Print
نبيل سليمان

أكاذيبنا: الكِتابة والكِذابة

30 أكتوبر 2024
آراء

 

كان كتاب "تاريخ الكذب" لجاك دريدا (1930 - 2004) بترجمة رشيد بازي آخر ما قرأت في وعن وحول الكذب. ويحضرني منه، مما يتصل بهذه المقالة، قول دريدا بتغلغل الكذب في مظاهر الحياة البشرية جميعًا، وحديثه عن انحطاط الكذب، وما نقل من وصف سقراط للإنسان الكذاب الذي ليس من يملك القدرة على الكذب فقط، بل يؤثره على ما عداه!

أما كتابي الأثير من بين الكتب المتعلقة بالكذب فهو "حكمة الكذب" لصولخان سابا أوربيلياني الذي ترجمه الصديق الراحل نزار خليلي (1928 – 2017). ومن حكايات هذا الكتاب البديع التي تتناسل على هيئة حكايات ألف ليلة وليلة: حكاية الخادم الذي لا ينطق بكلمة طيبة. وها هو قد أقبل على الملك بعد غياب، فأمر الملك وزيره بألا يسأل الخادم المشؤوم إلا عن كلبه. ولما فعل الوزير أجاب الخادم: مات الكلب. وتبدأ الحوارية بسؤال الوزير عن سبب الموت، فقال الخادم:

نفق جمل الملك وأكل الكلب من لحمه فمات.
ولكن كيف نفق الجمل؟
ماتت أم الملك فحملوها عليه فنفق.
هنا سأل الملك الذي تقطع قلبه: بأي مرض ماتت؟
فارقت الملكة الدنيا فقتل الحزن عليها الوالدة
وكيف ماتت الملكة؟
حصد الجدري أبناءك وبناتك فقتلتها الصدمة.
هذا يعني أنه لم يبق أثر للقصر.
عندما كنت هناك كانوا يبذرون الحب في قصرك، أما بعد ذلك فلا أعلم.
وقد تبين أن كل ما قاله الخادم هو كذب اختلقه ليُكرب الناس.

إلى هذين الكتابين أضمّ مقالة الكاتب الفلسطيني زياد خداش "أكاذيبنا" لأنها بمثابة كتاب، وأيّ كتاب. وكان خداش قد نشر مقالته في "العربي الجديد" (11/6/2025) وهي تتعلق بكذب المثقفين والأدباء الذي يعلّله بأنه إما أن يكون درءًا لفضيحة، أو استحداثًا لمصلحة، أو خوفًا من العقاب، مثله مثل كذب الناس، غير أنه أكبر وحشية. ويحكم خداش أن الكاتب العربي غالبًا لا يشبه نصه، فهو صادق حين يكتب، وكاذب حين يمارس الحياة.

يصنّف خداش أكاذيب الكتّاب في خمسة أصناف: أولها ادّعاؤهم بأنهم مختلفون عن الآخرين، وثانيها أنهم شعبيون، وثالثها أنهم يتظاهرون بالإعجاب بكتابات بعضهم، فيما الحقيقة هي العكس، فمن نكرهه لا يمكن أن يكون كاتبًا عظيمًا. ولسان حال واحدنا يجزم بأن من لا يكون معجبًا بنصوصي لا يمكن أن يكون مبدعًا. والصنف الرابع من "أكاذيبنا" هو الكذب الهستيري على الصديقات. أما الصنف الأخير فهو أننا لا نقرأ كثيرًا، لكننا ندّعي أننا نقرأ سبع روايات كل أسبوع، وأننا نعرف كل روائيي فرنسا وشعراء أفريقيا... ويختم زياد خداش هذا الهتك الساخر بالتنويه: "هذه آراء شخصية، ربما كنت مخطئًا، ربما نكون نحن الأدباء ملائكة وأنبياء وآلهة. ربما، ربما".

لماذا لا نضيف – مثلًا – كذب هذا الذي يتلمظ كلما أبرقت جائزة، حتى إذا واتته مرة، وفاتته مرات، هدر بزهده وتعاليه، ووصم الجائزة بما فيها وما ليس فيها، وهذا أهون الكذب إذا ما قيس - مثلًا - بمن ولغ في موالاته لنظامٍ طاغٍ منذ شبابه إلى شيخوخته، فلما بدأ النظام يتهالك والسفينة تغرق، انقلب إلى معارض منذ كان فتى غض الإهاب. ولهذا الكذوب نظيره الذي فرّ منذ بدأت سفينة النظام الطاغي تتقلقز، وهو الذي لم يكن له من شر النظام الطاغي نصيب - فلا هو مُنع من سفر مثلًا، ولم يوقع على بيان مناهض للنظام مثلًا -  لكنه في المنفى أو الملجأ أو المهجر يصنع لنفسه تاريخًا من الكذب النضالي الذي تقصر عن أمثلته أطول المسلسلات المكسيكية.


ولأننا في تسونامي الكذب والسياسة، أضف إلى ما تقدّم ما كتبت حنه أرندت (1906 – 1975) عن الصراع بين الحقيقة والسياسة، أو عن قيم الصدق والكذب في الاجتماع السياسي، أو عما تسميه "الكذب الصريح" وهو الباطل المتعمد، و"الكذب الكامل"، وكذلك حديثها عن إمكانات الكذب اللامتناهية، والسبيل إلى هزيمة الأكاذيب لنفسها بنفسها. وأخيرًا، وليس آخرًا، هذه العودة إلى أفلاطون في تمييزه بين الخطأ والكذب، أي بين الباطل الإرادي والباطل اللاإرادي.

لما سمّاه زياد خداش "أكاذيبنا" اسم آخر، قد يكون أكبر غواية وتدقيقًا، هو "الكِتابة والكِذابة". وكنت قد نشرت مقالة تحت هذا العنوان منذ خمسة عشر عامًا، والفضل فيها للروائي السوري الكبير خليل النعيمي. وإنما أعود إليها لأن الزمن الكذوب - والمثقف(ة) الكذوب(ة)، والكاتب(ة) الكذوب(ة)- لا يفتأ يتلاطم سنة بعد سنة وبخاصة كلما غطس في السياسة، بينما لسان حالي يردد الحديث النبوي: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر".

الكِذابة، بكسر الكاف على وزن الكتابة، كلمة أثارت إعجابي حين رأيتها أول مرة في عدد قديم من مجلة "النهار العربي والدولي"، وحسدت عبد القادر علوان الذي ذكر في ذلك العدد أنه أول من استخدم الكلمة. لكن الصديق الرائع خليل النعيمي الذي يدفع بقلمه إلى الكتابة المحرمة والاستفزازية دفعًا، أفاد في بحث له أن ادعاء الكاذب على وزن الكاتب ـ علوان غير صحيح، وأن أول من استخدم الكلمة - المصطلح هو زكي مبارك في نقده لكتابة أحمد أمين.

الكِتابة - الكِذابة - الكاتب - الكاذب - الكُتّاب بالضم والشد - الكُذّاب، وخليل نعيمي يرسل واحدة من لمعاته الفكرية الهامة، إذ يبحث في الكتابة السائدة في الدوريات والكتب العربية، فيشرح وينقد ويهاجم ذلك النمط الضبابي الهمايوني من الكتابة، وها أنذا أحاول أن أفتق الكلام في ذلك.

فالمطابع العربية تجود بغمر من نوعين مما نقرأ، بغمر من نوعين من الكذابة، النوع الأول يدّعي الرصانة والرزانة والإحاطة بأصول البحث، ويزخر بالمصطلحات ويفور بالمفاهيم من كل حدب وصوب، فيزهو ببرقع حضاري وعصري وعالمي وعولمي وحداثي وما قبل وما بعد الحداثي... ويبدو بخاصة بالغ النظافة، لأنه يلامس واقعنا بالقفازات البيضاء، أو يهوّم فوق ما يثير غثيانه من وسخ واقعنا الذي يعج بما لا يحصى من المشكلات، ويطرح ما لا يحصى من الإشكاليات، إلى ما لا ينتهي من متواليات واقعنا الطريف منها والتليد. وكل ذلك لا يعني لدى هذا النوع من الكِذابة - لا الكتابة - شيئًا، ولذلك ينصرف عنه مثقف القفازات البيضاء إلى إرسال القول الهائم في سبحاته، مدعيًا فوق ذلك أنه وحده من يأخذ بيدنا لينتشلنا من درك التخلف الذي نسدر فيه، وتراه سعيدًا لأنه لا يتسخ بقذاراتنا، بينما تغدق عليه الألقاب والهالات والدولارات أو ما يعادلها من العملات المعتبرة، منا ومن سوانا.

أما النوع الثاني من الكِذابة فهو ذلك الذي يدّعي معايشة الواقع، ومخاطبة عقولنا البسيطة ونفوسنا المرهقة، فتراه يدهن على هذا الجرح أو ذاك من جراحنا العميقة، ويمسد على هذا الخدش أو ذاك من خدوشنا العابرة، ويزوّر من أجل ذلك الحقائق الصغيرة والكبيرة، ينط فوق التفاصيل أو يُبرز منها ما لا قيمة له إزاء ما يحجب، يزوغ بالأبصار والبصائر، ويلفت الأعناق عن الوجهة التي يجب أن تتجه إليها. هكذا تقرأ لفلان أو لعلان تحقيقًا صحافيًا أو تعليقًا سياسيًا أو قصيدة أو قصة أو بحثًا في التعليم أو الطلاق أو ارتفاع الدولار... تقرأ وتجهد نفسك لتستفيد مما تقرأ، لكنك تبدأ وتنتهي من دون أن يضيف إليك ذلك الكاتب ـ الكاذب شيئًا، فهو لا يهز وجدانك ولا يعمق بصيرتك ولا يولد تساؤلاتك ولا يبلور أسئلتك. بل إن المرء في أحيان كثيرة يزداد بعد مثل هذه القراءة بلبلة وارتباكًا وضبابية، أو يسترخي، بينما الدود ينغل في عمق الجراح.

ولكن إذا كان كل ذلك من الكِذابة، فماذا تكون الكتابة؟...