Print
علي إبراهيم دريوسي

العمل "أربعة" في ألمانيا

27 يناير 2024
آراء
في ألمانيا، غالبًا ما يوصف التغيير الحالي في عالم العمل باسم "العمل 4.0"، استناداً إلى تطورات ما يسمى "الصناعة 4.0".
الرقم "4.0"، كشيفرة، ينقل لنا شيئين رئيسيين: من ناحية، إمكانية "التدمير الخلاق"، أو ما يُعرف "بالفوضى الخلّاقة"، كما وصفها النمساوي الاقتصادي جوزيف شومبيتر، ومن ناحية أخرى، الطبيعة الارتقائية النمائية لهذا التطور.
قبل 4.0 كان هناك 1.0، 2.0، 3.0.
تعكس هذه الأرقام موجات التصنيع العظيمة في القرون الماضية.
بدأت الصناعة 1.0 المعروفة باسم "الثورة الصناعية الأولى" حوالي عام 1800، مع الإنتاج الكمي الأول باستخدام الآلات. وفي الخطوة التالية، تم تشغيل هذه الآلات بقوة الماء والبخار. في الوقت نفسه، كانت الصناعة الباكرة تجد طريقها إلى مجالات جديدة. السكك الحديدية الأولى والشحن بالسفن البخارية، بالإضافة إلى زيادة حركة المرور بشكل عام، تعدين الفحم، الصناعة الثقيلة، تصنيع الملابس وطباعة المنسوجات، كل هذا أدى إلى خلق فرص عمل جديدة في قاعات المصانع الأوروبية، ومصانع أميركا الشمالية.
العمل 1.0 هنا يعني أن تنظيم العمل تغير أيضًا نتيجة لأساليب الإنتاج الجديدة ـ ومعه تغيرت الهيكلية الاجتماعية أيضًا. ومنذ ذلك الحين، ظهرت طبقات معينة، ونشأت صراعات طبقية بما يتناسب مع تطور العمل، مما أدى في ما بعد إلى نشوء الجمعيات والأحزاب والنقابات العمالية.
مع التصنيع، بدأ صعود المدن أيضًا.
كان إدخال الكهرباء، كقوة دافعة/ محركة، بمثابة بداية للثورة الصناعية الثانية. ومع ظهور السيارات الأولى في أوائل القرن العشرين، أصبح العمل أكثر أتمتة. أخذت المصانع تنتج منتجاتها في وقت قياسي بصورة أسرع، وذلك باستخدام خطوط التجميع. قامت المحركات بعمل إضافي، مما قلّل من الحاجة للأيادي العاملة والآلات شبه اليدوية. كما أدت الاتصالات الحديثة بالهواتف والبرقيات إلى تسريع مراحل العمل. بالإضافة إلى ذلك، مع بداية العولمة، وبفضل السفن والطائرات الكبيرة، أصبح العالم أقرب لبعضه بعضًا.




كان العمل 2.0 واضحاً بظهوره مع بدايات نشوء دولة الرفاهية في نهاية القرن التاسع عشر.  ولأن التصنيع أدى إلى ظهور مزيد من المشاكل الجديدة، وفي المقام الأول المشاكل الاجتماعية، فقد اشتدت الصراعات والأزمات المجتمعية أيضًا، الأمر الذي أدى بدوره إلى الإبداع الاجتماعي والمجتمعي، كما أدى إلى عرض وتقديم أول نظام للتأمين الاجتماعي، والذي لا تزال أحجار أساسه موجودة في ألمانيا حتى اليوم.
في السبعينيات من القرن العشرين، بدأت الثورة الصناعية الثالثة.
كان التركيز هنا على مزيد من أتمتة الإنتاج من خلال الإلكترونيات، وتكنولوجيا المعلومات. وجدت الآلات الحاسبة الكبيرة طريقها إلى الشركات الكبيرة في وقت مبكر من أربعينيات القرن العشرين، وبعد مرور 30 عامًا، أسس الكمبيوتر الشخصي للمكاتب والمنازل نوعًا جديدًا من الصناعة. كما وجدت الروبوتات طريقها إلى قاعات الإنتاج الأولى.
كان العمل 3.0 يعني في بادئ الأمر مزيدًا من ترسيخ دولة الرفاهية في ألمانيا، وكان يعني تطوير اقتصاد السوق الاجتماعية بما يتناسب مع حقوق الموظفين والعاملين، ومع ترتيبات الشراكة الاجتماعية على قدم المساواة.
منذ نهاية القرن العشرين، بدأت الثورة الصناعية الرابعة.
ويتميز العمل 4.0، من بين أمور أخرى، بالتركيز على الرقمنة المتزايدة للتقنيات التناظرية السابقة، وتكامل الأنظمة المادية السيبرانية، كما تتميز بتكنولوجيا الروبوتات المتطورة جدًا، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا النانوية والحيوية، وإنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد. باختصار، يمكننا القول بأن بلوغ "المصنع الذكي" هو الهدف الأساسي من هذه الرحلة الرابعة.
تتغير أسواق اليوم ومتطلباتها بسرعة، وبشكل جذري، في كثير من الأحيان. بدلاً من الإنتاج المسبق للسلع بكميات كبيرة تُخزن في مستودعات ضخمة، يتم اليوم تصنيع المنتجات حسب الطلب، أو وفقًا للاحتياجات الفعلية. من ناحية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى توفير الموارد والنفايات والتكاليف، ولكن من ناحية أخرى يتنامى الطلب على الرقائق والخوادم، ويزداد أيضًا الاعتماد على مواد خام محددة (مثل العناصر الأرضية النادرة)، وفي النتيجة يقود هذا إلى تدفقات هائلة من البيانات، وارتفاع استهلاك الطاقة.
في الحقيقة، انتشار وتطور الرقمنة لن يغير الاقتصاد والعمل بشكل كبير فحسب، بل سيغير مجتمعنا أيضًا بشكل فائق.
هذه التطورات جزء لا يتجزأ من الاتجاهات الاجتماعية المجتمعية التي غالبًا ما تندرج تحت الاختصار الأميركي VUCA. وعليه، فإن العالم الحديث وتغيراته، عالمنا اليوم، يتميز بشكل أساسي "التقلب"، و"عدم اليقين"، و"التعقيد"، و"الغموض والالتباس".
النموذج الذي لا يواجه إلا بنموذج VUCA ترمز حروفه إلى "الرؤية"، و"الفهم"، و"الوضوح"، و"الرشاقة".
بعضهم يرى الكأس نصف فارغ، وبعضهم يراه نصف ممتلئ. وبناء على ذلك، وخلافًا للاعتبارات الأولية السطحية، لا ينبغي تقييم تأثيرات وآثار التحول الرقمي على أنها إيجابية بشكل عام ومبهجة على الدوام، كما أنها ليست سيئة وسلبية في الأساس.
من مخاطر التحول الرقمي يمكن لنا ذكر ما يلي:
تزايد تركيز البيانات العالمية بين حفنة من المحتكرين الذين يستطيعون التهرب بنجاح من السيطرة الحكومية والضرائب. مزيد من الضياع والتسارع والتكثيف والضغط (الوظائف حسب الطلب؛ العمل الجماعي). فقدان الخصوصية والحرية. خطر التبعية الرقمية (الجرائم الإلكترونية، احتمالية الأعطال الإنفورماتيكية، وما إلى ذلك). التقليل من قيمة القدرات والمهارات وفقدانها ـ الجسدية منها واليدوية ـ ولكن أيضًا المهارات المعرفية، أو الفكرية، أو الاجتماعية. تزايد الانقسام الرقمي والإقصاء والاستبعاد والتهميش في المجتمع.
من فرص وحسنات التحول الرقمي يمكن لنا أن نجد ما يلي:
مؤسسات عمل ذات هيكلية جديدة، وأشكال توظيف ونماذج أعمال يمكن أن توفر مجموعة متنوعة من الخدمات بشكل أسرع وأفضل وأرخص. كائنات ذكية من شأنها أن تسمح مستقبلًا بتصنيع المنتجات وتقديم الخدمات بسرعة وفاعلية أكبر، وأكثر كفاءة في استخدام الموارد. التكامل البسيط والمباشر للمستخدمين والموظفين والعملاء في عملية الابتكار. فرص جديدة للتعليم والتعلم وتسهيل نقل المعرفة. فرص جديدة للتمكين (زيادة القدرة للأفراد والمجتمعات) والمشاركة. إضفاء الطابع الإنساني على العمل من خلال المساعدة المفيدة والتقنيات الخادمة.