Print
نبيل سليمان

الهنود الحمر يعيشون فينا

15 أكتوبر 2024
آراء

 

اشتهر المحامي البولندي اليهودي رافائيل ليمكين (1900 – 1959) بصياغته لمصطلح الإبادة الجماعية، وتحديده لما يعنيه بوضع خطة منظمة "تتألف من إجراءات تهدف إلى تدمير الأساسات الضرورية لحياة مجموعات قومية، بهدف إبادة المجموعة نفسها". وضرب مثلًا بحرق محاصيل أو تخريب البنية التحتية وهدم المنازل... وما شابه، سواء أصاب مدينة أو قرية أو حارة، كالذي لا تني إسرائيل ترتكبه في أنحاء فلسطين، حيث يقتلع المستوطنون أشجار الزيتون، أو تفتك الجرافات بشوارع وشبكة الصرف الصحي في مخيم جنين أو مخيم طولكرم. أما في غزة فحديث آخر.

بدأ اهتمام ليمكين بالإبادة الجماعية للأرمن في تركيا، وبمذبحة الآشوريين في العراق عام 1933. وبلغت الشرارة التي قدحها أن اعتمدت الأمم المتحدة في 9/12/1948 اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. ودخلت هذه المعاهدة الدولية التنفيذ في 12/1/1951، وبلغ عدد الدول التي وقعت عليها مائة واثنتين وخمسين دولة. لكن ذلك أمر والإبادات الجماعية المتوالية أمر آخر، كالذي شهدته أميركا بين عامي 1945 – 1951 من الهجوم على الجنود الأميركيين السود العائدين من الحرب، أو شهدته رواندا أو سربرنيتشا أو ميانمار أو صبرا وشاتيلا أو فلسطين منذ عشية قيام اسرائيل حتى اليوم.

يبين التاريخ أن حروب الإبادة الجماعية قد فشلت كلها – تقريبًا – باستثناء إبادة الهنود الحمر، كما يقول المفكر التونسي فتحي التريكي في حوار مع نور الدين بالطيب ("الأخبار" اللبنانية 7/9/2024). ويشدد التريكي على أن ما يقع في غزة منذ سنة هو حرب إبادة، حيث يواجه جيشٌ عصاباتٍ مسلحةً يصعب تمييزها عن بقية السكان. وهذه الظاهرة القديمة المتجددة درسها الجنرال الفيتنامي فون نجوين جياب الذي أكد أن الجيوش الغربية والجيش الأميركي- ويضيف التريكي الجيش الإسرائيلي – قد تعودت على الإبادة، كوسيلة فضلى للانتصار السهل. ويتابع التريكي أن قتل الأطفال في غزة وفلسطين المحتلة، بعد تجويعهم بالحصار الذي لم تشهده الإنسانية قبل الاستعمار الإسرائيلي، وبمساندة الاستعمار الغربي، هو إبادة بطرق معاصرة.

من قذائف نتنياهو الكلامية أن إسرائيل تخوض (بقيادته طبعًا) في غزة بعد طوفان الأقصى "حرب الاستقلال" الثانية. والصحيح أن إسرائيل تخوض بقيادته حرب الإبادة الجماعية الثانية. أما "حرب الاستقلال" الأولى (1948) فهي حرب الإبادة الجماعية الأولى التي كان لها مهادها الإبادي قبل قيام إسرائيل/ نكبة فلسطين.

إنه تاريخ من الإبادة، تتوحد فيه الأسماء. ولكن دع عنك، فإيلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" (2006) قد تولّى الأمر، وهو من قال عن غزة في عام 2007 "الإبادة الجماعية هي الطريقة المناسبة الوحيدة لوصف ما يفعله الإسرائيلي في قطاع غزة". وعما قليل، أي في عام 2014، وصفت منظمات حقوقية قتل الجيش الاسرائيلي لأكثر من ألفي فلسطيني في غزة بالإبادة الجماعية. وللوصف أن يعجز إذًا عندما يتضاعف هذا العدد عشرين مرة أو ثلاثين وربما أربعين في عام 2023 أو عام 2024.

لا يفتأ منير العكش يبدأ ويعيد في أن فكرة أميركا هي الترجمة الإنكليزية لفكرة إسرائيل الأسطورية


للقتل الاسرائيلي صنوفٌ وأدوات لا يضاهيها إلا ما كان للاستعمار الإنكليزي الاستيطاني في قارة الهنود الحمر التي صارت أميركا. وبيان ذلك في تأسيس منير العكش للإبادة الإسرائيلية في الإبادة الإنكليزية/ الأميركية، قل: التأسيس لقيامة إسرائيل ونهجها في قيامة أميركا ونهجها، وذلك في موسوعته الكبرى، أي في مؤلفاته التي ابتدأت بكتاب "حق التضحية بالآخر: أميركا والإبادات الجماعية"، وتلاه "أميركا والإبادات الثقافية: لعنة كنعان الإنكليزية"، ثم كتاب "تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أميركا"، فكتاب "أميركا والإبادات الجنسية: 400 سنة من الحرب على الفقراء والمستضعفين في الأرض"، فكتاب "دولة فلسطينية للهنود الحمر".

لا يفتأ منير العكش يبدأ ويعيد في أن فكرة أميركا هي الترجمة الإنكليزية لفكرة إسرائيل الأسطورية التي تعتمد على رباعية: احتلال أراضي الغير – استبدال الشعب بشعب – استبدال الثقافة بثقافة – استبدال تاريخ بتاريخ. أليس كل عنصر من هذه الرباعية إبادة جماعية بامتياز؟

من طوفان هذه الرباعية مما يخاطب ما نحن فيه، أمس واليوم وغدًا، بيان "حق الحرب" لشعب الله المختار، حيث النصّ على حق الإنكليز، لأنهم من شعب الله المختار أن يجتاحوا البلاد، ويدمّروا أهلها حيثما تحلو لهم المواطن الخصيبة للهنود وأراضيهم "التي سنستوطنها بعد تطهيرها من سكانها". هكذا أبيدت بين 1600 – 1650 امبراطورية البوهاتن التي علّم شعبها من استعمروا فيرجينيا الزراعة، وكان عدد سكانها يضاهي عدد سكان بريطانيا، وكانت مساحتها أكبر من مساحة بريطانيا. وبعد قرن، بقي من الهنود ستماية إنسان، وغطت الهياكل والجثث تلك البلاد.

في عام 1830 أصدر الكونغرس قانون ترحيل الهنود من شرق المسيسيبي إلى غربه، وبات للمستوطن حق طرد الهندي من أرضه، فإن رفض فله القتل. ولقرنٍ من الترحيل والتهجير يكفي ما كان لشعب النافاهو مثالًا: مفوض الدولة الاتحادية للإعاشة أندرو ميريك يهدر: "اذهب أنت وشعبك فكلوا من حشيش الأرض، وإذا شئتم فكلوا من خرائكم". إنه التجويع أثناء الترحيل والتهجير، لكن الزعيم الهندي (الغراب الصغير) هجم على المفوض وقتله وحشا فمه بالحشيش، ولكلٍ أن يتخيل العقاب الجماعي.

لقد جدّدت إسرائيل ذلك التاريخ: اليوم يأمر بن غفير بتقنين الطعام للأسرى الفلسطينيين، وبسوء التغذية وبالإجهاد، فكل ذلك يهيئ جسد الأسير للمرض، فالموت العاجل. واليوم يتجدّد غاز الخردل ومبيد الأعشاب البرتقالي وثلاثة وتسعون حربًا جرثومية – مما صنع الإنكليزي به أميركا في إبادة الهنود، فيصير – مثلًا – 14000 قنبلة من الطراز MK84 الشهير بالمطرقة، والتي تزن الواحدة منها 900 كغ (2000 رطل) و6500 قنبلة بنصف الوزن، مما زودت به الولايات المتحدة إسرائيل بين شهر طوفان الأقصى ومنتصف هذا العام 2024. ولكن لماذا؟ لأنها متطلبات الإبادة الجماعية في غزة.

من مائة واثني عشر مليونًا من أربعماية شعب من الهنود، ظل حيًا في إحصاء عام 1900 ربع مليون. وها هي الأرقام في غزة تجدّد سيرة الإبادة الجماعية، فتجمع مع الأرقام المعلنة أرقام المفقودين والأجساد الحية الميتة، فإذا بنا خلال سنة واحدة أمام ما يقارب عشر أهل غزة. وماذا عن الضفة أيضًا؟

وقعت الحكومات الأميركية 371 معاهدة مع الشعوب الهندية، وقد اخترقت جميع المعاهدات التي تشرعن الإبادة  (من المفاوضات مع الهنود عام 1868، britannica)


ليست إبادة الهنود سوى مأساة غير متعمدة، ومؤسفة، وأضرار هامشية تواكب نشر الحضارة. وليست إبادة الفلسطيني إلا حربًا على الإرهاب. لذلك يأتي الأمر عام 1968 بتبديل اسم الضفة الغربية باسم يهودا والسامرة، عملًا بالرواية التوراتية، وإنفاذًا لشرعنة الضم والاستيلاء. وللمستزيد أن يقرأ في كتاب  "الخطاب الاستيطاني التوراتي تجاه الضفة الغربية: قراءة في خطاب الجيش الإسرائيلي والمستوطنين – إعداد وترجمة وليد حباس، وتقديم أنطوان شلحت". ففي ترجمة الكتاب لوجهة نظر المستوطنين التوراتيين أنهم يرون الضفة جزءًا من وطن أجدادهم، وما الاستيطان إلا العودة إلى أرض الأجداد بناءً على تفويض إلهي، وهو تعبير عن بدء الخلاص.

أميركا هي كنعان الجديدة، والأسّ هو في حكايات العبرانيين وفي أساطير إسرائيلهم في العهد القديم والتلمود والأفكار القبالية. فليكن الغزاة الأوروبيون إذن عبرانيين، وليكن الهنود كنعانيين. وليكن الرواد الثوار البيوريتان الذين بنوا أول مستعمرة/ مستوطنة في جيمس تاون، هم شعب الله المختار. ولتكن لأرض الهنود أسماؤها الحسنى: أرض كنعان، أرض إسرائيل الجديدة، أرض صهيون، أرض الميعاد، كما هي الأسماء العبرانية لفلسطين، ولتختلط الأسماء والأوراق والحقائق والأساطير/ الأكاذيب، فما همّ، ما دامت إسرائيل الأميركية أو أميركا الإسرائيلية قد قامت عام 1948.

بقي أن يتولى الزمام من يتشدق بالأخلاق الإبادية، فيرمي الآخرين بما فيه من التوحش والتخوين، كأن يشبه الجنرال وستمورلاند الفيتناميين بالنمل الأبيض، وهذا النمل في المخيلة الأميركية أخطر حشرة منزلية، وتجب مكافحتها بالمبيد، فإلى إبادة الفيتناميين إذًا، ولذلك سمّى الأميركي الفيتنام بالبلاد الهندية. وبالأمس، بالأمس فقط، جلجل نورمن شوارزكوف في ملء الشاشة الصغيرة: أريدها معركة فناء، فإلى الإبادة إذًا باليورانيوم المنضّب في حرب الخليج الأولى 1990، ثم في حرب الخليج الثانية 2003، وماذا على إسرائيل – بالتالي – إن استخدمت اليورانيوم المنضّب في الرصاص والقذائف في قمع انتفاضة الأقصى؟

لم تحدّد أميركا حدودها، ولا إسرائيل تحدّد حدودها، إلا إذا عددنا الشعار الذي يزيّنه السجع "حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل" تحديدًا. وكما في الحدود هو وقع الحافر الإسرائيلي على الحافر الأميركي في أمر المفاوضات والاتفاقيات، مما أبدع منير العكش في الكتابة عنه، حين تحدث عن "كمائن المفاوضات" وعن "الإبادة بالاتفاقيات" في التاريخ الأميركي. فرئيس الرؤساء جورج واشنطن هو من اقترح عقد سلسلة من الاتفاقيات مع الهنود من أجل الحصول على الأرض الغنية والاستراتيجية التي يتطلبها أمن المستوطنين، مقابل "الوعد" بعدم المساس بما يتبقى للهنود من الأرض، و"الوعد" بالقيام بما "يمكن" القيام به كيلا يستوطن المستوطنون فيما تبقى من أرض الهنود. ورئيس الرؤساء يوصي بأن تكون وعود المفاوضين شخصية، وغير ملزمة للحكومة. أليست هذه هي اتفاقية – اتفاقيات أوسلو؟

بعد قرن، بقي من الهنود ستماية إنسان، وغطت الهياكل والجثث تلك البلاد (جثث الهنود بعد مذبحة طاولتهم من الأميركيين عام 1891، britannica)  


وقعت الحكومات الأميركية 371 معاهدة مع الشعوب الهندية، وقد اخترقت جميع المعاهدات التي تشرعن الإبادة. فمن لم يمت من الهنود بالسيف مات بالاتفاقيات. هل يكون من يؤسرل هذا القول مبالغًا؟ من لا يموت من الفلسطينيين بالسيف – ألم يتحدث نتنياهو عن السيف؟ - سوف يموت بالاتفاقيات. إنها الإبادة بالاتفاقيات إذًا، لذلك تساءل محمود درويش عن "كولومبوس الحر" في قصيدة "خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض" من ديوان "أحد عشر كوكبًا" (1992): "لماذا يواصل حرب/ الإبادة من قبره للنهاية؟/ خذوا أرض أمي بالسيف/ لكنني لن أوقع باسمي/ معاهدة الصلح بين القتيل/ وقاتله، لن أوقع باسمي/ على بيع شبر من الشوك/ حول حقول الذرة".

للإبادة صنوف ودرجات وأشكال وألوان، منها "الإبادة بالتذويب الثقافي"، قل: الإبادة الثقافية. ففي الزمن الذي كان فيه اسم أميركا لا يزال يتطور من "إسرائيل الله الجديدة" إلى "إنكلترا الجديدة..."، جرى تحريم الشعائر الروحية الهندية، إلا ما تكرم الأبيض بالسماح به مما يتناغم مع ما يقدّر من المصلحة الوطنية، ومع البرامج السياحية للبيض. وفي ذلك الزمن أُجبر الهنود على حمل الجنسية الأميركية، على سبيل التذويب الثقافي والإبادة الثقافية. أما في زماننا فها هي الهوية الإسرائيلية للفلسطيني الذي في جنة/ جحيم إسرائيل. وها هو النداء الإسرائيلي يصير زمجرة في الاتفاقيات التي أنجزت والتي سوف تنجز، من أجل تعديل البرامج التعليمية العربية، وتعديل القرآن كرمى لاقتلاع جذور الكراهية، ولغسل أدمغة الأجيال الصاعدة.

في الإبادة الثقافية نحن مع إبادة الروح. وإبادة الروح مثل إبادة الجسد. وثمة أيضًا ما يدعى بالإبادة الصامتة، أي "على السكت" بالعامية، بلا نأمة لإعلامٍ أو لسلاح. وليس المقصود بلا غازات كيماوية وما شابهها. فالإبادة الصامتة هي الإبادة في المعتقلات والسجون، ومنها التكميم والتخريس، وليس فقط في السجون والمعتقلات الإسرائيلية. وبقي أن أشير إلى أن الشروع في الإبادة هو منها، سواء أتوقف أم لم يتوقف. كما بقي أن أشير إلى أن الكثير من الأنظمة الديكتاتورية قد مارست صنوفًا ودرجات من الإبادة ضد شعوبها، كما شرعت في الإبادة، تحت الشعارات المخادعة الوطنية والقومية و... بما في ذلك شعار تحرير فلسطين.

أخيرًا، أختم بقول من لولاه ما كانت لتكون هذه المقالة، ولا مقالة "الإبادة الإسرائيلية الأميركية للكنعانيين الفلسطينيين والحمر"، أختم بقول منير العكش: "إن عالمنا كله يعيش اليوم تحت رحمة مافيا كولومبس الذي أوصى باستثمار ذهب أميركا في تحرير أورشليم. إن الهنود الحمر الذين أُبيدوا بالنيابة عنا، نحن الكنعانيين على الحقيقة، ما يزالون يعيشون فينا".