Print
إدريس الخضراوي

عبّاس الجراري: الأدب المغربي وضرورة تجديد التفكير في تاريخه

13 فبراير 2024
آراء
يعدّ الأستاذ عباس الجراري (1937-2024) الذي رحل عن عالمنا عن 87 عامًا، أحد أبرز أعلام الثقافة والفكر في المغرب المعاصر، بالنظر إلى الأبعاد الغزيرة لعطائه، وإسهامه النوعي في إغناء متن الثقافة المغربية والعربية بالعديد من الأعمال والدراسات والأبحاث التي تردّدت أصداؤها بقوة داخل المغرب وخارجه، وشكلت مرجعًا أساسيًا بحيث لا يمكن الاستغناء عنها للتفكير في الأدب، والثقافة، والفكر، ليس من منظور مغربي وعربي فحسب، وإنما أيضًا من منظور إنساني وكوني، لأنّ الرّجل عرف أيضًا بدفاعه القوي عن القيم الإنسانية والحضارية التي تجسّد التفاعل، والحوار، والتعايش بين الشعوب بغضّ النظر عن اختلاف الديانات والأعراق. وإذا كان من الصعب الإحاطة بكلّ أعماله التي بلغ مجموعها ما يناهز خمسة وعشرين مؤلفًا[1]، والتي هي محصّلة خمسة عقود من البحث والدرس والكتابة المشغولة بما يطرحه الواقع المجتمعي والثقافي والتاريخي على صاحبها، فإننا في سعينا لتسليط الضوء على فكره الأدبي، وفهم إسهامه في تجديد درس الأدب المغربي سنركز على زاوية محددة انطلاقًا من مؤلّفه "الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه" (1977).

إذا بدأنا بالسياق، سنلاحظ أن الحياة الثقافية في المغرب شهدت تغيرات مهمة منذ الثلاثينيات من القرن الماضي تمثلت في صدور مجموعة من الصحف بالعربية، وفي ظهور الروح الوطنية بشكل قوي ولافت في نصوص الشعراء والكتاب، وفي مقالات النقاد والمثقفين. ولم يكن هذا التوجّه البارز غريبًا بالنسبة لمسألة حيوية مثل الثقافة التي هي كما يقول الناقد المغربي نجيب العوفي "مجال حساس لتجليات الإنسية المغربية، وسجل لخصوصيتها وذاتيتها في أدقّ خوالجها ونوابضها"[2].

من أهمّ العلامات التي وسمت هذا الوعي الوطني، الاهتمام بما سماه الناقد بشير القمري بـ"الظاهرة المغربية"[3] في الثقافة والأدب والفكر، حيث توجه النقد المغربي إلى كتابة تاريخ النبوغ المغربي كما يتجلى من كتابات سعيد حجّي، ومحمد عبّاس القبّاج، وعبد السلام العلوي، وأحمد زياد وعبد الله كنون وآخرين. لا شكّ أنّ التعرّف على الجهود النقدية السباقة إلى تنظير الأدب المغربي الذي حقق على امتداد القرن العشرين تراكما كميا وتحولات نوعية لافتين للنظر[4]، يقتضي التوقف عند المحاولات الرائدة التي دشنت البداية الفعلية لوضع الأدب المغربي موضع تفكير وتساؤل، وذلك بهدف بناء مفهومه، وضبط حدوده، والكشف عن مظاهر تميزه وإضافته للأدب العربي بصورة عامّة. في هذا السياق نعتقد أنّ تتبع ما كتبه مجموعة من الأدباء والنقاد المغاربة كمحمد بلعباس القباج في كتابه: الأدب العربي في المغرب الأقصى (1927)، وعبد الله كنون في: النبوغ المغربي في الأدب العربي (1938)، ومحمد بن تاويت: الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى (1984) سيقودنا إلى تلمّس السّمات التي طبعت التفكير النقدي والنظري في الإبداع الأدبي المغربي بتجلياته المختلفة. إذ من المعروف قبل هذه المحاولات أن الأدب المغربي كان يفتقر إلى دراسة منهجية تتناول مكوناته وقضاياه وظواهره، وبالتالي تبرز الذات المغربية وتؤكدها بشكل يردّ على أشكال التنكر أو التجاهل التي طاولت إسهام هذه الذات في الصرح الحضاري الإنساني.


يمكن تقسيم الخط الزمني للتفكير في الأدب المغربي إلى مرحلتين مهمتين، الأولى برزت في النصف الأول من القرن العشرين عندما أصدر محمد بلعباس القباج مؤلفه: "الأدب العربي في المغرب الأقصى" سنة (1927)، وهو عبارة عن مختارات شعرية رمى من خلالها التعريف بالشعرية المغربية، وتبيين ما تنطوي عليه من مقومات فنية تتعين بوصفها إضافة لماحة للشعرية العربية بصورة عامّة، وأيضا بصدور كتاب "النبوغ المغربي في الأدب العربي" للأستاذ عبد الله كنون سنة 1938. أما المرحلة الثانية فتبدأ منذ النصف الثاني من القرن العشرين، منذ أن حقق المغرب الاستقلال، أو قبل هذه الفترة بقليل. وقد برز خلالها توجهان اثنان شدّد أولهما على الاستفادة من الحداثة في تطوير الأدب المغربي بالانفتاح على الأجناس الأدبية الجديدة، كالرواية والقصة والمسرحية والشعر المعاصر، وفي هذا السياق ستنهض مجموعة من المجلات بدور محوري في شقّ صدر الأدب المغربي على رياح الحداثة التي كانت تهبّ بقوة على المنطقة العربية بصورة عامة. من بين المجلات التي يمكن الإشارة إليها على سبيل المثال مجلة "المعتمد" (1947) التي أسستها الشاعرة الإسبانية ترينا ميركادير Trina Mercader، وجاء اسم المجلة على اسم المعتمد بن عباد، حاكم إشبيلية وشاعرها، ومجلة "كتامة" التي أنشأها خاثنطو لوبيت كورخيه Jacinto Lopez Gorjé عام 1953.
تميزت مجلة "المعتمد" باهتمامها بالشعر المغربي، وفتحت المجال للتفكير في قضاياه بأقلام مجموعة من الشعراء والكتاب المغاربة في تلك المرحلة في طليعتهم المرحوم عبد الله كنون، كما شكلت جسرا بين الشرق والغرب، عندما انفتحت على الشعرية العربية ممثلة بأبرز رموزها كميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وفدوى طوقان وغيرهم. ولا شكّ أن العناصر المختلفة التي كان الأدب المغربي يتلقاها في هذه المرحلة، تبيّن إلى أي مدى أن التأريخ للحداثة الأدبية في المغرب، ينبغي أن يأخذ في الاعتبار أهمية التمييز بينها، سواء أتعلق الأمر بالرافد العربي الذي لم يكن هو الآخر بعيدا عن التأثر بالحداثة الإسبانية، أو بالرافد الأوروبي بتنويعاته المختلفة. هذا التمييز من شأنه أن يساعد على فهم الشروط التي أحاطت بتكون الأدب المغربي الحديث، كالشروط الخاصّة بالأدب في حدّ ذاته كموضوع لساني وجمالي وخطابي، والشروط المتعلقة بباقي الأنساق الثقافية والاجتماعية. أما في الستينيات فيمكن الإشارة إلى مجلات من قبيل "آفاق" (1963)، ومجلة "القصة والمسرح" (1964)، و"أنفاس" (1966)، و"لاما ليف" (1966)، و"الثقافة الجديدة" (1974). يسمح لنا تصفح هذه المجلات بفهم ما كان يشغل كتابها ومثقفيها من همّ يتمثل أساسا في السعي لبناء ثقافة مضادة، وأدب مغربي مغاير يسكنه هاجس التعبير عن الخطابات التي تخترق المجتمع، وتؤثر في لا وعيه الثقافي. أما التوجّه الثاني الذي برز في هذه المرحلة فقد مثله الناقد المغربي الأستاذ عباس الجراري الذي عمّق ما بدأه عبد الله كنون في "النبوغ المغربي"، مستفيدًا من الفورة التي بدأت تشهدها مناهج الدراسات الأدبية بالمغرب، وأيضا من الإمكانات التي فتحتها الجامعة المغربية لتعميق البحث في تاريخ المغرب الثقافي والسياسي والاجتماعي، وقد تمثل هذا التوجّه عند الجراري في نزوعه لتأصيل النظر في الأدب المغربي من خلال الحفر في طبقاته المتعددة، والكشف عما يخترقه من ممارسات وأنواع.

في عام 1977 سيصدر الجراري كتابه "الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه"، وهو كتاب اندرج في سياق شهد تبلور مجموعة من الجهود الفكرية الطليعية في حقل الثقافة المغربية، وشكلت ما صار يعرف بـ الفكر المغربي المعاصر. في هذه المرحلة إذًا تميز الفكر المغربي، كما يقول الأستاذ كمال عبد اللطيف، بانتشار المفاهيم الفلسفية وتداولها داخل مجالات معرفية محددة. "كما أن الاهتمامات الفلسفية الواسعة بمجال البحث في الإنسانيات وتاريخ الأفكار والفنون والرموز والعلامات، ساهمت بدورها في إنتاج نصوص مخترقة لكلّ تنميط أو تصنيف مغلق"[5].

من بين الإسهامات التي شكّلت منعطفًا في حقل الفكر المغربي المعاصر، تبرز بقوة جهود محمد عابد الجابري سواء في إعادة قراءة التراث (نحن والتراث) أو في دراسة العقل العربي، وبنياته، ومكوناته (مشروع نقد العقل العربي) أو في دفاعه عن الفلسفة والفكر في الغرب الإسلامي، واهتمامه اللافت بابن رشد والفارابي وابن سينا، أو في تشديده على أهمية الحداثة مثلما يتضح من الحوار الذي دار بينه وبين المفكر المصري حسن حنفي، ونشر على صفحات مجلة "اليوم السابع" (1989)، قبل أن ينشر في كتاب بعنوان: حوار المشرق والمغرب (دار توبقال 1990). كما أن ما أنجزه المؤرخ عبد الله العروي يكتسي أهمية مضاعفة ليس فقط لجهة إعادة كتابة تاريخ المغرب من منظور جديد يستند إلى مفهوم جديد للإستوغرافيا، وإنما أيضا في تفسيره مظاهر التقوقع والتراجع والنكوص التي طبعت الثقافة العربية منذ العصر الحديث، وفي هذا السياق يمكن الاستشهاد بكتابه: "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" (صدر الكتاب بالفرنسية عام 1967، وصدرت ترجمته إلى العربية عام 1970) الذي لا يزال يمثل أحد أبرز الأعمال التي يرجع إليها الباحثون والمفكرون[6]. وثمة مساهمة أخرى ذات أهمية محورية في حقل الفكر المغربي العاصر، هي التي قام بها المفكر وعالم الاجتماع عبد الكبير الخطيبي في كتابيه: النقد المزدوج [د. ت]، وفي الكتابة والتجربة (1980). دعا الخطيبي إلى التعامل مع أوروبا من منظور جديد، وذلك من خلال "العمل على أنفسنا بصورة شاملة وإعادة التفكير في أوروبا بدلا من التعامل معها برعب ويأس وامتعاض"[7]. في هذا السياق يقول المفكر المغربي محمد نور الدين أفاية إن "الخطيبي يطالب بإعادة النظر المستمرة في أساسيات السوسيولوجيا الغربية، وكذلك في الفكر الاجتماعي الذي أنتجه الفكر العربي الوسيط أو المعاصر عن مجتمعه. من هنا ضرورة القيام بكتابة جديدة على مستوى الفكر الاجتماعي، كتابة نقدية غير مهادنة تتجه نحو محورين، يتعين إخضاعهما كموضوع للتفكيك داخل عملية الكتابة والتفكير"[8]. وما يستشفّ من كلام أفاية هو أن مشروع الخطيبي النقدي يتميز بكونه نقدًا مزدوجًا، فهو يتجه بالتفكيك والنقد، في الآن ذاته، نحو التقليد الغربي من جهة، والفكر العربي الإسلامي من جهة ثانية من أجل تفكيك المفاهيم الموروثة المهيمنة.

ضمن هذا الاتجاه النقدي الذي ميز فضاء الفكر المغربي المعاصر إبّان السبعينيات، وما تخلل هذه الفترة من جهود بحثية متعددة في الفكر والثقافة والأدب والفن، تأخذ مساهمة الأستاذ عباس الجراري موقعها في حقل التفكير في الأدب المغربي. وإذا كان محمد بلعباس القباج وعبد الله كنون يمثلان بعمليهما السابقين المحاولة الأولى للتأريخ للأدب المغربي أو لبناء نظرية الأدب المغربي، فإن عباس الجراري سيمثل خطًا مميزًا ضمن المحاولة الثانية التي ستعطي لهذا التاريخ المقومات المنهجية، وطرق الاستدلال، كما ستمنح هذه النظرية نقط ارتكاز أكثر صلابة من تلك التي قامت عليها الجهود السابقة، لدرجة أن الناقد المغربي نجيب العوفي ذهب إلى القول بأنه مع الجراري "بدأ يتأسس نمط جديد من التفكير في الأدب المغربي، وأن أفقا جديدا للبحث بدأ يشق طريقه ويحتفر أرضه"[9]. من بين العوامل التي ساعدت الجراري على النهوض بهذه المهمة الصعبة المتمثلة في بناء مفهوم الأدب المغربي، "موقعه داخل الجامعة المغربية الذي كان فرصة ذات بال للانتقال بنظرية الأدب المغربي من الكتابة ذات البعد الوطني والإيديولوجي، إلى الكتابة الأكاديمية، وفرصة ذات بال للانتقال من إقصائية النظرية القديمة إلى إدماجية النظرية الجديدة التي صار هو المعبّر عنها، ورمزها"[10].

تتبع ما كتبه مجموعة من الأدباء والنقاد المغاربة كمحمد بلعباس القباج وعبد الله كنون ومحمد بن تاويت سيقودنا إلى تلمّس السّمات التي طبعت التفكير النقدي والنظري في الإبداع الأدبي المغربي


يعدّ الوعي بالبعد التاريخي من أهمّ المقومات المنهجية التي قام عليها كتاب: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، ما يجعل منه أهمّ المحاولات النقدية التي تقصّدت إبان السبعينيات إلى إعادة قراءة الأدب المغربي بالاستفادة من التطورات والمكاسب التي تحققت في مجال نظرية الأدب (في هذه المرحلة ظهرت الترجمة العربية لكتاب: نظرية الأدب للناقدين رينيه ويليك وأوستن وارين). وإذا عرفنا أنّ الأدب المغربي لم يكن يحظى بالاهتمام من قبل مؤرخي الأدب، وأنّ كتب تاريخ الأدب التي أنجزها النقاد المشارقة كانت من منظور الجراري "تؤرخ للأدب وفق نظرية تعتمد ربط الأدب بالسياسة، وبالسياسة في منطقة محددة، مما جعل مؤلفيها يقعون في أخطاء كشفت عن عيوب منهجية واضحة، مرجعها أن السياسة لم تكن تسير في اتجاه واحد في جميع البلاد العربية، وأنها مهما تكن لا تنهض بأحداثها وتطوراتها المفاجئة مقياسا للأدب أو موجها له"[11]. إذا عرفنا هذا كلّه، يتضح لنا أن القراءة التي دشنها عباس الجراري، بما توفر لها من مقومات منهجية وقوة استدلالية، من شأنها إعادة الاعتبار للأدب كفاعلية أساسية وأولية بالنسبة للمغاربة. وبالتالي إعادة تأهيل دوره وإسهامه في إبراز المشاركة المغربية في بناء الصرح الحضاري الإنساني. ومن هذا المنظور، إذا فكرنا في المقومات التي ميزت مقاربة الجراري للأدب المغربي، فإن ما يلفت انتباهنا هو وعيه بأهمية هذا البعد التاريخي في أي محاولة علمية لكشف النقاب عن وضع الأدب سواء في الماضي أو الحاضر. فالأدب باعتباره بنية إبداعية إذا "كان يرتبط ببقية بنيات المجتمع الذي ينبع فيه مبدعوه، فإنه لا مناص له من أن يتأثر بمختلف العناصر الجدلية التي توجّه حركة تاريخ هذا المجتمع وتتحكم في تشكيل نمطه وتكوين شخصية أفراده"[12]. لنقل إن هذا الوعي بالبعد التاريخي للظاهرة الأدبية وبعلاقتها بالمجتمع هو الذي مكّنه من تشخيص المشاكل التي تعتري أي محاولة لكتابة تاريخ الفكر والثقافة المغربيين، ومن بين هذه المشاكل التي نبّه عليها المؤلف في مقدمة الكتاب ما يلي: أولا: اتسام تاريخ المغرب بكثير من القطائع والفراغات لأسباب سياسية داخلية أو خارجية، ما يجعل أي محاولة للنظر إلى الشريط الحضاري والثقافي للمغرب يعوزها ذلك الكيان الموحد المتكامل عبر التاريخ. ثانيا: وجود قطائع داخل العهد الواحد، ما أدى إلى ضياع تراث مهم قد لا ينتبه إليه المؤرخون. ثالثا: قلّة المادة الكافية لكتابة تاريخ الثقافة المغربية بسبب الصراعات المذهبية بين العلماء.

ما العمل إذًا إزاء هذه العوائق التي تنتصب أمام الباحث؟ تستند الإجابة التي يقدّمها الجراري أساسا إلى عملية نقد التجارب السائدة في التأريخ للأدب العربي، خاصة تلك التي تربط الأدب ربطا مباشرا بالسياسة دون أن تستحضر أن السياسة لم تكن تسير في خط واحد في جميع البلاد العربية. ومن المزالق المنهجية التي سقطت فيها تلك الدّراسات، اهتمامها ببعض الأقطار العربية وإهمال أقطار أخرى، مثل المغرب الذي لا نجد له حضورا في هذه الأعمال. ولعلّ البديل الذي يطرحه الجراري ها هنا هو الإقليمية، وهو لا يقصد بها التقوقع والانعزال أو تضييق الأفق، بل يعتبرها "الوسيلة الوحيدة للمّ شتات الأدب العربي في كلّ الأقطار التي أبدعته، والوسيلة كذلك للعالمية والإنسانية"، ويضيف بأنه "كلما قسم نطاق الإقليم في الدراسة إلى بيئات صغيرة، كانت دراسة الإقليم مكتملة مستوفاة"[13].

بهذا المعنى يقدّم الجراري تصورًا مختلفًا لتاريخ الأدب لأنه يشدّد على أهمية الوعي بالتاريخ أولًا وبالأدب ثانيًا. لا يمكن للباحث الذي يعنى بالتاريخ الأدبي أن ينجز عمله دون أن يستند إلى وعي محدد بالتاريخ، وبالقضايا المنهجية والأدوات الملموسة لعمل المؤرخ، وأيضًا بالأدب ومفهومه في فترة محدّدة، وبالتالي أن يتبنّى الباحث خطابًا ملائمًا ومقبولًا حوله. ولعل من أهمّ مرتكزات مفهوم الجراري للأدب هو أولًا الاهتمام بنوعيه الشعبي والمدرسي، وهنا تتجلى الرؤية التكاملية للأدب باعتباره أحد أهمّ الخطابات التي تتجلّى فيها الثقافة المغربية بأبعادها المختلفة، وثانيًا اعتبار مفهوم الأدب شاملًا لكل الإنتاج الفكري، وبالتالي لا يقتصر على الشعر والنثر، وثالثًا الاهتمام بالأدب قديمه وحديثه وإبراز ظواهره وقضاياه. لنقل إن هذا الوعي عندما يتبلور عند الناقد، فهو يتيح له من جهة اختيار المادة على أسس واضحة، كما يساعده على طرح الأسئلة المناسبة حول تلك المادة، ولا يهمّ بالطبع أن تكون الأجوبة نهائية أو قطعية، لأن التاريخ للأدب يظلّ عملا مفتوحا على إمكانيات التطوير والتوسيع.

رغم أننا يمكن أن نلاحظ تأرجح الجراري بين عدة مفاهيم للأدب، كما يمكن أن نلاحظ علاقته الحذرة بالمناهج الأوروبية التي كانت سائدة في هذه المرحلة، وخاصة في مجال تاريخ الأدب، فإننا يمكن أن نسجل حرصه على التفاعل مع تلك المناهج من منظور خاص يخدم رؤيته للأدب المغربي باعتباره مرآة للذات والمجتمع، وكذلك باعتباره وثيقة تاريخية يمكن أن نتعرّف انطلاقًا منها على طبيعة المساهمة المغربية في الثقافة العربية خاصة، وفي التراث الإنساني بصورة عامة. مع ذلك، نعتقد أن التفكير في الأدب المغربي استطاع، مع عباس الجراري، أن يرتاد أفقًا جديدًا، ليس فقط على مستوى المقاربة المنهجية الواعية بأدواتها وافتراضاتها، وإنما أيضًا على مستوى مفهوم الأدب، حيث يغدو ها هنا موضوعًا مهمًا للتأمل والتفكير والنقاش. وعن الأهمية التي يكتسيها التفكير في الأدب، كتب الناقد المغربي محمد برادة: "نعتقد أنّ التفكير في الأدب ونظرياته، ودوره، وعلائقه بالعالم وبالخطابات الأخرى... يجب أن يحتلّ مكانة أساسية في النقد العربي، لأنه يسعف على وضع التحليلات والأبحاث داخل إطار واضح يبدّد كثيرًا من الالتباسات الإبستمولوجية والمصطلحية"[14].

هوامش: 

[1] من بين الأعمال التي صدرت للأستاذ عباس الجراري: القصيدة: الزجل في المغرب، الرباط، مطبعة الأمنية، 1970، الحرية والأدب، الرباط، دار الأمنية، 1971، الثقافة في معركة التغيير، الدار البيضاء، دار النشر المغربية، 1972، موشحات مغربية، الدار البيضاء، دار النشر المغربية، 1973. (ط. 2، كلية اللغة بمراكش ، 1992)، الأمير الشاعر أبو عبد الربيع سليمان الموحدي، الدار البيضاء، دار الثقافة، 1974، من أدب الدعوة الإسلامية، الدار البيضاء، دار الثقافة، 1974، في الشعر السياسي، الدار البيضاء، دار الثقافة، قضية فلسطين في الشعر المغربي حتى حرب رمضان، المحمدية، مطبعة فضالة، 1975، وحدة المغرب المذهبية من خلال التاريخ، الدار البيضاء، الجمعية المغربية للتضامن الإسلامي، 1986، صفحات دراسية من القديم والحديث، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1977، فنية التعبير في شعر ابن زيدون، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1977، ثقافة الصحراء، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1978، معجم مصطلحات الملحون الفنية، مطبعة فضالة، المحمدية، 1978، الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، الجزء الأول، مكتبة المعارف، 1979، الفكر الإسلامي والاختيار الصعب، منشورات الجمعية المغربية للتضامن الإسلامي، الدار البيضاء، 1979، عبقرية اليوسي، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1981، أثر الأندلس على أوروبا في مجال النغم والإيقاع، مطبعة المعارف، الرباط، 1982، الفكر والوحدة، مطبعة المعارف، الدار البيضاء، 1984، معركة وادي المخازن في الأدب المغربي، وزارة الثقافة، الرباط، 1985، العالم المجاهد عبد الله بن العباس الجراري، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1985، عبد الرحمن بن زيدان بالاشتراك مع الأستاذين سعيد بنسعيد العلوي وأحمد توفيق – 1998، بحوث مغربية في الفكر الإسلامي، مطبعة المعارف، الرباط، 1988، في الإبداع الشعبي، مطبعة المعارف، الرباط، 1988، خطاب المنهج، منشورات السفير، مكناس ، 1990، تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب من 1830 إلى 1990م، منشورات النادي الجراري، 1997.

[2] نجيب العوفي، التفكير المغربي في الإبداع الأدبي، مجلة الثقافة المغربية، العدد 16، مايو 2000، ص116.

[3] بشير القمري: جينيالوجيا الخطاب النقدي عند عباس الجراري، في: الأدب المغربي إشكاليات وتجليات، منشورات كلية الآداب، الرباط 2006.

[4] عبد الحميد عقار، مسارات الأدب المغربي الحديث، في: الأدب المغربي: مداخل للتفكير والسؤال، سلسلة موائد مستديرة، رابطة أدباء المغرب، الرباط 2000، ص9.

[5] كمال عبد اللطيف، الكتاب الفلسفي في المغرب سنة 99، مجلة الثقافة المغربية، العدد 16، مايو 2000، ص5.

[6] عبد الله العروي: الأيديولوجيا العربية المعاصرة، نقله إلى العربية محمد عناني، الطبعة الثالثة (دار الحقيقة، 1979، مقدمة بقلم مكسيم رودنسون، ص5،6).

[7] إليزابيت سوزان كساب، الفكر العربي المعاصر دراسة في النقد الثقافي المقارن، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2016، ص323.

[8] محمد نور الدين أفاية، في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته التطبيقية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2014، ص225.

[9] نجيب العوفي، التفكير المغربي في الإبداع الأدبي، مقال سابق، ص119.

[10] الأدب المغربي: إشكالات وتجليات، م م، ص213.

[11] عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، ط 2، مكتبة المعارف، الرباط 1982، ص6.

[12] عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، ص3.

[13] عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، 8.

[14] محمد برادة، الأدب: الوضع الاعتباري، الوظيفة والأفق النظري، في: الدراسات الأدبية الجامعية بالمغرب، منشورات كلية الآداب، الرباط 1991، ص199.