Print
فخري صالح

العالم منقسمًا على وقع الإبادة الجماعية في غزة

18 أكتوبر 2024
آراء
1
في الطريق إلى مدينة أكسفورد، مستقلًّا حافلة من أمام مطار هيثرو، كان المطر يهطل بغزارة غير عادية. فعلى الرغم من أن الوقت هو بداية الأسبوع الأخير من شهر أيلول (سبتمبر)، فقد غمرت المياه الحقول المحيطة بالشارع الذي يؤدي إلى المدينة التي تحتضن واحدة من أكبر جامعات العالم. فأكسفورد بقيت هي وكيمبريدج الجامعتين الأكثر شهرة في العالم، يطمح الطلبة البريطانيون، ومن باقي أنحاء العالم، إلى الدراسة في واحدة منهما. يجمعهما اشتقاقٌ اصطلاحي يطلق عليهما  معًا: Oxbridge، في إشارة تتضمن مدحًا وقدحًا، في الآن نفسه.
ظلَّ المطر الغزير يتساقط، حتى وصلنا المدينة. قال سائق الحافلة إن المطر غير مسبوق في هذا الوقت من العام، فأكسفورد، على حد قوله، تغرق. لكن المطر في الجزر البريطانية يمكن أن يهطل في أي وقت. ولذلك أحرص عند مجيئي إلى هذه البلاد على الاحتفاظ بمظلتي في حقيبة الكتف التي أحملها معي في ذهابي وإيابي. لقد لدغت من الجحر ذاته أكثر من مرة، عندما نسيت مظلتي، أو أبقيتها في الفندق حين رأيت الشمس ساطعة تغمر الأرجاء، وإن كان هذا نادر الحدوث في هذه الإمبراطورية (!)، التي لم تكن الشمس تغرب عنها، في سابق الزمان والأوان. لكنها صارت الآن مجرد كوكب صغير يدور في فلك الإمبراطورية الأميركية، التي تسعى إلى تشكيل العالم كله على هيئتها وشكلها، وإلى فرض هيمنتها على الغرب والشرق، والشمال والجنوب.
عندما نزلت من الحافلة، كانت السماء ما زالت تمطر، لكن بغزارة أقل الآن. ومع ذلك، فقد توجَّست من أنني سأتبلل من رأسي إلى قدمي، وأنا أدور باحثًا عن تاكسي يقلني إلى وجهتي، في هذا الجو الماطر الذي خلت فيه الشوارع من السيارات والمارة. بحثت عن مظلتي فاكتشفت أنني لم أحملها معي من عمان. عادةً ما أنسى شيئًا ما، رغم الحرص الذي أبديه عند كل سفر، فأراجع ما أحتاج إليه، وأدقق في الأشياء، قبل انطلاقي إلى المطار. لكنني رغم ذلك أنسى. مرةً، نسيت هاتفي المحمول في البيت، ولم أتذكره إلا بعد أن صعدت إلى الطائرة.
جررت حقيبتيَّ، وسألت عن دكان يبيعني مظلة، فوجدت واحدًا قريبًا من محطة الحافلات. اشتريت أول مظلة رأيتها، رغم شكي في قدرتها على مغالبة هذا الطقس العاصف. فكَّرت بالطريقة التي يمكنني فيها جرُّ الحقيبتين ورفع المظلة فوق رأسي، لكنني استسلمت لقدري، في النهاية، ووضعت المظلة في واحدة من الحقيبتين، وأنا أتلفت، باحثًا عن واحدة من سيارات الأجرة السوداء التي تدعى Cab، لأن تطبيقات التاكسي ممنوعة في المدينة. لا Uber هنا، ولا من يحزنون. وعندما وصلت الفندق كانت ملابسي وحقيبتاي منقوعة في الماء. غيرت ملابسي ونمت فورًا، لأنني لم أنل قسطًا من النوم في اليوم السابق. فعلى الرغم من أنني أسافر عددًا من المرات في السنة، إلا أن القلق ينتابني في كل مرة أسافر فيها، فيستعصي عليَّ النوم. لا أنام ليلة السفر، في العادة، ولا أقدر على النوم في الحافلة، أو القطار، أو الطائرة، مهما طالت الرحلة، فأنام في الحال عندما أصل غرفتي في الفندق. عندما استيقظت متأخرًا في مساء ذلك اليوم، سألت عاملة الفندق إن كان لديهم طعام، فأجابتني أنه ليس لديهم مطعم. حملت مظلتي، وانطلقت باحثًا عن مطعم آكل فيه. ما تزال تمطر، لكن، ليس بالغزارة نفسها أثناء رحلة الحافلة من هيثرو إلى أكسفورد. ومع ذلك فما زال المطر يتساقط، والريح تهبُّ فتطيِّر المظلة، فأتشبث بها حتى لا تبتل ملابسي، مرة أخرى.
وجدت بقرب فندقي، الذي يقع على أطراف المدينة، مجمَّعًا مضاءً، فأمِلتُ أن أجد مطعمًا أستطيع أن أجلس فيه وأتناول طعامي. عندما دلفت إلى المجمع التجاري، وأنا أنفض مظلتي المنقوعة في الماء، اكتشفت أن المطعم الوحيد الموجود في المكان هو أحد فروع ماكدونالدز، فأسقط في يدي مرة أخرى. فأنا لا آكل هذه الأطعمة الجاهزة، أتجنبها لأسباب صحية، إلا إذا اضطررت لذلك. كما أنني قاطعت، مع زوجتي وابنتي وابنيَّ، هذه المطاعم، والشركات، التي ثبت أن لها صلة، أو تعاونًا، أو مشاريعَ مع "إسرائيل". تحيَّرت ماذا أفعل. قلت لنفسي إن الضرورات تبيح المحظورات، فأنا جائع، وليس هناك مطعم قريب. لكنني وجدت نفسي أغادر فرع ماكدونالدز، مفتشًا عن دكان يبيع أي شيء يؤكل. عثرت على دكان صغير ما زال مفتوحًا، رغم أن الساعة تجاوزت العاشرة مساء، فالدكاكين هنا تغلق أبوابها باكرًا في العادة. كانت هناك صبية محجَّبة تجلس خلف آلة الكاش، فطلبت منها أن تسخِّن لي ساندويش جبنة لمحته في الثلاجة الزجاجية، إلى جانبها. قالت إن دوامها انتهى، وإنها ستغلق المحل.





شعرت بالقنوط من هذه الرحلة التي بدأت بأمطار غزيرة، في شهر أيلول، وانتهت بي جائعًا لا أجد ما آكله. استدرت لأغادر الدكان، لكن يبدو أنها رقَّت لحالي، فحملتْ الساندويش ووضعته في المايكروويف. اشتريت زجاجتي ماء، ودفعت ثمن الساندويش، وشكرتها بحرارة. ما زال المطر يتساقط. وعندما وصلت الفندق، الذي يبعد بضع مئات من الأمتار عن المجمع التجاري، كان الماء يقطر من  مظلتي، ويسيل على أرض الغرفة.  

2
في صباح اليوم التالي، وعند بدء جلسات المؤتمر الذي قدمت لحضوره، كان الجو محتقنًا. لا أدري إذا كانت هذه هي الحقيقة، أم أن ذلك نابعٌ من داخلي، وإحساسي بأننا مقبلون على حوار عاصف، وصراع بين الآتين من دول الجنوب وأولئك المنتمين إلى دول شمال الكرة الأرضية، وخصوصًا أميركا وبعض الدول الأوروبية. كانت هذه الدورة، التي تحمل الرقم 90 في مؤتمرات منظمة القلم الدولي (التي تأسست في لندن عام 1921، وغايتها حماية الكتاب والعاملين في الشأن الثقافي مما يتعرضون له في أزمنة الحرب)، تنذر بنشوب الخلافات والنقاشات الصاخبة، بسبب مواقف مراكز القلم المختلفة من الحرب التي تدور رحاها في غزة، والآن في لبنان. بدأت الخلافات الحادة بعد أيام قليلة من أحداث 7 أكتوبر. فقد أدى البيان الذي أصدرته المنظمة إلى استقالة السكرتيرة العامة، الألمانية الجنسية، للمنظمة، وشن الفرع الألماني حملة شرسة في الصحافة الناطقة بالألمانية على القلم الدولي بدعوى "انحيازه للفلسطينيين". ومع أن ذلك البيان تركَّز حول إدانة العنف والقتل، والدعوة إلى حماية حرية التعبير، وحماية الصحافيين والكتاب والمثقفين الذين بدأوا يتساقطون قتلى وجرحى في غزة، فإن نذر الانقسام في أجواء هذا التجمع الضخم، من كتاب العالم ومثقفيه، بدأت تطل برأسها، حتى أن عددًا كبيرًا من أعضاء المركز الأميركي للقلم الدولي بدأوا حملة لجمع التوقيعات على بيان يدين موقف إدارة المركز من الحرب على غزة، وانحيازها الواضح إلى إسرائيل، وتشديدها على إدانة حماس، وما قامت به في السابع من أكتوبر، بدون تسجيل موقف أخلاقي من الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة. وقد أدت هذه الثورة، في أوساط أعضاء المركز الأميركي، إلى عدم توزيع الجوائز التي يقدمها المركز كل عام، ورفض الكثير من الكتاب الشباب تسلم هذه الجوائز، وعدم عقد المؤتمر السنوي الكبير للمركز. وهكذا انعكست أحداث غزة على أغنى مركز من مراكز القلم، وأكثرها نشاطًا، والمطالبة برحيل مديرة الفرع الأميركي، وتعيين شخص آخر مكانها، حتى يتم انتخاب مدير جديد (وهذا ما حدث بالفعل).

خلقت إبادة غزّة شرخًا غير مسبوق داخل المجتمعات الأوروبية وخصوصًا عند النخب الصاعدة (Getty)


استنادًا إلى هذه الخلفية، والنقاشات التي دارت خلال الأشهر الماضية، في الرسائل المتبادلة بين أعضاء عدد من المراكز العربية، وعلى رأسها الأردن وفلسطين، كما في اللقاءات على زووم، تخوَّفتُ من أن تتمكن بعض المراكز الأوروبية من إحباط مشروع قرار حول فلسطين، يدين قتل الصحافيين والكتاب والمثقفين والفنانين، في غزة، ويدعو إلى حمايتهم، وحماية حرية التعبير التي تتخذ منها منظمة القلم منارة لها. كان المدافعون عن إسرائيل متحفزين لإحباط إصدار البيان الذي جرت كتابته وتداوله بين مجموعة قليلة من المراكز، ومن ضمنها المراكز الإنكليزية والسلوفينية والتشيلية والأردنية والفلسطينية والعراقية واللبنانية. وقد صحَّت مخاوفي عندما بدأ النقاش في لجنة كتاب من أجل السلام في المنظمة. كان المركزان الألمانيان (الألماني، ومركز برلين الذي أقر تأسيسه العام الماضي)، والمركز الأميركي، وبعض المراكز الأوروبية الأخرى، يصرون على ضرورة إجراء تعديلات، سوف تؤدي، لدى إقرارها، إلى تفريغ البيان (الذي يفترض أن يصبح جزءًا من الوثائق الأساسية للمؤتمر) من مضمونه. احتدم النقاش، رغم إدراك المراكز الأوروبية، الراغبة في إحباط البيان، أن هناك تيارًا واسعًا من أعضاء منظمة القلم يؤيد إصدار البيان. ولهذا دعوا إلى إجراء تعديلات، وإعادة صياغة. لكنهم بعد إقرار صيغة البيان في اللجنة، عادوا لإثارة الأسئلة والاعتراضات نفسها في النقاش الذي دار بين أعضاء المؤتمر (جميع ممثلي المراكز الـ 71 الذين حضروا المؤتمر). وقد أشارت ممثلة أحد المراكز الأوروبية إلى أن إقرار البيان سوف يؤدي إلى انقسام المنظمة، التي تجاوز عمرها المائة عام. كانت مواقف المركزين الإنكليزي، والسلوفيني، بصورة خاصة، إضافة إلى مواقف المراكز العربية الحاضرة (الأردني والفلسطيني والعراقي) تدفع نحو إقرار البيان ليكون جزءًا أساسيًّا من وثائق المؤتمر. وقد مرَّ البيان في التصويت السريِّ الذي جرى لانتخاب الرئيس، والسكرتير العام، وأعضاء المجلس، ورؤساء اللجان، والمصادقة على القرارات والبيانات التي تصدر عن المؤتمر.
كانت فلسطين، كفكرة إنسانية، وقضية، وانتماء كوني، حاضرة بقوة في هذه الدورة من دورات منظمة القلم الدولي. الكلمة الافتتاحية في المؤتمر ألقتها الكاتبة والروائية الفلسطينية عدنية شبلي، التي ركزت على محاولة إسرائيل إسكات الفلسطينيين، وحرمانهم من الكلام، لكي يكون في الإمكان إبعادهم من الجغرافيا والتاريخ. وقد انطلقت كلمتها من المغزى الداخلي لروايتها الأخيرة "تفصيل ثانوي"، التي تعرضت ترجمتها إلى الألمانية لحملة في الصحافة الألمانية، خلال العام الماضي، وألغي حفل تسليمها جائزة ألمانية، كان من المفترض أن يقام ضمن فعاليات معرض فرانكفورت في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بعد أحداث طوفان الأقصى بأيام قليلة. اختيرت عدنية شلبي لإلقاء كلمة المؤتمر الافتتاحية كإشارة رمزية إلى كون هذه الدورة مخصصة لفلسطين، وكتابها ومثقفيها وفنانيها، كردٍّ على مخطط الإبادة الجماعية الذي تنفذه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. كان بعض الأوروبيين، وخصوصًا الألمان، يحاولون جاهدين أن يحبطوا أي حديث عن الإبادة الجماعية. ممثلة الفرع الألماني قالت إن "ألمانيا خبيرة في الإبادة الجماعية"، وإن ما يحدث في غزة لا يرتقي إلى تعريف الإبادة الجماعية. فتساءلتُ، خلال النقاش، إن كان الوقت مناسبًا، بعد كل هذا السيل العرم المتدفق من الدم في غزة، للاختلاف حول التعريف "الأكاديمي"، "العلمي"، لمعنى الإبادة الجماعية! فكما هي الحال، بين السياسيين في الغرب، وفي الإعلام الغربي السائد، وخصوصًا في الدول الناطقة بالألمانية، فإن الأمر ذاته يتكرر في مواقف الكثرة الكاثرة من مثقفي الغرب: دفاعٌ أعمى عن "إسرائيل"، وترديدٌ ببغاوي للسردية الصهيونية الكاذبة. لكن، لا شكَّ أن هذه السردية، التي ظلت سائدة في النقاش، منذ عام 1948، بدأت تتهاوى، خصوصًا بين الأجيال الشابة، ليحلُّ محلها الآن خطابٌ إنسانيٌّ  تقع فلسطين في القلب منه.
رغم هذه المقتلة المستمرة، والألم الذي يعتصر القلب، ها هي غزة تغيّر العالم.