Print
فخري صالح

طلبة جامعة كولومبيا واستعادة إرث إدوارد سعيد

21 مايو 2024
آراء


عمل الناقد والمفكر الفلسطيني – الأميركي إدوارد سعيد (1935- 2003)، طوال مسيرته الأكاديمية تقريبًا، في جامعة كولومبيا Columbia الأميركية، أستاذًا للأدبين الإنكليزي والمقارن. وباستثناء فترات قصيرة، عمل فيها أستاذًا زائرًا، أو متفرغًا للبحث في جامعات أخرى، داخل الولايات المتحدة، وأوروبا، وبلدان أخرى، لازم سعيد هذه الجامعة العريقة، التي تعدُّ من جامعات النخبة، لا في أميركا وحدها، بل على مستوى العالم. فهي من بين عدد محدود من الجامعات الخاصة الأميركية، إضافة إلى هارفارد ومعهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا MIT، وعدد قليل آخر من الجامعات، تسمى The Ivy League، لأسباب تتعلق ببرامجها التعليمية المتقدمة، واستقطابها أساتذةً على مستوى عالٍ من التميز، في حقول عملهم، ولتميز برامجها التعليمية، والحرية الأكاديمية التي تتيحها للأساتذة والطلبة. وهذا يفسر بالطبع انطلاق حركات الاحتجاج الأخيرة، المطالبة بوقف الحرب على غزة، وسحب استثمارات الجامعة من مشاريع تطوير الأسلحة الإسرائيلية، ووقف التعاون مع الجامعات الإسرائيلية، من جامعة كولومبيا، بالتحديد، وامتدادها، مثل النار في الهشيم، إلى معظم الجامعات الأميركية، وكذلك الأوروبية، والأسترالية، وعدد آخر من البلدان. كما أن حركة الاحتجاج المدني، السلمي، هي جزء من تاريخ الجامعة. وقد حدث ذلك في انتفاضة الطلاب في أميركا وأوروبا عام 1968، للمطالبة بإنهاء الحرب على فيتنام، والثورة على القيم البالية المحافظة، فيما يتعلق بالأسرة، والعلاقات الجنسية، والتراتبيات الاجتماعية، والاقتصادية، والجندرية، وعلاقات السلطة، التي طورها العالم الغربي، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

فما دور الراحل إدوارد سعيد في إلهام هذه الحركة الاحتجاجية المناصرة لحقوق الفلسطينيين، والتشديد على كون إسرائيل دولة فصل عنصري، والمطالبة بوقف حرب الإبادة الجماعية، التي تشنها الدولة العبرية عليهم، في غزة والضفة الغربية، ووقف برامج تطوير الأسلحة الفتاكة والدقيقة، في تعاون وثيق بين عدد من هذه الجامعات والجيش الإسرائيلي؟

لقد كان صاحب "الاستشراق" (1978)، و"الثقافة والإمبريالية" (1993)، و"تمثيلات المثقف" (1994)، أستاذًا لامعًا في جامعة كولومبيا، تحتشد المساقات التي يدرسها، بطلبة تخصص اللغة الإنكليزية، والتخصصات الأخرى الموازية، ناهيك عن أعداد من الطلبة المبهورين بشخصيته، وعمله، يفدون إلى محاضراته، في الجامعة، وكذلك تلك التي يلقيها في المؤتمرات، ليتزودوا بالمعرفة الغزيرة، والتحليل العميق، وهما السمتان اللتان تميز بها عمل سعيد. وقد أخبرني عدد من الأصدقاء، الذين درسوا في جامعة كولومبيا، في تخصصات بعيدة عن دروس سعيد، أنهم كانوا يطلبون الإذن منه لحضور محاضراته، رغم أنهم لا ينتمون إلى الكلية نفسها، وليس مسموحًا لهم مزاحمة طلبة التخصص المسجلين في تلك المساقات. وكان الرجل يقول لهم إن في إمكانهم الحضور إن وجدوا مكانًا في القاعة التي يلقي فيها درسه، جالسين، أو واقفين، أو متربعين على الأرض!

ومن هنا، يمكن القول إن تأثير سعيد في طلبة جامعة كولومبيا، لم يقتصر على طلبة الأدبين الإنكليزي والمقارن، الذين كانوا يسجلون في المساقات التي درسها، بل امتد هذا التأثير إلى أعداد كبيرة من الطلبة يفدون إليه من أقسام أخرى؛ العلوم السياسية، واللغة العربية، والاقتصاد، وغيرها من التخصصات التي تدرسها الجامعة في أقسام العلوم الإنسانية. لقد كان، رغم التزامه بتدريس المساقات التقليدية، التي تطرحها الكلية، واهتمامه بتكوين طلبته في قسم اللغة الإنكليزية، يطرح مساقات تتصل باهتماماته البحثية الواسعة: الاستشراق، وعلاقة الثقافة بالاستعمار والكولونيالية، وخطاب التحرر من الاستعمار، وصيغ الهيمنة، التي تنسرب عميقًا، لا في السياسات والاستراتيجيات الغربية، فقط، بل في النصوص الأدبية كذلك، وخطاب الإعلام، وفي السعي إلى استقطاب العقول اللامعة لجعلها في خدمة الإمبراطورية (الأميركية في هذا الزمان الذي شاطرنا سعيد العيش فيه).

زاوج سعيد بين عمله كأستاذ متخصص، ومرشد لطلبته في مجالات المعرفة المتخصصة


لقد زاوج سعيد، إذًا، بين عمله كأستاذ متخصص، ومرشد لطلبته في مجالات المعرفة المتخصصة، واكتساب أساليب البحث، واستخدام أدوات الفحص والتحليل والاستقصاء، والربط المعرفي بين التخصصات، ودوره كمثقف صاحب رسالة، يسعى لتعريف طلبته بشرور الإمبريالية، والظلم الذي تلحقه مساعي الهيمنة على مقدرات الشعوب الأخرى، وعلى استقلالها السياسي والاقتصادي. ملهموه في مسيرته المعرفية والثقافية والنقدية ينتمون إلى ثقافات وعصور متعددة. كما أن الأسماء اللامعة التي يتردد ذكرها في كتبه هي لمفكرين وفلاسفة ونقاد كبار، بينهم عدد بارز من اليهود الذين استلهم سعيد عملهم، وحاورهم، وأكثر من الاقتباس، منهم: غيامباتيستا فيكو (1668- 1744) Vico، صاحب كتاب "العلم الجديد"، والفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو (1903- 1969) Adorno، والناقد الأدبي الألماني إريك أورباخ (1892- 1957) Auerbach، صاحب كتاب "المحاكاة" Mimesis. ويشير هذا التأثير إلى فكر سعيد الكوني، الإنساني، الذي يستلهم مروحة واسعة من الأفكار والمفكرين، الذين يقيم صلات نسب مع تجاربهم وأفكارهم، بغض النظر عن كونهم يهودًا، أو عربًا، ومهما كانت ألوان جلودهم، أو انتماءاتهم الدينية، أو الفكرية.

للأسباب السابقة، لا بدَّ أن طلبة إدوارد سعيد، وحوارييه، وجدوا في محاضراته، وكتبه الأساسية، التي تتضمَّن مشاريعه الكبيرة ومنجزه اللافت، وكذلك في ظهوره الإعلامي، وكتاباته السياسية، في الصحف الأميركية والأوروبية، ملهمًا لهم، وهاديًا، بعد التخرج في الجامعة. ولا شكَّ في أن هذا التأثير القوي، الذي مارسه مفكرٌ من طراز سعيد على طلبته، داخل أسوار الجامعة، وخارجها؛ أثناء دراستهم، وبعد تخرجهم، هو الذي جعل المؤسسة السياسية، والأكاديمية، المحافظة، المرتبطة بالنظام، والساعية إلى استتباب أسباب الهيمنة، في المجتمع الأميركي، وكذلك في العالم، تحارب هذا المثقف، ذا المناقبية الأخلاقية العالية، الذي رأى أن على المثقف أن يقول الحقيقة للسلطة، أينما توضَّعت هذه السلطة، ومهما بلغت قوتها، وبغضِّ النظر عن الأثمان التي يمكن أن يدفعها المثقف نتيجة مواقفه. لقد راقبته المخابرات الأميركية، طوال عمله في الجامعة، وأعدت تقارير حوله، وقرأت بعض كتبه، وتابعت مقالاته، وشنت الدوائر الأكاديمية، ومناصرو إسرائيل والصهاينة، حملات مركزة ضده، حتى بعد وفاته. ويعود هذا إلى أن جيلًا من الأساتذة، الذين يعملون الآن في جامعة كولومبيا، أو في جامعات أميركية، وغربية أخرى، قد درسوا على يديه، أو تابعوا محاضراته، أو قرأوا كتبه ومقالاته، وشاهدوا مناظراته العميقة حول فلسطين، وقضايا التحرر من الاستعمار، والإمبريالية، وأشكال ارتباطها بالثقافة، والمركزية الغربية، وأشكال النظر التي تحط من شأن الآخرين، الذين لا ينتمون إلى العرق الأبيض. وهو ما يجعلنا نعتقد أن إدوارد سعيد، كشخص، وعمله البحثي، وكتاباته، ومناظراته، وآرائه، كان بمثابة ملهم لهذا الحراك الطلابي الواسع في الجامعات الأميركية، وأوروبا، والعالم. كما أنه يفسر الهجمة الشرسة، التي تشنها جهات في الحزب الجمهوري، وأنصارُ إسرائيل، والصهاينة الأميركيون، على مساقات تناقش تاريخ الاستعمار، وتصفية الاستعمار Decolonization، والدراسات المتصلة بالهيمنة، وخطاب ما بعد الاستعمار، ونقض المركزية الغربية، التي تتهم جامعة كولومبيا بتدريسها للطلبة، وإشاعتها في جامعات أميركا، والعالم. وكان سعيد رائدًا في هذا النوع من الدراسات، في الجامعة وخارجها، كما أنه عمل على التأسيس النظري لها، وإكسابها منهجية راسخة، وتزويدها بأدوات للبحث، وطرائق متميزة في العمل والتحليل والمقارنة.