Print
رشيد بوطيب

أيّ مهنة للفيلسوف اليوم؟

25 أكتوبر 2024
آراء
أجل، من حقّنا، نحن الذين نفكّر في سياق عربيّ - إسلاميّ وانطلاقًا من هذا السياق وفي تضامن نقديّ معه، أن نتساءل عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الفلسفة في مثل هذا السياق وعن مهنة الفيلسوف عمومًا؟ ولا ريب أنّنا إذا ما تأمّلنا النتاج الفلسفيّ العربيّ - إذا حقّ لنا أن نعتبره فلسفة، وهو أمر لا يمكن أن يتّسع مقال قصير لمناقشته، وقد لا يستطيع من اكتفى بالدراسة السكولائية للفلسفة تتبّعه أو فهمه - سنقف على تصوّرات مختلفة لهذه المهنة، ولكن في النهاية ترتبط هذه المهنة أو تتماهى بمهنة أستاذ الفلسفة، وذلك كما لو أنّ الممارسة الفلسفية تتحدّد بجدران الجامعة أو المؤسسة التعليمية، وإذا حدث وغامرت خارجها، فنادرًا ما تتلقّى الاعتراف الذي تستحقّه. ولكن أليس ذلك المصير نفسه الذي انتهت إليه الفلسفة في الحداثة الغربية؟
ليست الفلسفة وحدها من تحتلّ مكانة دنيا في السياق العربيّ ولكن العقل عمومًا، وقد نبحث عنه عبثًا في سياسات الحكومات المتعاقبة، في العلاقات والمؤسسات الاجتماعية، في العلاقة بالأموات والأحياء، بل وحتى ما تنتجه جامعاتنا وما تنتجه الفلسفة العربية المعاصرة، إذا حدث وغامرت بالتفكير في واقع مجتمعاتها، لن يتجاوز الأمر غالبًا ما يمكن تسميته بالشعبوية الإبستمية، أي تلك التي تكتفي، في رأيي، بدغدغة مشاعر الجمهور العام، وتنشد رضاه وتؤكّد أحكامه المسبقة، وتؤبّد مراهقته الفكرية أو تقف عثرة أمام نضجه.
لكن، إذا ما طلبنا العودة إلى السؤال الذي افتتحنا به هذا المقال، وفكّرنا أيضًا في مضمون هذه المهنة، فسنكتشف أنّها، في الأغلب الأعمّ، ارتبطت بمواقف أيديولوجية محدّدة، مثل الموقف التغريبيّ، أي الفلسفة باعتبارها دفاعًا غير مشروط عن الحداثة ومكتسباتها والذي قد ينزع أحيانًا إلى الفاشية وإلى تبنّي مواقف استئصالية، أو ترجمة المقولات الكبرى للحداثة ترجمة محضة، أي بدون معرفة بسياق الإنتاج وسياق الاستقبال، ويمكن أيضًا أن نعرّج هنا على ذلك الموقف الذي يجيّر الفلسفة لخدمة أهداف سحرية، مثل الدفاع عن هوية حقيقية أم متخيّلة، ولكنّه لا يفعل أكثر من إعادة إنتاج تصوّر محض وغير تاريخيّ عن الهوية... إلخ، وقد نلخّص ونقول بأنّ دور الفلسفة في السياق العربيّ تمثّل إلى حدّ كبير في الدفاع عن مواقف أيديولوجية، فرضتها إكراهات الواقع وفشل المشروع التحديثيّ وارتبط أيضًا بمعرفة ناقصة، انتقائية وغير تاريخية، بالحداثة ومنجزاتها.
أمّا في السياق الغربيّ، فلقد تعدّدت الأجوبة عن دور الفلسفة أو الدور المنوط بالفيلسوف، وكلّنا يتذكّر ما كتبه كانط من أنّه "ليست هناك فلسفة يمكن تعلّمها، فلا يمكننا أن نتعلّم إلا التفلسف"، وهو بالضبط ما لا نتعلّمه لأنّنا نرتبط في صنمية بالنصوص الفلسفية ولا نقرأها من خلال واقعنا وانطلاقًا من أسئلته. لقد كان جيل دولوز محقًّا وهو يحذّر من وطأة تاريخ الفلسفة، بدون أن ننسى ناصيف نصّار الذي ربط الاستقلال الفلسفيّ بالتحرّر من تاريخ الفلسفة ومن سطوة المذاهب الفلسفية الغربية التي تؤبّد اغتراب الفكر العربيّ عن واقع الناس.
إنّ مهنة الفيلسوف، حسب كانط، لا تكمن في تلقين الطلاب علمًا معيّنًا، فالفلسفة برأيه لم تتحقّق كعلم، بل إنّ كانط سيتساءل في "نقد العقل المحض": "أين هي [هذه الفلسفة]؟ ومن يملكها؟ وكيف يمكن التعرّف إليها؟"، لينتهي إلى القول بأنّه لا يمكننا أن نتعلّم ونعلّم إلا التفلسف. لكن ما الذي يعنيه كانط بالتفلسف؟ إنّه يتمثّل في تطبيق التفكير العقلانيّ على الواقع، ولكن في احترام للمبادئ العامة للعقل، وبتعبير آخر، إنّه يكمن في مقاربة الواقع مقاربة عقلانية، ولكن كانط لن يكتفي بذلك، إذ سيؤكّد مباشرةً بأنّ الأمر يتعلّق بممارسة تسمح للعقل بأن يفحص وينتقد، بل وأن يرفض أو يؤكّد ما ينتجه من معارف ومواقف.





وسيكون من التسرّع العودة بهذا التفلسف الكانطيّ إلى بحث شروط إمكان المعرفة الحقّة فحسب، لأنّ الأمر يتعلّق لديه أيضًا بنقد الحاضر، كما يؤكّد فوكو في قراءته للنص الكانطيّ عن التنوير. ولكن على الرغم من هذه القراءة التي يقدّمها فوكو، فإنّ الانتقال من "نقد العقل" - أو كما يترجمه ناصيف نصّار "النقدانية" - إلى "النظرية النقدية" لن يبدأ إلا مع هيجل، وهو ما اضطرّته إليه التحوّلات الاجتماعية الكبرى التي شهدها القرن التاسع عشر، لتصبح مهمّة الفلسفة، مع استثناءات قليلة، لا تكمن في بحث شروط إمكان المعرفة الحقّة فقط، بل وفي العمل على بحث شروط إمكان موضوعاتها، وذلك في ربط بين عمليتي التفسير والتغيير، أو كما كتب هوركهايمر، فالأمر لا يتعلّق "بمراكمة المعارف في ذاتها، ولكن في تحرير الإنسان من أشكال العبودية التي تثقل عليه". وهنا لا نقف على تصوّرين للتفكير الفلسفيّ ولكن أيضًا على تصوّرين للحرّية، فهناك ذلك التصوّر الذي يرى أنّ الحرّية لا تتحقّق إلا من خلال المؤسّسات الاجتماعية أو هي تتحقّق حين تتعيّن في هذه المؤسّسات، وهو التيار الهيجليّ والذي قد يمتدّ حتى جون ديوي في دفاعه عن الديمقراطية كطريقة حياة أو أدورنو ونقده للحرّية الكانطية المحضة وحديثه عن استحالة تحقيق حياة صحيحة في الخطأ، وأخيرًا وليس آخرًا مع آكسيل هونيث في منافحته عن حرّية اجتماعية مقابل الحرّية السلبية التي أسّست لها الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية.
ولكنَّ هناك مِن الفلاسفة مَن سيفهم الحريَّة بشكل جوّانيّ؛ لأنَّه يفهم الممارسة الفلسفيَّة كممارسة جوّانيَّة، ولربَّما يكون أبرز ممثِّل لهذا الاتِّجاه هو إدموند هوسرل، ألم يكتب في الجزء الثاني من كتابه "فلسفة أولى"، في محاضرة تحمل عنوانًا مُعبِّرًا: "حول تأسيس شكل الحياة العادية للفيلسوف المستقبلي": "إنَّه لا يريد كفيلسوف أن يكون شيئًا آخر غير رجل علم، لكنَّه رجل علم حقيقيّ وراديكاليّ، ولا يحرِّكه سوى حبّ الحكمة...". ويؤكِّد في الآن نفسه أنَّ الفيلسوف هو مَن يجترح بداية جديدة، وهي بداية تتحقَّق داخل الوعي وبه. بل إنَّ هوسرل سيجد في الفلسفة ما لم يجده كانط، معتبرًا بأنَّ العلوم الحقَّة، وعلى رغم منهجيَّتها النقديَّة، إلا أنَّها كثيرًا ما تتجاهل قراءة مقدَّماتها أو معطياتها قراءة نقديَّة، عكس الفلسفة.

يكتب بيير هادوت في "الفلسفة كطريقة حياة" بأنَّ "المشكل الرئيس الذي يطرح نفسه على الفيلسوف... هو أن نعرف بالأساس ما التفلسف؟" (Getty)

ولكنَّ المؤرِّق في تفكير هوسرل بالفلسفة يكمن في ذلك التصوُّر المثاليّ عن الفيلسوف، الذي يحرص أشدَّ ما يكون على إخراجه من الحياة وإبعاده عنها، فالفلسفة ستغدو في هذه الرؤية هي الهدف الأسمى للفيلسوف، "وكلُّ ابتعاد له عن هذا الهدف، هو ابتعادٌ عن ذاته، نوعٌ من خيانة الذات". إنَّ كلَّ مهنة اختيرت بحريَّة تتضمَّن بداخلها هدفًا أسمى، يقول هوسرل، وهو ما يعني بالنسبة للذات التي تمارس هذه المهنة أن تتماهى مطلقًا مع هذا الهدف. وللسبب عينه يفرِّق هوسرل بين المهنة كما نعرفها في حياتنا اليوميَّة وبين أن يكون المرء فيلسوفًا، لأنَّ الفيلسوف يعمل على الأفكار المطلقة والمحضة، إنَّ تفكيره يرتبط بالذات وليس بالعالم، ولا عجب أن يميِّز هوسرل دون غيره من الفلاسفة بين "المهنة" Beruf و"الرسالة" Berufung، معتبرًا أنَّ الأمر يتعلَّق بمفهومين بعيدين عن بعضهما بُعد السماء عن الأرض، ذلك أنَّ الرسالة تتحقَّق داخل الفكرة المطلقة أو داخل الأنا ذاتها، في حين أنَّ المهنة، وحتى إذا امتلكت، في تعبيره، "شيئًا من الصحَّة"، فإنَّها تفتقد إلى "نقاوة الإنجاز". وهذا يعني، لا ريب، بأنَّ هوسرل يكتفي بكانط الذي عرفه تاريخ الفلسفة، أو بنقد العقل، مُمعنًا في الابتعاد عن الواقع الذي قد يهدِّد طهرانيَّة الفيلسوف ويعصف بوهمه الجميل.
مُحقٌّ بيير هادوت وهو يكتب في "الفلسفة كطريقة حياة" أنَّ "المشكل الرئيس الذي يطرح نفسه على الفيلسوف... هو أن نعرف بالأساس ما التفلسف؟". إنَّ هذا ما سيدفع مؤرِّخ الفلسفة القديمة إلى العودة إلى الرواقيين والأبيقوريين للدفاع عن تصوُّر للفلسفة، يرى أنَّ التفلسف لا يمثِّل فقط طريقة تفكير، بل هو بالأساس طريقة حياة وربط للنظر بالعمل. لقد مثَّلت الحياة "طريقة وجود - في - العالم، تلك الطريقة التي يتعيَّن ممارستها في كل لحظة، وكان هدفها أن تُحوِّل حياة الفرد بأكملها"، ولكنَّها أيضًا طريقة معيَّنة للوجود في العالم، فهي تطلب العيش في الكون وفي تناغم معه. وعلاوة على ذلك، يتوجَّب أن نفهم هذا الوجود في العالم باعتباره وجودًا في الحاضر، إذ الحاضر بالنسبة للفلسفة القديمة في صيغتها الرواقيَّة والأبيقوريَّة "كافٍ للسعادة". إنَّ الفلسفة بهذا المعنى تقف على النقيض ممَّا يمكن أن نسمِّيه الحياة المُؤجَّلة. لنتذكَّر سنكا في "رسائل إلى لوسيليوس": "بينما نحن ننتظر أن نحيا تنقضي الحياة وتضيع". وعلى الرغم من ذلك، سنعيش حياة أشبه بقاعة انتظار، فيها الأمل مؤجَّل، والمتعة مؤجَّلة والعمل أيضًا مؤجَّل، والحريَّة والحبّ... إلخ، ولن نعدم مَن يبرِّر هذه الانتظاريَّة، بل ومَن يجد فيها المعنى الحقيقيّ للحياة.




ستشهد الفلسفة انقلابًا جذريًّا على حدسها الأوَّليّ أو السقراطيّ وهي تتحالف مع المسيحيَّة في القرون الوسطى أو تتحوَّل إلى تخصُّص من بين تخصُّصات الجامعة الحديثة، وتنتهي بين قبضة مؤرِّخي الفلسفة، أولئك الذين سينحطُّون بها إلى مجرَّد خطاب فلسفيّ كما كتب بيير هادوت، مُتابعًا: "كانت الفلسفة القديمة تقترح على الجنس البشريّ فنًّا للعيش. وعلى العكس من ذلك تبدو الفلسفة الحديثة، فوق كلّ شيء، كتشييد لرطانة تكنيكيَّة مقصورة على المتخصِّصين". إنَّها الرطانة نفسها التي ستنشغل بها الفلسفة في السياق العربيّ، مُؤجِّلة عمليَّة التفكير في الواقع والتفكير في الحياة التي نريدها. نولد ونموت بدون أن نتساءل: أيّ حياة نريد؟ وكثيرٌ منَّا يشعر في خريف العمر بأنَّه لم يعش تلك الحياة التي يريد، أو بأنَّه عاش للآخرين، أو عاش في خوف مستمرّ من حكم الناس عليه. كثيرٌ منَّا يكتشف أنَّه لم يعش. لربَّما تكون مهمَّة الفيلسوف الأولى في سياق عربيّ أن يساعدنا على طرح ذلك السؤال الذي قد يختفي ويتلاشى بسرعة في غمرة الأجوبة التي تحاصرنا من كلّ حدب وصوب.

كتب هوسرل أنَّه لا يريد كـ"فيلسوف أن يكون شيئًا آخر غير رجل علم" (Getty)

هل يمكننا أن نتَّفق مع ما كتبه فرانك بييربون في كتابه "مهنة الفيلسوف" وهو يقارن بين عازف البيانو والفيلسوف، معتبرًا بأنَّ يد الفيلسوف هي في رأسه؟ وأنَّ مهنة الفيلسوف لا مادَّة لها ولا جسد؟ كما لو أنَّ قدر الفيلسوف أن لا يمتلك ما هو أكثر من أيدٍ محضة. ولكنَّه نفسه مَن سيعود ليؤكِّد بأنَّ الفيلسوف يتفلسف دومًا في فضاء حواريّ أو في علاقة بالآخرين وأنَّ مهنته تكمن في التفكير في الزمن الحاضر.
لا يمكن تحديد مهنة الفيلسوف بشكل نهائيّ ومطلق، ففي كلّ سياق تتَّخذ هذه المهنة مضمونًا معيَّنًا، وترتبط بمنهجيَّة أو مناهج محدَّدة، وترتبط بأولويَّات خاصَّة، ولا يمكن للتفلسف أن يكون هو نفسه في كلّ سياق، وإلا ستتحوَّل الفلسفة إلى نوع من الكوسموبوليتيَّة المحضة. إنَّ على الفلسفة أن تتذكَّر بأنَّ دورها هو مساعدة الإنسان على اللحاق بالإنسانيَّة وليس العودة به إلى هويَّة متخيَّلة ومفارقة شأن مختلف "الفلسفات القوميَّة" كما يسمِّيها جاك دريدا، أو الاكتفاء بتبرير الحقائق السائدة. أجل إنَّ على الفلسفة العربيَّة أن تفكِّر في واقع الناس، وفي انفتاح على أشكال التفكير الأخرى التي يمكن للفلسفة اليوم كما الأمس أن تتعلَّم منها الكثير وأعني الفنّ الروائيّ مثلًا، السينما والعلوم الاجتماعيَّة المختلفة، وأخيرًا وليس آخرًا: الدين. كما يتوجَّب عليها أن تدخل في حوار متعدِّد Polylog مع تقاليد فلسفيَّة مختلفة، كما دعا إلى ذلك الفيلسوف الألمانيّ فرانس مارتن فيمر، ومن قبله الخطيبيّ في "المغرب المتعدِّد"، ولكنَّ الغاية من كلّ ذلك تكمن في مساعدة الإنسان على النضج؛ نُضجٌ يتوجَّب أن نفهمه كمرادف للحريَّة والتحرُّر.