بعد شهر واحد عبر اتفاقات ميونيخ عام 1938 (في شهر أيلول/ سبتمبر). برأيه، أراد دوس باسوس أن يجعل الناس يشعرون أنه "في المجتمع الرأسمالي، لا حياة للبشر، إذ لا يملكون سوى أقدار فقط". فإذا شعرنا بذلك، فإن الرغبة تأتي إلينا لكسر أقدارنا: "ها نحن متمردون: لقد تحقق هدفه". ولكن، من خلال سجننا مع هذه الشخصيات في ماض متجمد "خلف الجليد، فقد تتجمد ثورتنا أيضًا، لأنه في هذا العالم، العالم الحقيقي، يرغب المتمردون الحقيقيون في تغيير وضع البشر الحالي، ما يؤدي إلى القيام بأفعال يومية. في حين أن الأمر انتهى بـ دوس باسوس بأن يشعر باليأس من القيام بالأفعال: في الواقع، دائمًا ما تظهر نوايا البشر بشكل سيء. من الأفضل اختيار أهون الشرّين. وهكذا أصبح، في نظر أولئك الذين استمروا في الرغبة في تغيير العالم، رجعيًا". بعد الحرب، وضع نفسه في موقف دفاعي: لقد كانت أميركا "مهددة من قبل عدو وقوة استبدادية مسلحة بشكل مفرط"، فقد جاء لدعم سياسة السناتور مكارثي علنًا (لكنه شهد لصالح أحد رفاقه السابقين في النضال).

(4)

ولد جون دوس باسوس عام 1896 في شيكاغو لعائلة ثرية، وقد نشر "تحويلة مانهاتن" عام 1925، لتعرف نجاحًا كبيرًا، وهي جاءت بعد عدة روايات أفردت له سمعة حسنة، لا سيما رواية "ثلاثة جنود" التي يقدم فيها "الآلة العسكرية" بشكل وحشي، وهو يستل تفاصيلها من تجربته الشخصية، إذ انتسب للجيش كسائق سيارة إسعاف خلال الحرب العالمية الأولى. ثلاثة جنود، وجدوا أنفسهم على الجبهة الفرنسية، خلال الحرب العظمى. كان كل واحد منهم، يأتي من خلفية مخالفة للآخر، لكنهم وقعوا جميعًا ضحية "الآلة العسكرية" التي سحقتهم. رواية عن الظلم و"غباء" الحرب، وقد اعتبرت أول عمل أميركي كبير (1921) يتعامل مع الحرب بنبرة "غير محترمة".

تلقى دوس باسوس علومًا جامعية، وتميز بثقافته التي اغتنمها من محيطه العائلي والاجتماعي، وقد قام بـ "جولة كبرى" في القارة الأوروبية في سنّ مبكرة جدًا. ففي تلك الفترة انجذب بشدة إلى الشيوعية التي ابتعد عنها بعد عشر سنوات. كتب في فترة مبكرة مسرحية حول "قضية ساكو وفانزيتي"، وفي عام 1930 نشر "الشارع المتوازي 42" وهي الجزء الأول من ثلاثية الولايات المتحدة الأميركية التي تشكل امتدادًا، من دون أن تطغى عليها بالضرورة، لروايته الباهرة "تحويلة مانهاتن".

(5)

تشكل مدينة نيويورك الاطار العام لهذه الرواية، لكنها أيضًا هي الشخصية الرئيسية فيها. شخصية مترامية الأطراف، وحشية، ملتهبة، تجتذب حشدًا من الناس، الذين يأتون بالقوارب، بالقطار، سيرًا على الأقدام؛ أشخاص يختفون ويعودون للظهور بين هذه الخطوط التي أغفلها المترو الهوائي في ضجيج الخلفية.

لا بد أن قراءتنا اليوم تجعلنا نفهم لِمَ أن هذه الرواية وسمت الأدب والفنون بشكل عام وذلك عبر تقديمها لوحة حساسة للغاية، صوتية وسينمائية، للمدينة، في نوع من لقطات طويلة متتابعة، تتخللها مشاهد متجاورة ومتسلسلة بشكل متزامن. ثمة متعة، فيما لو جاز القول، حين تترك نفسك تنجرف مع هذا التدفق من الوجود البشري (من الرجال والنساء)، مع أولئك المجهولين، الأغنياء والفقراء، الأميركيين "الحقيقيين"، والمهاجرين من جميع أنحاء العالم، المصرفيين وعمال الموانئ، والذي نكتشفه في نفس الوقت أو على التوالي.

يرغب الجميع في "أن يكونوا في قلب الأشياء"، أن يشكلوا جزءًا من هذ "المتروبول" (المدينة الكبيرة) الذي يجذبهم، ويبتلعهم، ويدفعهم للحظة إلى قمة الموجة قبل الانهيار الجديد. وفي ذلك كله، ينجح جون دوس باسوس في ابتكار أسلوب، تمامًا كما فعل سيرغي أيزنشتاين (الذي كان معجبا به) في السينما حين أبدع، في الوقت عينه، في الاتحاد السوفياتي، جمالية جديدة تلتصق بهذا الجنون الحديث. أسلوب هو عبارة عن حركة مستمرة وعن كاليدوسكوب (مشكال) من المشاهد والتعليقات الجانبية والحوارات التي تجري في أجزاء مختلفة من المدينة.

من الصعب، للوهلة الأولى، تحديد المتكلم، إذ علينا أن نتذكر الشخصيات الاثنتي عشر التي نتبعها، لكن كما لو أن الأمر غير مهم في الأساس، لأن قصة كل كائن، الفردية، ابتلعتها نيويورك. فمن خلال هذا السباق إما أن يحقق النجاح أو النجاة. هنا تكمن ثيمة الكتاب، كيف ينقذنا المال أو كيف يهلكنا، كيف يصوغ الآمال أو يفسد المُثل العليا، ويُوَلد الأمل أو خيبة الأمل.

صحيح أن دوس باسوس، بعد أن كان شيوعيًا، انتقل إلى المعسكر الآخر "بسبب الرعب الذي سببه ستالين"، إلا أنه في هذه الرواية، يرى مأساة أخرى، مأساة الرأسمالية القاسية والوحشية والفجة، التي ستؤدي بملايين الأميركيين إلى البؤس بعد الكساد الكبير، وانهيار وول ستريت. (كيف لا نفكر في كلّ ذلك اليوم؟) لا يزال إله المال يلمع بالدرجة عينها؛ ولا يزال هناك مهاجرون آخرون يصلون بالقوارب (إن نجوا من البحر)، أو سيرًا على الأقدام، حين لا تزال تجتذبهم تفاحة أوروبا الكبيرة، مدفوعين بنفس الأمل الذي يسكن شخصيات هذه الرواية التي تجسد بشكل مثير للإعجاب هذا الحلم الجماعي والوحدة المأساوية العميقة لكلّ منهما.

همنغواي أقصى اليمين، ودوس باسوس أقصى اليسار خلال الحرب الأهلية الإسبانية (Getty)


تتقاطع أمامنا ثلاثون سنة من حياة مانهاتن المتعددة، في قلب نيويورك، "المدينة التي يحظى فيها الجميع بفرصته"، هذه المدينة الفظيعة، العنيفة، حيث كل طبقة ضد أخرى، بلا رحمة: من "باتري بارك" قبالة جزيرة إليس، التي تشكل حدود "إلدورادو" البائسين الذين يأتون من جميع أنحاء العالم سعيًا وراء الحلم الأميركي، من ضجيج "لوير إيست سايد"، من رائحتها الكريهة، وملاجئها الليلية، وموانئها الرديئة حيث ترقص النساء للحصول على تذكرة ببضعة سنتات، إلى الرفاهية الهادئة في واشنطن سكوير ومطاعمها باهظة الثمن للمحتفلين الجدد، تفرد مانهاتن صورتها حيث تتصادم مصائر لا حصر لها وتختلط وتضيع في اضطراباتها وصخبها...

عبر سرد لا يتبع الشكل الأفقي التقليدي ولا حتى "الكرونولوجي" (ترتيب الأحداث التاريخي)، يُظهر دوس باسوس جرأة تتناسب مع طموحه في الكتابة، حيث يتعهد "بتجميع" واقع المدينة، في هذه اللحظات المتوالية من الوجود والأصوات الداخلية. تأتي توصيفاته، سواء كانت مناظر طبيعية أو شخصية، موجزة وحادة حيث لا تعليقات ولا اعتبارات نفسية، لكن مونتاج دقيق لمقاطع "كونكريتية".

شخصيات دوس باسوس، هي صور ظلية عابرة كتلك التي نصادفها في الشارع أو كتلك التي نعود لنجدها مع مرور الوقت، من "هجوم سراييفو" (شرارة الحرب الأولى) إلى تحريم العشرينيات الصاخبة ("السنوات الصاخبة" في الولايات المتحدة). خمسون شخصية تحمل أسماء، بيد أن عشرًا منها تبدو بارزة. منها من فشل، مثل باد، البرعم الشاب، الذي قفز من فوق جسر بروكلين، جوزيف هارلاند، "ساحر وول ستريت" السابق الذي تحول إلى متشرد مدمن على الكحول، ستان إيمري، اللامع، الذي احترق حيا في حفل لا نهاية له.... هناك أيضا من نجح، مثل غوس ماكنيل، بائع الحليب، الذي أصبح رجل أعمال ثري، كونغو لا ماتاف، الذي أصبح مليونيرا، جورج بالدوين، المحامي الخادع، الذي دخل عالم السياسة. شخصيات تدور في هوس المال والثروة. لذا بأي ثمن يمكن لها أن تخرج من هذه الدائرة عندما يحل الهوس هذا مكان الأحلام كلها؟

إلين تاتشر، الممثلة الشابة الواعدة والموهوبة، تتخلى عن المسرح مثلما تتخلى عن جيمي هيرف الذي تعشقه، من أجل بالدوين الذي أصبح من أصحاب السلطة، والذي لا تحبه. صحيح أن هيرف ولد ثريًا، لكنه كان يحلم بشيء آخر غير المال والطمأنينة، حتى لو كان لا يعرف بالضبط ما يحلم به. في نهاية الرواية نراه يغادر مدينته عن طريق "الأوتوستوب". تتوقف شاحنة. يسأله السائق عمّا إذا كان سيذهب بعيدًا، يجيبه بأنه لا يعرف، لكن "بعيدًا جدًا، نعم".

(6)

تتمتع لغة دوس باسوس بثراء حقيقي (نجحت المترجمة في تقديمها لنا). لغة لا تخفف من حدة الرؤية القاسية للآخر، والتي تتواجد عبر المفردات التي تشعرنا بذلك، والتي لم تعد "السياسة الصائبة" اليوم تسامح الرواية عليها. مفردات تُظهر أن ازدراء الآخر منتشر على نطاق واسع، حتى في مدينة مثل نيويورك حيث تحتك جميع المجتمعات (والطوائف) مع بعضها البعض وتتحمل جميعها التحيز، خاصة من البيض الأثرياء تجاه هؤلاء المهاجرين الأوروبيين الفقراء، اليهود، الإيطاليين، الأيرلنديين الذين – لم يكونوا على دراية بعد بأنهم هم من صنع أميركا.

وفي هذا أيضًا ما ينادينا في هذه الرواية ويزعجنا، بالإضافة إلى الجودة الهائلة لكتابتها، التي تلتقط كل شيء: الضوضاء، الروائح، الألوان، أمزجة مدينة صناعية في طور الولادة وهي تلتهم أبناءها.