في أوج إبداعه المولود من ضوء خفي في زنزانة، غادرنا وليد دقة، وهو يترك لنا أسراره الثلاثة: سرّ الزيت وسرّ الطيف وسرّ السيف. وكل تلك الأسرار تريد أن تدلنا على نافذة في عتمة سجوننا وتريد أن تحاكي أقدم سجين عربي وهو المستقبل، كما قال وليد.
أحد كبار مثقفي الحركة الأسيرة، الكاتب والفنان وليد دقة، يرحل شهيدًا بسبب الإهمال الطبي، ويحتجز العدو جثمانه، كأنه يريد أن يقرر في موته ساعة خروجه من ذلك الزمن الآخر، هكذا يحاول العدو أن يتحكم به، وهذه هي حال الاستعمار حين يحاول أن يحاصر روح الجسد المستعمَر. يقول وليد دقة في كتابه: "صهر الوعي"، الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2017: "الحقيقة عندنا هنا هي خيال، والخيال هو الحقيقة، الزمان والمكان توأمان، يمتد الزمان في المكان ويمتد المكان في الزمان".
ترك وليد دقة أيضًا، بالإضافة إلى قصصه لليافعين ودراساته وأبحاثه، مجموعة رسومات تعكس ذلك الفكر الذي كان يضيء إبداعه، وكأن الفكر هو أصل الفن وروحه. وكما يقول هايدغر في كتابه أصل العمل الفني: "إن الفن يعكس بطريقة حساسة ما هو غير محسوس".
إن أول انطباع تتركه رسومات وليد دقة هو انعكاس فكره على فنه، فقد كان وليد في ذلك الزمن الذي سماه في دراسة له اسمها: الزمن الموازي، يتحرك داخل هذا الزمن المحاصر بحرية، فهو الذي حاول رسم الزمن، كما قال الدكتور عبد الرحيم الشيخ في دراسة عن "فكر وليد دقة". هكذا نظر إلى تلك العلاقة بين الزمان والمكان في كتاباته، ولذلك تبدو في رسوماته تلك الجغرافيا المجاورة لكل ما خبره وليد من العيش في قرية ومدينة وأيضا في السجن الذي يعد كجغرافيا سادسة بعد غزة والضفة والقدس وفلسطين 1948 والشتات.
ففي الرسالة التي كتبها وليد دقة عند بلوغه العشرين سنة في الأسر، وتحولت فيما بعد إلى دراسة ومسرحية، وقال فيها: "أنا أكتب لكم من الزمن الموازي، وفي الزمن الموازي حيث ثبات المكان، لا نستخدم نفس وحدات زمنكم العادية كالدقائق... والساعات، إلاّ حين يلتقي خطا زماننا وزمانكم عند شباك الزيارة فنضطر إلى أن نتعامل مع هذه الصيغ الزمانية. فهي على كل حال، الشيء الوحيد الذي لم يتغير في زمانكم وما زلنا نذكر كيف نستخدمها".
هكذا لاحظ وليد أن هناك زمنين يسيران بالتوازي ويتقاطعان عند الزيارة، ففي داخل الأسر هناك زمن آخر يختلف عن خارجه، ليس هناك ماض وحاضر ومستقبل، ليس هناك صباح وظهر ومساء، حيث تحاول سياسة المحتل الاستعمارية أن تبرمج وتغير في عقاربها، حتى لا يعرف السجين الزمن، فيصير حدث اعتقال فلان وتحرر فلان هو الساعة والدقيقة، يتغير الزمن إذًا في الجغرافيا السادسة. هكذا كما كان الزمن قبل النكبة منسيًا في ذاكرة أجدادنا في المخيمات، فنسأل عن تاريخ ولادة الجدة فتقول يوم قطفنا البامية وتزوجت يوم قطفنا الزيتون، لتصبح الأشجار والنباتات هي عقارب الساعة.
في رسومات وليد دقة نرى ذلك الزمان الذي يقبع في خيال الأسير في مكان محاصر ولكن يتحرك في روح الأسير المبدعة، وكأن الفن هو تلك الحركة في زمن متجمد. فبالرغم من ذلك الزمن المختلف والمتوحد بذاته، تنطلق آفاق وليد لتعانق الزمن الآخر، لتقول أشياء أخرى وتمتلك زمنها الخاص.
في إحدى رسومات وليد دقة تغيب أسلاك السجن وتحضر النافذة، وكأن الزمن هنا يطل على الزمن الآخر لكن تقيده شباك النافذة المزخرفة، هنا تحركت الأسلاك، وصارت نافذة، ورغم أن غرفة السجن لا نافذة فيها، الا أن رؤية وليد للزمان الآخر واضحة، فتبدو الآفاق واسعة خلف النافذة، هكذا يحرر دقة خياله من السجن كما قال مرة عن كتابته: أكتب كي أتحرر من السجن على أمل أن أحرره مني. وهكذا كان يرسم أيضًا كأنه يقف بين المكانين وبين الزمانين ويطل علينا من لحظة فريدة ونادرة قلما انتبهنا لها.
وفي رسمة أخرى، رسمها في سجن عسقلان، يحتل الجسد مركز اللوحة، بينما تنقسم الى فضاءات زمنية. وكأن الجسد هو عقرب الساعة، وفي حركته يتحرك الزمان، ويرسم أكثر من مكان، وكأن الرسام المفكر يريد أن يقول إنه في الأسر يصير الجسد الساكن زمنا ساكنًا، وفي حركته تخفق الأزمنة. وتبدو يدا الجسد مكبلتين والأبواب في كل فضاء أيضًا مكبلة، لكننا نشعر وكأن الأمر مرهون بحركة الجسد، فمن سيفتح الأبواب كلها هو خيال السجين وروحه التي يحاول السجان أن يحاصرها ويصهر روح المقاوم الفلسطيني خلف السجون.
ففي فضاء السجن المصمم لقهر الأسير، يبدو أن مقاومة ونضال وليد دقة هما في إفلات هذا الفضاء من حيزه عبر الكتابة والفن، ففي لوحة تبدو غرفة السجن مختلفة عما هي في الواقع، فتحضر الأرجوحة، وربما هنا أيضًا تحضر ابنته ميلاد، التي أضافت مكانًا آخر إلى ذاكرة وليد فقال لها: "أنت أجمل تهريب لذاكرتي، أنت أجمل رسالة للمستقبل"... فالمستقبل قد بدأ يأخذ ذلك الحيز الجديد في زمان وليد الفني ولغته البصرية وروحه وفكره، فصارت للسجن أرجوحة معلقة على سقف يخبئ القمر والنجوم، فلعل السقف قد أصبح سماء أخرى لا يراها بل يشعر بها وتلامس حياته. هكذا يستدعي وليد الجغرافيا الأخرى الغائبة مكانيا والحاضرة في تفاصيل يتشوق لرؤيتها ويعتبر إحساسها بهذه الأبوة مقاومة فنية وفكرية تتحدى الفضاء المحاصر.
وربما الجدير بالملاحظة تلك الرسمة التي يبدو أن هناك حشدًا يغادر السجن، وفي لحظة التحرر نرى تلك الملامح المتشابهة تتلاصق وكأنها مكان يخرج من نفسه، ويخرج من زمانه ليلتقي بالزمان الآخر، ففي الملامح المتطابقة هناك إشارة إلى وحدة الزمان والمكان، ولكن يبقى الغريب أن على صدر كل واحد من الأحرار المغادرين والخارجين من ذلك السجن بقاء النافذة حاضرة، وكأن كل أسير يحمل نافذته الخاصة، فهل هي رؤيته وطريقته في مقاومة حصار الزمن.؟ ربما، وربما أيضًا هي إشارة فنية إلى أننا لا نترك الأسر كليًا بل نحمل أبوابه معنا، وكأنه مسقط رأس أو جغرافيا تركت ندوبها على جلودنا. فالطفولة مكان، والشيخوخة مكان وليست زمانًا فقط، وكما يقول ابن عربي: "الزمان مكان سائل والمكان زمان متجمّد".
ورغم أن أدوات وليد الفنية المتوفرة في السجن تترك ألوانًا قليلة تتحرك داخل الفضاء الرمادي، إلا إنها فعلا تؤكد أن اللون القليل داخل الرسمة هو تلك النافذة في السجن، هو باب الزمن الموازي على الزمن الآخر، فوجود اللون الأزرق واللون الأحمر الباهت هو عيون الزمن في الخارج المطلة على الزمن الموازي.
ويبقى الفكر هو أساس التجربة الفنية التي تتحرك في صميم رؤية وليد للحرية، فكما في قصته لليافعين، يكتب وليد عن جود الذي يبحث عن كافة الوسائل ليزور أبيه في السجن فيكتشف سر الزيت الذي يجعله لامرئيًا. وما يبدو في رسومات وليد دقة أن الرؤية الحقيقية والفكرية ستجعل الزمن في الخارج مرئيًا وستخلق أدوات فنية مختلفة لتعبر أسلاكًا شائكة حول وجود الفلسطيني المختنق الذي يحفر أنفاق العتمة بسكاكين ومعدات فنية مختلفة، وهنا ربما يمكننا أن نقول إن وليد لم يرسم فقط الزمن بل أيضًا عَبَره.