Print
جورج كعدي

جاكوب نوسنر: لِمَ ليست قوميّة الشتات؟

28 أكتوبر 2024
آراء

السجال قديم وقائم باستمرار بين اليهود ومؤيّدي الكيان المُختْلَق على أرض فلسطين التاريخية، فالبعض (الكثير) رضي بما يسمّى "إسرائيل" وطنًا قوميًّا لليهود، والبعض الآخر (غير القليل) لم يقبل ولم يقتنع، إمّا رفضًا تامًّا، أو تسليمًا بالواقع، مع تحفّظ وإعلان عدم القبول دينيًّا ودوغمائيًّا بوطن ينشأ قبل مجيء مسيح (مسيا) اليهود المنتظر.
جاكوب نوسنر/ Jacob Neusner أحد أبرز المفكرين اليهود الأميركيين الذين يدافعون عن الوجود اليهودي خارج فلسطين، وعمّا يسمّى "قوميّة الدياسبورا"، أو "قومية الشتات" اليهوديّ، رافضًا المفهوم الصهيونيّ لـ"إسرائيل" كمركز روحيّ ليهود العالم، ومنطلقًا من تعريفين للشعب اليهوديّ، أحدهما دينيّ وثقافيّ، والآخر سياسيّ وقوميّ. فقد تكون للدولة اليهودية مركزيةٌ زمنيةٌ تاريخيةٌ في حياة اليهود، إنّما لا مركزية لها في رأيه في حياة اليهود كأناس يحيون في ظل أوضاع مستقلة، فلا الصهيونية الاستيطانية، ولا "دولة إسرائيل"، يمكنهما أن تكونا محور حياتهم، ولا تملك الصهيونية ما تقوله بالنسبة إلى قضايا الحياة الثابتة الخالدة. يرفض نوسنر بشدّة الصهيونية الاستيطانية في كتابه "اليهودية الأميركية" (1972)، إذ يرى أنّ الصهيونية أصبحت تدريجيًا بديلًا زائفًا من الدين اليهودي، واستولت على الخطاب الديني والرموز الدينية اليهودية، حتى بات كثر يظنون أنّ الصهيونية واليهودية هما شيء واحد. ونتيجةً لذلك، يفشل عدد من يهود أميركا في ممارسة أي نوع من أنواع التسامي الديني والتجاوز الروحي للعالم المادي، فهم بحسب تعبير نوسنر يركّزون جلّ اهتمامهم على أرض لا يعيشون فيها، أي أرض فلسطين، فثمة فرق شاسع بين أن يحلم المرء بأرض موجودة في السماء في نهاية الزمان، أو ببلد يمكن للإنسان أن يذهب إليه إذا أراد. أي أنّ صهيون بالنسبة إلى يهود أميركا لم تبقَ حلمًا دينيًا، بل أضحت تذكرة ذهاب وإياب إلى "إسرائيل" لمدة أسبوعين.
يقول نوسنر في مقالة غاضبة له في صحيفة "واشنطن بوست" بتاريخ 10 آذار/ مارس 1987، تحت عنوان "هل أميركا هي الأرض الموعودة لليهود؟": "لقد حان الوقت للقول إنّ أميركا مكان أفضل لليهود من القدس. إذا كانت هنالك أرض موعودة فنحن الأميركيين اليهود نعيش فيها. فقد ازدهر اليهود هنا، ليس في السياسة والاقتصاد فحسب، بل وفي مجالات الفن والثقافة والتعلّم. يشعر اليهود هنا بالأمان والطمأنينة على نحو لا يشعرون به ولا يستطيعون أن يشعروا به في دولة إسرائيل. وجدوا هنا صوتًا يهوديًا أصيلًا، صوتهم الخاص، يعبّر عن نظرتهم إلى أنفسهم. هذا لا يعني أنّ قرونًا مديدة من التيه قد انتهت. الله وحده يعلم المستقبل.




لكن في الحاضر، وفي أي مستقبل يسع أيُّ امرئ أن يتنبّأ به، تحوّلت أميركا إلى أرضنا الموعودة. هذا يخلق مشكلة، فاليهود الأميركيون، وبعدما أصبحوا يهودًا أميركيين، يُفترض أن يشعروا بالذنب قليلًا إزاء العيش هنا، على اعتبار أن الحياة اليهودية الكاملة لا تتحقّق إلّا في القدس، أي في دولة إسرائيل (...) تقول الرواية إننا جميعًا نندمج في المجتمع الأميركي، وإننا كففنا عن أن نكون يهودًا. ويقال لنا إنّ نحو ستة ملايين يهودي يتزوجون اليوم من غير اليهود، ويقفزون من سفينة اليهودية الغارقة. أمّا أنا فلم أشعر بعد بصدمة الجبل الجليدي، ولا أعتقد أنني أغنّي على ظهر سفينة التايتانيك. أعتقد أن اليهود بنوا حياة يهودية في أميركا قادرة على الاستمرار (...) الحقيقة هي أنّ اليهود قادرون على تحقيق أهدافهم في ظل الحرية. أميركا، المجتمع الأكثر حرية وانفتاحًا الذي عرفه اليهود على الإطلاق، ليست فقط مفيدة لليهود، بل هي أفضل لهم من دولة إسرائيل".

متظاهرون يهود أمام الكونغرس الأميركي يطالبون باعتقال بنيامين نتنياهو (فرانس برس)


يتباهى نوسنر بالحضور اليهودي الوازن في السياسة الأميركية (7% من أعضاء مجلس الشيوخ لنسبة 2% من سكان أميركا)، وفي المناصب العليا بين المسؤولين العموميين في كلا الحزبين الرئيسيين وحكومات الولايات والحكومات المحلية. فالواقع أنّ اليهود، على ما يلحظ نوسنر، يشكلون مجموعة مقبولة تتدفق في شرايين الحياة الأميركية، كما ينتشر اليهود في كل مناحي الحياة هناك، في الجيش والشركات الكبرى والجامعات "وهم لا يواجهون إلّا القليل من العداء، أو لا يواجهونه على الإطلاق"، بحسب تعبيره، مستدركًا: "عندما يقول لنا الإسرائيليون إنّ علينا أن نهاجر خشية أن نذوب في هذا المجتمع ونموت، فإنّهم يستدعون كابوسًا شريرًا (...) لقد بنت الأجيال المهاجرة من اليهود حياة طيّبة في أميركا، وما زال أحفاد أحفادهم يهودًا. صحيح أنهم يهود بطرائق مختلفة عمّا فهمه أجدادهم، فهم يتحدثون الأميركية مثلًا من غير لكنة، وليس الييديشية، ولا يلتزمون عادة بالمحرّمات الغذائية، ويعيشون إلى حد بعيد وفق التقويم الذي يحكم أي شخص آخر، بيد أنهم يحافظون على علامات مجتمع مميّز جدًا، وتدلّ الدراسات الاجتماعية بقوة على التماسك المجتمعي اليهودي".
يرفض نوسنر الغوايات المضلِّلة التي يسوّقها الكيان الصهيوني في فلسطين حول ضرورة اجتماع يهود العالم في مكان واحد يخصّهم وحدهم. يقول: "إنّ الحجة الأكثر تضليلًا التي يسوقها هؤلاء هي أنّ على اليهود الأميركيين أن يستقرّوا في إسرائيل إذا كانوا راغبين في مستقبلٍ يهوديّ، فالجوّ الرحب هنا في أميركا مدمِّر للثقافة اليهودية. كما أنهم يصوّرون لنا أنّ اليهود لا يستطيعون الحفاظ على وجودهم إلّا في ظلّ ظروف من الفصل العنصري، وبذلك فإن دولة إسرائيل تقدّم إليهم الأمل الوحيد. ولكن من أين جاءت هذه الحجة الغريبة؟ عندما نشأت الحركة الصهيونية السياسية في القرن التاسع عشر، كان مفترضًا أن تكون الدولة اليهودية المخطط لها ملجًأ لليهود الراغبين في الذهاب إلى هناك (فلسطين)، أو الذين لم يكن لديهم خيار آخر. ولم يكن واضحًا تمامًا ما سيحصل للآخرين. ظنّ بعضهم أنّ عليهم الاندماج بحيث يعيش سائر اليهود تقريبًا في دولة اليهود. بينما تصوّر آخرون تلك الدولة مركزًا روحيًا، وبمثابة نور للشعب اليهودي أينما عاشوا، وحتى للأمم. لاحقًا، ومع تحقّق دولة إسرائيل، ظهرت مطالب جديدة، ففي دولة إسرائيل فقط يستطيع اليهود أن يعيشوا حياة يهودية كاملة، بل لا مستقبل لليهود إلّا في دولة إسرائيل. أما يهود الشتات (يسمّيه الإسرائيليون "المنفى")، فسوف يذبلون ويذوون (...)، وإذا تمكن اليهود في بلدان أخرى من الحفاظ على مجتمعهم وإيمانهم، فإنهم يغدون معادين للصهيونية، أو حتى لليهودية (...) كأنّ اليهودية تستلزم وجود الغيتو، وكأنّ الحرية ــ وهي خير مطلق للجميع ــ سيئة لليهود. يا له من حكم عجيب على المعنى الإنساني لليهودية!".




يصبّ نوسنر جام نقده وهجائه على الصهيونية ودولتها، قائلًا: "لقد وَعَدَتْ الصهيونية بأن تكون الدولة اليهودية مركزًا روحيًا للشعب اليهودي. ولكن اليوم، في العالم اليهودي كلّه، من الذي يقرأ كتابًا إسرائيليًا، أو ينظر إلى لوحة إسرائيلية، أو يذهب لمشاهدة مسرحية إسرائيلية، أو يستمع إلى موسيقى إسرائيلية؟ إن الفن الإسرائيلي لم يترك سوى تأثير طفيف لدى اليهود الأميركيين الذين لا يتطلعون إلى تل أبيب كمحفّز لخيالهم. بينما في مختلف أنحاء العالم اليهودي، يتطلع الناس إلى أميركا. تستعين إسرائيل بحاخامات تلقّوا تعليمهم في أميركا، وتتبع هذه الدولة أنماط التنظيم المجتمعي التي ابتكرت في أميركا (...) الواقع أن أورشليم ليست نورًا للأمم، ولا حتى لليهود. الدراسات الإسرائيلية مملّة جدًا (...) بعد مارتن بوبر، لم يترك أيّ مفكر إسرائيلي أثرًا خارج نطاق القدس الفكريّ. وبعد غرشوم شوليم، لم يفلح أي باحث إسرائيلي متخصّص بالدراسات اليهودية في كسب أي جمهور خارج دولة إسرائيل. ولا يفتخر علماء الدراسات الإسرائيلية بوجود علماء اجتماع يعملون على المواد اليهودية بطريقة تثير اهتمام أي شخص غير اليهود. تتسم هذه الدراسات الإسرائيلية بالطابع المحلي وتفتقر إلى الخيال، فهي مجرّد كمية هائلة من الترويج لأفكار معيّنة لسياسيين أكاديميين من الدرجة الثالثة. ومن السهل أن ندرك مستوى الخطاب الأكاديمي حين نرى أن اغتيال الشخص قد حلّ مكان نقد الأفكار. في كل مكان في العالم اليهودي، تُقرأ الدراسات اليهودية الطالعة من أميركا، وتصدر الكتب، التي ألّفها اليهود الأميركيون في التاريخ والدين والأدب والفلسفة اليهودية، بجميع اللغات الأوروبية (...)".



ذروة الهجاء للكيان الصهيونيّ يبلغها جاكوب نوسنر بقوله الجريء والصادم: "إسرائيل دولة وكيلة. ليست أسبارطة، أو أثينا. فبعدما حرمت نفسها من الاستقلالية الاقتصادية، وبسبب حروبها المتكررة، أصبحت دولة إسرائيل تعتمد على أميركا السخية (...)، لكن هذا لا يعني الاستقلال. من الصعب فهم كيف ينسجم اعتماد إسرائيل على الدعم العسكري والاقتصادي الأميركي مع الادعاء بأنّ اليهود، إذا ما عاشوا في دولة إسرائيل، يتمتعون حقًا بالاستقلال. لست متأكدًا حتى من معنى الاستقلال هذا". بلوغًا إلى مسألة الدين التي يوضح بشأنها "أنّ ثمة أمرًا واحدًا لم تحلّه إسرائيل بعد، وهو كيفية توفير الحرية الدينية لليهود. فبصفتي حاخامًا محافظًا، لا مكانة لي في دولة إسرائيل، إلّا إذا قبلت وضع الزنديق. لا تدعم الدولة إلّا الأرثوذكسية اليهودية، ولا تعترف إلّا بالأرثوذكسية ذات الطابع البدائي الغريب. لقد نصح الحاخامات الأرثوذكس النساء في هذه الدولة بالابتعاد عن دفن الموتى، لأنهنّ نجسات (!)، تلك حال الأرثوذكسية في إسرائيل. اليهود الإصلاحيون والمحافظون، فضلًا عن اليهود الأرثوذكس، يتمتعون بالمساواة الدينية في أميركا، ولكن ليس في دولة إسرائيل. تهيمن المذاهب اليهودية غير الأرثوذكسية بأعداد هائلة على يهود العالم، إلّا أنّ إسرائيل تعاملها باعتبارها هرطقات. لا يستطيع أي حاخام إسرائيلي، أو أي شخصية دينية أخرى، أن يدّعي ممارسة السلطة الأخلاقية خارج دولة إسرائيل. أي شخصية دينية، خارج الدوائر المحدودة من الأرثوذكس داخل إسرائيل، لا تحظى بأيّ جمهور من أيّ نوع. كما تفتقر الحاخامية الإسرائيلية إلى أيّ مكانة أخلاقية في الشتات، خاصةً بالنسبة إلى اليهود الإصلاحيين والمحافظين الذين يشكلون الغالبية العظمى من اليهود في الولايات المتحدة وكندا (...). بالنسبة إلى اليهود الأميركيين ــ والآن الأميركيين اليهود ــ فإنّ الحلم الأميركي تحقّق. وأتساءل: كم من الإسرائيليين يعتقدون أنّ الحلم الصهيوني قد تحقّق أيضًا!".
المثير في سيرة جاكوب نوسنر (1932 ــ 2016) أنّه (على الأرجح) الكاتب الأكثر غزارةً في التاريخ، إذ ألّف، أو حرّر، أكثر من 900 كتاب. ولد في هارتفورد بولاية كونيتيكت لأبوين يهوديين إصلاحيين. التحق بجامعة هارفارد، ومن ثم بالمعهد اللاهوتي اليهودي في أميركا، حيث رُسم حاخامًا يهوديًا محافظًا، وحاز عام 1960 دكتوراه في الدين من جامعة كولومبيا. درّس لفترة وجيزة في كلية دارتموث، وشغل مناصب أكاديمية في جامعات ويسكونسن ــ ميلووكي، وبرانديز، وبراون، وجنوب فلوريدا، ومن ثمّ في كلية بارد، حيث أنشأ معهد اللاهوت المتقدم مع بروس تشيلتون. ونال العضوية مدى الحياة في كلية كليرهول التابعة لجامعة كامبريدج. من أبرز مؤلفاته "تاريخ اليهود في بابل" (5 مجلدات) و"يسوع الناصري"، الذي نال إشادة البابا بنديكتوس السادس، وعدّ الكتاب الأهمّ على الإطلاق في الحوار اليهودي ــ المسيحي، ولُقّب مؤلفه بـ"الحاخام المفضل للبابا". وكان نوسنر أحد الموقعين على إعلان كورنوال المسيحي المحافظ المتعلق برعاية البيئة، وكان الباحث الوحيد الذي خدم في الصندوق الوطني للعلوم الإنسانية والصندوق الوطني للفنون.

* ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.