تطرح الرواية السادسة للأستاذ سعيد بنسعيد العلوي وعنوانها مجهول الحال (المركز الثقافي العربي، 2024) أسئلة متعددة، وهي تضع الذين يعرفون الباحث أمام تركة روائية ترفع صاحبها إلى درجة امتلاك تجربة متميزة في فن الرواية، خاصة وأنها ارتبطت في مرحلة إنتاجها بسنوات النضج، وخبرة سنوات طويلة من البحث في الفكر الإسلامي وفي الفكر السياسي الحديث. صدرت روايته الأولى مسك الليل سنة 2010 بعد أزيد من ثلاثة عقود على إعداد دراسته الجامعية عن الفكر السياسي للماوردي الصادرة سنة 1980. وتلاحقت أعماله الروائية الأخرى: الخديعة (2011)، ثورة المريدين (2016)، سبع ليال وثمانية أيام (2017) وحبس قارة (2021). تضعنا هذه الأعمال أمام رصيد من الكتابة الروائية المتنوعة بموضوعاتها وطرائق بنائها وكتابتها، وتجعلنا نقف أمام تجربة من تجارب الكتابة الروائية المغربية والعربية، كما تدفعنا إلى التفكير في الجاذبية التي أصبحت تقدمها الرواية في عالم جديد، تطورت فيه المعارف والفنون، كما تطورت أساليب السرد وأنماط هندسة أعماله. وأتصوّر أن سعيد بنسعيد العلوي عندما أغلق أبواب مقاطع روايته الأخيرة مجهول الحال، لم يعد بإمكانه أن يتخلى عن لعبة البناء والتخييل والترتيب، فقد بدأ يستأنس بمزايا الصنعة الروائية المفتوحة على عوالم وآفاق لا حدود لها. نتأكد من هذا، عندما نكون على بينة بأن لعبة السرد في أغلب رواياته تقترن بالبحث والإعداد، كما ترتبط بنظام تكوينه العام، ونظرته للرواية وما يرتبط بها من فنون القول وجميل الترسل والتداعي.
نتجه في هذه المحاولة لتقديم روايته الأخيرة، ونسجل أن عتبة عنوانها قوية بمفردتي المجهول والحال، وقوية بالتركيب الجامع بينهما والموضوع فوق غلافها: مجهول الحال. سيفتح القارئ أعينه على العنوان، وسيرافقه البحث عن هذا المجهول وأحواله طيلة صفحات الرواية (208 صفحات من القطع المتوسط)، حيث سيلتقي به، دون أن يرتفع الغموض عنه وعن مواقفه ومصيره. ولا بد من الإشارة في بداية هذه القراءة إلى أن الرواية بحكم موضوعها، المتعلق بالثورة المسلحة التي سُمِّيَت بثورة مولاي بوعزة بالأطلس المتوسط، وتمت يوم 3 مارس/ آذار 1973، تحت قيادة جناح من أجنحة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومُنيت بالفشل، وظلت كثير من تفاصيلها غامضة رغم أنها كانت ترتبط بالشروط السياسية الناشئة في مغرب ما بعد الاستقلال. وقد أصبحت أحداثها ترتبط بما أصبح يعرف بسنوات الرصاص. ونظرًا لغموض كثير من أوجه الثورة المذكورة، ولأن الرواية غير معنية بتوثيق ما نشأ وتَحقَّق أو لم يتحقَّق في الثورة، فقد اتجه الكاتب إلى تركيب مسارات في السرد تشير إلى بعض علاماتها، وتتجه لرسم الملامح الكبرى للتراجيديا المترتّبة عليها، كما تنفتح على عتبات متعددة، تمنح السرد الروائي بمختلف تداعياته فضاءً يتيح له تركيب تصوّره للحدث. وقد ترتب على هذه العملية نص روائي مركَّب من عتبات. نص يبدأ باستهلال ويختتم بانصراف، وبينهما ينتقل القارئ بين ثلاثة عشر مقطعًا مُرَقَّمًا دون عنوان.
تتخلل المقاطع عتبات، وبعضها يتم التمهيد له أيضًا بعتبات. ولأن العتبات محصورة في أسماء ونصوص وتداعيات، فإن هذه الأخيرة تحولت بدورها، إلى جزء من الرواية، سواء بدلالات المقاطع التي تحملها، أو بإيحاءات العمل المُستلَّة منه... ويمكن حصر أبرز وأهم عتبات المسار السردي في الرواية كما يلي: سيرفانتيس دون كيشوت، إلياذة هوميروس، إيراسموس ومديح الجنون، نص المنقذ من الضلال، وكتاب أخبار الحمقى والمغفلين والأغبياء، وكتاب أبطال بلا مجد، فشل ثورة (1963-1973)، وهو كتاب عن الثورة موضوع الرواية.
يبني الكاتب رواية مجهول الحال باعتماد شذرات من العتبات التي أشرنا إلى أبرزها، وتقوم ثلاث شخصيات بتأثيث فضاء الرواية: سليمان الهبطي عميد الشرطة وأحد أوجه سنوات الرصاص في المغرب، ومحمد رضا الهواري وهو مناضل ومعتقل سابق، ثم مجهول الحال ويلقبه السارد بالأمير الأحمر، وهو يحضر في الرواية بعد غربته القسرية أربعة عقود عن وطنه، ثم عودته... ولأن الرواية تحمل القارئ إلى عالم الصفاء الثوري وعالم الخيانة والقمع، عالم الأوهام الكبرى وعناد التاريخ ومكره، فقد حرص السارد على مزج ما ذكرنا، في مسار الشخصيات ومسارات التداعيات المرافقة لشبكة الأحداث، التي تَمَّ توظيفها في سياق المعمار الروائي، حيث ينصب الجهد على جملة من الوقائع المرتبطة ببعض أوجُه السياسة والتاريخ. وقد حاول الكاتب دعمها استنادًا إلى عتبات أخرى مُسْتَمَدّة من مخزون الذاكرة والذكريات، وصنع بواسطتها خيوطًا ترتبط بوقائع محددة، كما ترتبط بحالات اجتماعية أو أحاسيس معينة، الأمر الذي غَذَّى مسارات السرد وسياقاته، وقَرَّبَه من الأحوال المألوفة في الواقع وفي التاريخ. وللوقوف على عينة من التداعيات المركّبة في النص بفعل الذاكرة والذكريات ولإدراك جوانب مما أشرنا إليه، يمكن مراجعة الصفحات الآتية: 41-42-43، والصفحات 85-86.
نجح الكاتب في الابتعاد عن حدث الثورة والاقتراب منه في الآن نفسه. نجح في الابتعاد عنه فأصبحنا أمام رواية تُصَوِّبُ النظر نحو ما قبل الثورة وما بعدها... ولأنه يعرف أن الرواية لا يمكن أن تكون بديلًا للعمل التاريخي التوثيقي، القادر على إعادة تركيب الحدث، فقد اشتغل على فيوضات الذاكرة وتداعياتها، ونجح في تركيب مجموعة من الصفحات والأقوال الداعمة لرؤيته وتصوُّره للثورة المذكورة. يقول السارد: "ووقفت في كتاب مديح الجنون لصاحبه الحكيم الفرنسي إيراسموس على أقوال أعجبتني فأنا أثبتها في مسندي هذا - التماسًا للحكمة التي تكمن فيها". من ذلك قوله: "ليست حياة البطل بِرُمَّتها سوى شكل من أشكال الجنون". ومن ذلك قوله متعجبًا - ويحق له ذلك: "أليس كل شيء عند بني الإنسان، يحدث بموجب الجنون؟ أليس ما يقومون به من فعل عمل مجانين؟ أو ليس كل عملهم يتم في حضرة مجانين؟". وظف الكاتب في عمله عناوين بعض الكتب وبعض حكمها ليواجه الثورة، ويقرب القارئ من الثورة والحلم والوطن. ويقوم الكاتب أيضًا، في روايته، بتوظيف لازمةِ مَن يُطْلِق عليها "المعشوقة الأبدية" للمطربة عُلِيّة التونسية، حيث يعمل بين الحين والآخر على استدعاء مقاطع من كلمات أغانيها، تحضر ثم تختفي، تحضر في قلب الذكريات المرتبطة بمراحل العمر.
يغيب السارد أحيانًا فَتتدفَّق الذكريات في الصفحات الأخيرة، "يتدفَّق ما بقي في الذاكرة من أشتات ذكريات النضال والسهر والصباحات الخالية من الطعم في مقاهي أﮔﺩال، أيام الرومانسية والثورة والصفاء والمجد العالمي، تشي غيفارا والمناضلون في أحراش اﻟﭭﯿﺗﻧﺎم وفي قمم الجبال. صوّر باهتة، تضيء شاشة الذاكرة حينًا، تملأ الوجدان بعبق العشق والثورة والحلم والوطن"، ص 185. لا تحاكم الرواية الثورة وذلك رغم بعض الأحكام النقدية، التي تستوعبها العتبات الممهدة لمقاطعها ونمط السرد المتبع فيها، إنها تفكر في فشل الثورة ورومانسيتها، تنتقد سذاجة شعاراتها، ص 198، كما تنتقد الأمير الأحمر المتنقل بين بغداد ودمشق وطرابلس، وجبروت وظلم عميد الشرطة سليمان الهبطي وبؤس مصيره.
نقرأ في الصفحات الأخيرة من مجهول الحال ما يلي: "أشفق من النظر في المرآة. أحملق في المرآة ببلاهة. أرجع إلى الصالة، أتصفح الكتب وقد أعدت ترتيبها فوق الرفوف الثلاثة مرات ومرات. ‘مديح الجنون‘، بقامته القصيرة، يزاحم ‘المنقذ من الضلال‘ بقامته الطويلة وجسده الضامر.. ‘أخبار الحمقى والمغفلين والأغبياء‘. ما أعظم أن يمتلك المرء القدرة على أن يصبح مجنونًا. كل أمر عظيم يصدر عن الجنون ويتصل بالجنون - هكذا تكلم العظيم إيراسموس قبل... بالجنون وحده يملك المرء القدرة على تكسير الرتابة. لا فعل، لا أمر ذو بال دون امتلاك حظ أدنى من الجنون... وفي ‘المنقذ‘ بلسم، سكون يسري في الأطراف، وسن يدب إلى الجفن المتعبة. لكنك وحدك العظيم يا هبنقة. هبنقة الحكيم، حكيمنا العربي"، فقرة ص 192. كما نقرأ قول السارد بعد نهاية الانصراف: كتب المصنف في الورقة الأخيرة - تذييلًا على ما جمعه في مصنفه من الفرائد والفوائد "الآن عقلي حُرٌّ وصاف لا تشوبه ظلال الجهل الداكنة التي أسدلتها عليه قراءاتي المرة والمتواصلة لكتب الفروسية الكريهة، لقد صرت أعرف حماقاتها وخداعها، ولا يحزنني إلا أن هذه الصحوة جاءت متأخرة بحيث لا تسمح لي بأن أعوض قليلًا مما فاتني بقراءة كتب أخرى تكون نورًا للروح"، ص 208.