Print
سعيد نجدي

الأرض تُغني لغتها...

21 نوفمبر 2024
آراء

 

هل الأرض سوف تتحول إلى أرض إسرائيلية؟ سؤال يخطر في البال. أو بمعنى آخر، هل الأراضي المحتلة في فلسطين، ولبنان، وسورية، سوف تتحدث لغة غير لغة أهلها؟ 

إن هكذا سؤال لهو شيء مشروع على مَلَكة الفِكر، خصوصًا في لحظة الحرب التي تتفلت، على حقول هذه اللغة، من بلدان الطوق، التي تحيط بالكيان الاستعماري، فمعاينة بسيطة على الحقل، نرى أن كل الأشياء تقاتل، ليس المقاتل المقاوم فقط، ببندقيته الذي يخرج من متاعه الرصاص ويوجهه نحو المعتدي بكل بسالة، إنما اللغة تقاتل أيضًا، لتخرج وتغني وتصدح وتقول. والقول هنا بطبيعة الحال يأخذ استعارات شتى، تتصف بأوصاف المقاتل لما تربّى عليه من أدبيات. لكن ليس هنا بيت القصيد، إنما هو كيفية خروج اللغة بكل حماسة من لسان صاحبها، لتواجه من يريد أن يغتصب قولها ويمنع إنصافها، بقتلها، لأن قتل الحامل هو قتل للمحمول، وقتل لتاريخها، بما يشكله من ممثولات للقول ولتعدده، بغض النظر عن تنوعاته، فالمهم هو أن تبقى هذه اللغة تتنفس، وإلا لماذا هذا الصراع الإقليمي الذي يأخذ في طيّاته لغات عدّة، تحاصر لغة الحقل الأصيلة على أرضها.

وهنا تاريخها يطل، لأنه حفر مكانه في الحقل باللغة، وهذا ما تبيته القوى المحيطة، لأنها أيضًا صراع على القول يتدافع ويأخذ أشكالًا دموية في أحيان عدة، وقد تتلبس القوى تلك أهل الحقل بلباسها، عندها يتحدثون لغة خطابها، ولعمري فإن ذلك مرده للبنى اللاواعية التي تحتقر نفسها.

هل يغني الزيتون والأشياء

الأشياء الصامتة قد تبدو لوهلة أنها صامتة، ولكن هي تتحدث بمعنى آخر، لأن نداءها هو حديث على حديث، عندما يأتي الصهيوني ليقتلع شجرة زيتون ويفرغ كامل حقده، إن كان في فلسطين، أو في جنوب لبنان، أو في مكان آخر في الجولان المحتل أيضًا، فإنه يقتلعها، لأن اسمها هو باللغة التي يريد قتلها، وبهذا فهو يقتلع لغتها واسمها، واسم كل الأشياء الأخرى التي يصار معها إلى فعل الإبادة، وما فعل تدمير البيوت، إلا شكل من أشكال قتل اللغة، لأن هذه البيوت هي نفوس الناس التي تستوي على الجدران، والتي تسكن فيها الكلمات، والأوصاف والتعريفات التي تلبسها الأشياء، من الصورة، إلى المزهرية، إلى ركوة البن، وأوراق الكتب التي تنام فيها الكلمات وتغطيها الأوراق بكل عاطفة ودفء.

في البيوت كانت اللغة تغني من خلال الأشياء، في قصص الأمهات، وفي "رقيّة" الجدّات، وأغراض المونة، وتلاوة القرآن الذي يغنى بشكل متصاعد، أو تسابيح السبحات، أو في قراءات الإنجيل، الذي يتلو سيرة الطفل يسوع وأمه الممتحنة.

إن الإبادة وفعل الإزاحة لهذا الآخر الذي هو آخر بما يتحدث لسانه، وما يكتنفه هذا اللسان من معانٍ. من هنا فإن تدمير البيوت التي تتغنج فيها الحيطان والرفوف بما تحمله من كتب، هو قتل للغة، لكتب التراث لابن المبرد، والسيوطي، والثعالبي، وابن هشام، وابن مالك، وحتى لكتب الحداثة، وخصوصًا الشعر الحديث، من ناحية الموضوع، بفعل تغيّر الأحداث، والتي كانت اللغة تستطيع أن تقول شيئًا آخر مع الحداثة في الموضوعات وهنا قوتها، بتجديد نفسها واستعاراتها وكناياتها. كم شاعر استشهد في غزة، صدرت لهم دواوين، من شعر ونثر.

الأودية تغني، في الحجير، وصاحب الجلالة الجليل السامي، وكذلك الشط في صور وغزة، ونهر الأردن ونهر الليطاني، كل هذه الأشياء تغني لغتها، من خلال أسمائها، لذلك عمد العدو الصهيوني إلى استبدال أسماء القرى في فلسطين المحتلة، إلا أنها سوف تبقى تحمل أسماءها، لأنها أصلية، وبالتالي فإن العدو لأنه الغريب، سيبقى خائفًا ويعيش صراعه الوجودي من الداخل، وسوف يبقى هكذا مهما عوض بالقتل والجرف.  

هل تقاتل اللغة                    

اللغة تحدث عن نفسها بنفسها، وعندما تصبح وحيدة، فإنها تقاتل وحدها، وخصوصًا عندما يهجر أهلها بنية تفكيرهم، وهذا ما نراه ماثلًا، على سبيل المثال، في إعانة العدو على الأهل، أي على اللغة، يجاهر العدو الصهيوني بقوميته القرابية بالعداء للعرب، والعرب قومية على النقيض ليست قرابية بقدر ما هي ثقافية لسانية، تجمع العديد من الأديان والأعراق، وبسبب أنه كانت لها صفة عالمية في مراحل لغة العصر الفكري والعلمي، إلا أنها ما تزال تقاتل. سمة هذه اللغة أنها تتقبل كل آخر وتستوعب شتى القوميات والأديان، والدليل أنه كتب بلغتها أبناء آسيا من ترك وفرس وغيرهما، إلا أن الإشكالية أن العدو اليوم لا يعترف بها، لهذا كانت دول المنطقة تعطي العدو وتتنازل، إلا أن العدو لم يعطِ شيئًا، أي أن التنازل والاعتراف كان من طرف واحد.     

تفرش اللغة كلماتها بين الحقول، وعند أعتاب الوديان، وعند أسماء البروج العالية، المليئة بالنجوم، نجم سهيل، نجم الدب الأكبر، والفرس الأعظم. وتبقى اللغة تفصح عن نفسها بعيون المقاومين، والناس الذين هم الزمان والثقافة التي تشكل فيها اللغة الرافد الأهم، لأنهم الإرادة التي لا تستلم ولا تسلم فيها اللغة، لأنهم في حالة قول دائم، وصراخ، وقتال، وتشبيه، وتعبير، وألم يغني باللغة، بالفكر، والشعر، والفن. في غزة بقي الناس إلى الآن بالرغم من كل هذه الفجيعة، ينتجون كلامًا، وفنونًا، وشعرًا، أي أن اللغة ما تزال تقاتل، وهنا قوة الثقافة، فليس بالسيف وحده يقاتل الإنسان، إنما بالثقافة أيضًا التي هي إرادة العيش والبقاء. أبناء الجنوب أيضًا، الذين يقاتلون على الحافة الأمامية، يقاومون بأسمائهم وباستعارات اللغة؛ هم يقولون إن هذه الأرض هي أرض عربية، بعيدًا عن الانتماءات والهويات التي قد نختلف حولها، إلا أننا أخيرًا أبناء هذه اللغة، وكل شيء ينضج ويستوي مع الأيام، وكل شيء ينتهي، لكن اللغة تبقى، تستبدل الهويات، ولكن الاقتدار هو للّغة وثقافتها التي تغنيها الأرض.