Print
رشا عمران

لسنا سوى ضحايا

13 أكتوبر 2024
آراء
بالأمس حذفت من قائمة أصدقائي على فيسبوك شخصًا سوريًا يعرّف عن نفسه بأنه "حقوقي وكاتب"، حذفته لأن تعبيره عن فرحه بما يحدث في لبنان وسورية ليس حقيقيا، أو هكذا بدا لي على الأقل، ذلك أنه، بالنسبة لي، لا يمكن لشخص طبيعي أن يفرح كل هذا الفرح بالموت، خصوصًا أن الموت الذي نراه يوميا في لبنان وسورية منذ حادثة البيجرز لا يطاول قيادات حزب الله فقط، بل مع تلك القيادات يموت أبرياء، نساء وأطفال ومدنيون، لا ذنب لهم سوى أن حظهم السيء جعل سكنهم قريبًا من مقرات أو سكن لقيادات هذا الحزب أو ذاك، أو جعلهم فقرهم يقتربون من هذا الحزب أو ذاك! كيف يمكن لذلك أن يجعل أحدًا فرحًا، وأن لا يتوقف عن التعبير عن فرحه وشماتته بما يحدث... في رأيكم، هل يمكن أن يكون هذا حقيقيًا؟ أنا أراه ملفقًا، وفيه شعبوية وغوغائية كبيرة، وأنا لا أحب الغوغائيين، ولا أحب ما يسطرونه على صفحاتهم، ولا أتركهم في قوائم الأصدقاء عندي، خصوصًا إن كنت لا أعرفهم معرفة شخصية. كما أن هذا الشخص الافتراضي أيضًا يعرف نفسه، كما أسلفت، على صفحته بأنه كاتب وحقوقي، أي أنه، كما يفترض، يتمتع بدرجة من الوعي والثقافة تجعله قادرًا على استشراف بعض النتائج من هذا الإجرام غير المسبوق، تجعله يشعر بالخوف على هذه البلاد المنكوبة، وعلى الأبرياء فيها، وعلى مستقبلها! أين حساسية الكاتب وحدسه؟ ذاك الحدس هو ما يمايز الكاتب عن الغوغاء، وحين يتم تجاهله لسبب أو لآخر تزول كل أسباب الاختلاف... الحدس هو الذي ينبهنا أن باصرتنا لا تزال حية، والكاتب بلا باصرة هو كاتب مات منذ زمن، أنا شخصيًا لا أترك الموتى في قوائم الأصدقاء الافتراضية، أتعامل مع موتهم واقعيًا، أبقي من أحبه منهم في ذاكرتي، يحضرون فيها كلما استدعيتهم (أستدعيهم كثيرًا كي أكتشف أنني حية)؛ أما في عالم الافتراض فأحذفهم من قوائم الصداقة الافتراضية، بعد أن حولهم الموت إلى واقعيين. كما أن هذا الشخص يكتب عن نفسه أنه حقوقي، أي أنه يعرف جيدًا حيثيات جرائم قتل الأبرياء، ويعرف أن العدالة بحق مجرم لا يمكن لمجرم آخر أن ينجزها، هذا محض افتراء على العدالة، ومحض توهم لا ينبغي أن يمر على من درس القوانين وحيثياتها ونواميسها. ليست مهمة الحياة أن تقتص من القتلة بتسليط قتلة آخرين عليهم يقتلون معهم أبرياء، هذا ركون واستسهال لفهم العدالة لا يليق بمن يطلق على نفسه صفة حقوقي أن ينحاز له. وللأسف، اكتشفت أن هناك كثرًا، محامين وكتابًا ومثقفين على قوائم الأصدقاء عندي لا يكترثون لهذه التفاصيل، أقصد قتل وتشريد وتهجير البشر، وتدمير الأبنية والأحياء والمدن. الأمر بات يتعدى الفرح بتصفية من تسببوا في كوارث للسوريين واللبنانيين (أنا لست حزينة أيضًا)، الأمر تحول إلى استعراض يومي ممل وشنيع لمقدار الهزيمة التي يشعر بها السوريون بعد أن فتك العالم بثورتهم. قد تبدو هذه الهزيمة مبررًا لكل هذا الفرح الغريب بالموت إن كان صادرًا عن العامة والدهماء (أرجو أن لا يظن أحد أنني أستهين بالسوريين العاديين، أنا أفرق فقط بين النخب، كما ينبغي أن تكون عليه، وبين باقي السوريين غير المطالبين بالتروي في التعبير عن مشاعر عفوية). لكن من أقصدهم هم كتاب ومثقفون وحقوقيون وأساتذة جامعات وصحافيون، أي النخبة التي يفترض بها تحليل الحدث، والتأني في رؤيته، واستنباط نتائجه، كما يفترض بها تحليل الهزيمة وتفكيك مسبباتها ووضع استراتيجيات للتعامل مع المستقبل، أما هذا الاستسهال والمبالغة في استعراض الشماتة والفرح فهو يليق بمحدثي الشهرة من جامعي لايكات افتراضية ممن بات يطلق عليهم لقب (مؤثرين)، وهم ليسوا أكثر من نصابين يعرفون من أين تؤكل الكتف، ويلعبون على غرائز العامة الشعبوية بقصد الربح المعنوي والمادي معًا. أما من أقصدهم فمعظمهم يستعرض فرحه الافتراضي مجانًا، من دون أية غاية، من دون حتى أيديولوجيا تقف وراء الموقف، ومن دون تحليل سوى هذا التحليل البسيط والساذج: (خلصنا من مجرمين). نعم، بالتأكيد أن تنظف سورية من تشبيح عناصر حزب الله وطائفيتهم التي ظهرت في سورية خلال العقد الماضي، ومن تحولها إلى دولة الكبتاغون الذي ينتجه الحزب وحلفاؤه في سورية ويصدرونه إلى العالم، أن ينتهي دور جهة أجرمت طويلًا بحق السوريين هو أمر ليس بقليل، ويستدعي الفرح، لولا أن من قام بهذا هو عدو أشد وطأة وخبثًا وإجرامًا، وذو خلفية تلمودية تبيح له اقتراف كل الجرائم، ومحصن بحماية دولية وعالمية تقيه من العقاب، ومدجج بتاريخ من العنصرية والجريمة والاستعلاء تجعله يرتكب جرائم إبادة حقيقية، وترسانته العسكرية فيها من التفوق ما يمكنه من احتلال كل عواصم دول المواجهة خلال أيام.




ألم تثبت حرب غزة نواياه بعد؟ ألا تثبت جرائمه ضد المدنيين في لبنان بذريعة القضاء على حزب الله ذلك؟ وهذا الاستعلاء باستخدام صواريخ محملة بقنابل ذات كلفة مهولة لاستهداف شقق سكنية بعينها تقتل من المدنيين ما يتفوق على الأهداف المعلنة بكثير، ألا يكفي ليدل على أي نوع من الأعداء علينا أن نستعد للتعامل معه؟ ليس مفهومًا لي استسهال سوريين ولبنانيين نخبويين في التعامل مع الوضع السياسي والأمني الجديد في بلادنا، بل إنني أراه مدعاة للقلق والخوف، هل يعني هذا التهليل للضربات الإسرائيلية أن العدو التاريخي بات مرحبًا به في بلادنا؟ سألتني شقيقتي عن رأيي إذا ما قامت إسرائيل باستهداف رأس النظام السوري وأراحت سورية والسوريين من هذه اللعنة! لم أستطع حسم موقفي من ذلك، فمن جهة ما هناك مساحة في داخلي سوف يحتلها الفرح أخيرًا، إذ يمكن لحدث كهذا أن يبدأ بخلخلة الثبات القاتل في الوضع السوري، وقد يحمل معه حلًا لملفات بالغة التعقيد، كملف المغيبين والمعتقلين، وملف الممنوعين من العودة إلى سورية، وأنا منهم، وقد يحمل معه بعض التفاؤل لمن يعيشون في الداخل السوري في ظل أسوأ وضع معيشي وإنساني على الإطلاق؛ لكن في مكان آخر في داخلي فإن هنالك مساحة كبيرة للخوف والقلق مما ستكون عليه نتائج شيء كهذا لو حدث، ليس فقط لأن سورية سوف تقع تحت رحمة محتل جديد أكثر فتكًا من سابقيه، بل لأنني نفسيًا لست قادرة على تقبل فكرة أن تدك دولة الاحتلال عاصمة قلبي دمشق، ولست قادرة علي تقبل فكرة أن فرحة ما تصيبني يمكن أن يكون خلفها عدو بلادي الأول خصوصًا، وأنا مدركة تمامًا أن البدائل الوطنية السورية تكاد تكون معدومة، والموجود حاليًا ليكون البديل لا يقل هولًا وعمالة عن بشار الأسد؛ ما زالت تجربة العراق حية حتى اللحظة، والمفارقة غريبة فعلًا، العراقيون الذين هللوا  للدبابات الأميركية التي أسقطت صدام حسين، وفرحوا بها، وباركوا إعدامه على يد الاحتلال الأميركي هم أنفسهم الآن يشتمون السوريين واللبنانيين الذين يظهرون فرحًا بمقتل قادة حزب الله على يد الاحتلال الإسرائيلي. هذا ما يخيفني حقًا؛ أن تكون الطائفية والمذهبية التي تفتك بالعراق الآن هي البؤرة التي تصدر عنها كل مشاعر الشماتة والفرح لدى السوريين، وأن تكون هي نفسها التي ستجعل كثرًا يرحبون بإسرائيل نكاية بإيران وأذرعها الذين لم يخفوا طائفيتهم يومًا، بل كانت هي رأس الحربة في دفع مقاتليهم وعناصرهم لقتل السوريين الثائرين ضد النظام. ألسنا جميعًا في واحد من أكبر المآزق الأخلاقية والوطنية التي مررنا بها في حياتنا؟ ألسنا في أكثر حالاتنا اضطرابًا في المشاعر والتقلبات العاطفية تجاه ما يحدث؟ ألسنا في أكثر حالاتنا عجزًا عن تفهم وقبول ما نشعر به؟ دعكم من المزايدين في الوطنية والانتماء لمحور المقاومة كما يطلقون على أنفسهم، هؤلاء في معظمهم أيضًا دوافعهم طائفية ويستسهلون إعلان العداء لعدو معروف ومحدد وثمة تاريخ من النوستالجيا في العداء معه، تاريخ طويل ترسخت تفاصيله في اللاوعي الجمعي لشعوبنا، ولم يكن ليتزحزح لولا ما حدث بعد الربيع العربي. دعكم من هؤلاء وأخبروني عن اليقين الذي يتعامل به البعض مع أحداث مروعة كالتي نمر بها الآن. اليقين في الفرح واليقين في الشماتة واليقين في الانتظار واليقين في القبول، هل هذا حقيقي فعلًا؟ لماذا أراه كله مزيفًا ولا يتعدى كونه تلفيقًا لانكسارات وهزائم متلاحقة وإحساس مهول بالخذلان والعزلة والوحشة يحاولون عبر التلفيق الإيحاء لأنفسهم ببعض التوازن؟ هل أنا المخطئة أم هم؟ أعترف أنني مضطربة المشاعر والانفعالات حاليًا، وأنني في رعب حقيقي من مشاهد الدمار والنزوح والموت، وأعترف أنني بت أكثر اقتناعًا بأن لا شيء يستحق كل هذه الأثمان الباهظة التي يدفعها في حروب لم يأخذ أحد رأيهم فيها، وأعترف أنني غاضبة جدًا من فكرة أن تتحول هذه الشعوب إلى مجرد أرقام في إحصائيات القتل والموت، وأعترف أنني أكره القادة والزعماء الذين إن قتلوا فهم يقتلون بأسمائهم الصريحة الواضحة من دون أن ينسوا أن يحملوا معهم في مواكب موتهم عددًا كبيرًا من الملحقين بهم من فقراء هذه الشعوب بلا أسماء ولا ملامح ولا صفات سوى صفة الضحايا اللازمين لاكتمال ديكور الحروب والصراعات القاتلة، الموتى منهم والأحياء الفرحين بالموت.