Print
فيصل درّاج

غزة وسارتر والجامعات الأميركية

22 مايو 2024
آراء
ثلاث وقائع لم يعتد العالم عليها أنجزتها بطولة غزة الفريدة: إسقاط أسطورة الجيش الإسرائيلي "الذي لا يُهزم"، مواجهة الجيش الإسرائيلي في حرب طويلة الأمد، بعيدًا عن قول شهير للجنرال موشي ديان: تحتاج هزيمة الجيوش العربية كلها قتال يوم واحد لا أكثر، واحتجاجات الجامعات الأميركية الدائرة، تعبيرًا عن وعي سياسي جديد كشف تهافت الديمقراطية الأميركية، وتدفع بطلاب وأكاديميين ورؤساء أقسام إلى الاعتقال، لا فرق إن كان حظهم من الشهرة موفورًا أو قليلًا.

في نص شهير عنوانه: المثقفون، نشره الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في كتابه: "مواقف"، المجلد الثامن ـ عام 1972 قام بتعريف المثقف وقال: إنه ذاك المتعلِّم الذي يهتم بالشأن العام. فعالم الفيزياء، على سبيل المثال، ينصرف إلى ما اختص به ويكتفي بتجاربه وقضاياه، ولن يصبح مثقفًا إلا إذا خرج منه وتوّجه إلى الرأي العام وأكدّ أن استعمال "القنبلة الذرية"، المشتقة من تطبيق الفيزياء، تُلحق بالإنسانية أضرارًا فادحة. فلا مثقف إلا بالقضايا الاجتماعية التي يحتفي بها، وإلا بقي في اختصاص "محايد" لا يُعنى بمسائل البشر. دفعه تصوّره إلى تقسيم المثقفين على مقولتين: المثقف الكلاسيكي، السلبي في مواقفه، ينظر إلى المجتمع ويكتفي "بوعي شقي"، والمثقف السياسي الذي يقرأ بوعي سياسي نقدي وجوه المجتمع الذي يعيش فيه، ويتطلّع إلى تغييره.

أشار سارتر في دراسته الواسعة إلى "الجامعات الأميركية" التي تنتج "متعلّمًا" يراوح في كتبه الجامعية، ويدور في حلقة ضيّقة، بعيدًا عن "المثقف الفرنسي"، الذي يسيّس الوقائع ويلمس العلاقة بين أحوال المجتمع المتغيّرة، والواجب تغييرها. كان إدوارد سعيد العقل النقدي المضيء، المدافع عن القضية الفلسطينية، قد نقد "تقليدية الجامعات الأميركية" في دراسته: "دوائر وجماعات وأوساط ضيقة" والتي ساوى فيها بين المجموعات المختصة والطقوس الدينية المغلقة، القانعة باختصاصات منعزلة عن الحياة، "بلغة" مقعّرة" يتداولها المختصّون، كما لو كان ما هو خارج الجامعة "دَنَسًا" يسيء إلى العلم، بقدر ما أن الالتفات إلى "السياسة" تدّخلٌ فظّ لا يمكن القبول به. أضاء سعيد موقفه بسياسة رونالد ريغن، المحافظة والشديدة المحافظة التي تجعل، تاليًا، من كلمة "فلسطين" مفردة غريبة لا تليق بجامعات ذات تقاليد راسخة. كان ريغن، الممثل السينمائي الفاشل، الذي يحسن "إلقاء النكات" صورة عن أحد خلفائه المسمّى بايدن، الذي غدا "نكتة" ولا يعرف "إلقاء النكات"، تستعمل حماقته "الفيتو الأميركي"، الذي هو، في جوهره اليوم، فيتوصهيوني، يضع فيه نتنياهو ما يشاء على لسان الرئيس الأميركي، الذي يشارك صمته القذائف الملقاة، يوميًا على غزة.

واءم ريغن بين سياسته والسياسة التعليمية في الجامعات الأميركية، كما لو كان الطرفان يلبيّان خيارًا إسرائيليًا، و"يتحزبّان" لجامعات صامتة تستهلك "الأيس كريم" و"الهامبرغر" وتتمدّد على سرير ديمقراطية زائفة، وتستبقي، في الحالين، صورة متعالية لدولة إسرائيل، البلد "الديمقراطي" الآخر الذي يقتل ما شاء من الفلسطينيين ويظل بمنأى العتاب والعقاب.

جاءت حرب فيتنام، التي استَقْوت فيها قاذفات القنابل الأميركية على الشجر والحجر والبشر، لترمي حجرًا ثقيلًا في مياه "جامعات الصمت": ثار الطلبة على ساسة "البيت الأبيض"، الذي أراد الجامعات امتدادًا لسياسته العدوانية، ولعب احتجاجهم دورًا في إقناع الرئيس جونسون، وهو مرآة لريغن وبايدن، في تغيير سياسته وجيوشه المهزومة. أّكد الطلبة الأميركيون، أثناء حرب فيتنام، أنهم جزء فاعل من المجتمع الأميركي، وأن موقفهم "اللاّسياسي" يغدو سياسيًا إذا توفرت "العوامل الخارجية" كما لو كانت الجامعة الأميركية "التقليدية" لا تتحرك إلا بتأثيرات خارجية بعيدًا، ويا للسخرية، عن جامعات عربية مفترضة اغتذت بالصمت واختارته "منهجًا تربويًا ثابتًا"، إذا نطق سقطت عليه ضربات الأمن والدَرَك والشرطة والأقلام المزيفة و"ثقافة الأدعية" التي تبارك الصمت من حيث جاء.

كان سارتر يقول: المثقف مسؤول عن كل طفل جائع في هذا العالم


حرّضت حرب فيتنام الجامعات الأميركية على الفعل، وكسرت تربية تقليدية سادت بين التلاميذ والأشياء. غير أن ما جاءت به بطولة غزة الفريدة خلقت حراكًا نوعيًا، قصّر المسافة بين الطلاب والأساتذة والإدارة، ودفع بالديمقراطية الأميركية المفترضة إلى ممارسات غير مسبوقة، كأن يدفع رجل أمن أميركي أمامه أستاذة مرموقة تقول وهي مخفورة، "أنظروا إنه يعتقلني"، ناظرة بغضب إلى "شرطي"، كأنه من العالم العربي، وتطلب من "المشاهدين"، الذين ترصدهم وسائل الإعلام، أن "يبلغوا أهلها وأصحابها أنها قيد العقاب والمحاسبة".

إذا كان عدد القتلى الأميركان في فيتنام أكثر من خمسين ألفًا، صدم عقول الأميركان الذين اعتادوا على "النصر السهل" و"بطولات المارينز الصاخبة" فإن ما صدم الطالب الأميركي هذه الأيام وغيره، أكثر تعقيدًا والتباسًا: فهناك صورة إسرائيل الجاهزة، إذ الروّاد الذين "اكتشفوا" فلسطين لا يختلفون عن روّاد سبقوهم "اكتشفوا" أرضًا عذراء وهنودًا "ليس لهم أرواح"، أمّا الأمر الأكثر "غرابة" فهي غزة. تلك المنطقة المنسية "المتخلّفة"، التي لا يعرفها "العقل المتحضّر" ولا تعترف بها "هوليوود" حيث الفرد اليهودي يهزم جيشًا. بل إن هذا الجيش يهرب منه قبل أن يراه، كما هي الحال في فيلم "الخروج"، الذي قام بدور البطولة فيه الراحل الوسيم الشهير: بول نيومان.

ليس في غزة، النادرة الشجاعة والصمود، ما يذكّر فيتنام والفيتكونغ وهوتشي منه وتكافل الصين والاتحاد السوفياتي المنقضي و"الإعلام الأممي" ومقالات كبار الكتّاب الغربيين مثل: سارتر وألبرتو مورافيا وسيمون دو بوفوار وماركيز وغيرهم الكثير.... فغزة تقف وحيدة، مقصوصة الجناحين، ينتظر "بعض العرب" سقوطها ليهرولوا إلى الاعتراف بدولة نتنياهو... لكن هذه "الغزة" واجهت جنود و"شعب الله المختار" وقدّمت درسًا عن أثر: الكفاح العادل ضد الظلم والظالمين. ابتداء من نتنياهو وولده المطيع بايدن، مرورًا برؤساء جمهوريات أوروبية، انتهاءً "بذّل رسمي عربي عتيد" يربط بعض منه بين "الإرهاب وحماس"، مطلقًا النار على معنى الإرهاب وبطولة حماس معًا، وناشدًا الرضى من الإدارتين الأميركية والإسرائيلية.

في جملة: "أنتم خير أمة أُخرجت للناس"، التي تقترب منها غزة "على طريقتها"، فهي صادقة في القول والفعل والصمود، فإن بعضًا غيرها يكاد يقول: "نحن أصغر أمة أُخرجت للناس". يقال عادة: تفسد السمكة من رأسها، الذي يصبح في مجالنا العربي تُسْتَذّل الشعوب من رؤوسها أولًا، وتُذِّل رؤوسها لاحقًا أطرافها.

كان جان بول سارتر، الذي استُهلّ به الكلام، صائبًا ومخطئًا معًا. أصاب في ربطه بين المثقف وموقفه السياسي، وأخطأ في إشارته "الهامسة" إلى اختلاف "المتعلمين" الأميركان "الحياديّ الموقف" عن مثقفين فرنسيين أخذوا موقفًا من حرب الجزائر (ليس جميعهم) وفيتنام وقضايا الحرب والسلام. ولم يأخذوا جميعًا، بمن فيهم سارتر، موقفًا واضحًا من القضية الفلسطينية.

استطاعت غزة، المقاتلة اليوم وغدًا، أن تهدم جدران الصمت التي سوّرت، أحيانًا، الكفاح الوطني الفلسطيني. برهنت أنها ليست قضية قومية، بالمعنى المباشر، ولا قضية دينية، بالمعنى الضيّق للكلمة، وإن كان فيها أبعاد عروبية ومسلمة. إنما هي قضية وطنية، أي سياسية، كونية، مجلاها الحق المقاتل ضد الظلم والعنصرية والطغيان، قضية تحرّر وطني لشعبها حقوقه الوطنية مثل كل الشعوب.

بيد أن للقضية الفلسطينية ما يميّزها من قضايا التحرر الأخرى، فهي تعاني من الاستعمار الاستيطاني، الذي خلّفته الكثير من الشعوب وراءها منذ زمن، وهي قضية محاصرة بقوى عالمية طاغية تنصر إسرائيل وتهمّش كفاحًا تحرريًا لا يهمّش، ولا يقبل بالتهميش.

ولعل كونية الكفاح التحرري الفلسطيني الذي تمثله غزة المحاصرة، الصغيرة في مساحتها والكبيرة في مواجهتها للحصار، هي التي أسهمت وبصوت عال، بتسييس مواقف الطلبة الأميركان في أكثر من ثمانين جامعة، بفضح المجازر الإسرائيلية الدائرة في القطاع، الذي حوّله الكفاح إلى "قارة" وبالتنديد بسياسة رئيس الجمهورية بايدن الذي تملي عليه الصهيونية العالمية، المسلحة بقوة المال والإعلام، فعل ما يريده نظام فاشي واسع العنصرية، سائر إلى الهزيمة. وإذا كان الباحث اليهودي النزيه نورمان فنكلشتاين قد قال: إن الصهيونية تزوّر التاريخ والجغرافيا، وتستثمر في التزوير الهولوكوست وتجعله "احتكارًا صهيونيًا" و"صناعة متوالدة"، فإن ممارسات الطلبة الأميركان الذين يرفعون شعار "فلسطين حرّة"، تقول: إن غزة تقاتل دفاعًا عن العدل في كل مكان كي تتحرر من الأذى الأميركي الصهيوني وتحرّر معه العقول التي استبدّت بها السيطرة الصهيونية، بلا تحفظ ولا مساءلة.

لكأن غزة، التي مُحيت اليوم عن الأرض وبقي صوتها يتصادى في أنحاء من الأرض كثيرة، تسهم في تحرير فلسطين وتحرير عقول الذين اختصروا، في اليوم والأمس، الفلسطينيين في جمل محدودة قوامها: التخلّف والتعصّب الموروث والإرهاب.....

كان سارتر يقول: المثقف مسؤول عن كل طفل جائع في هذا العالم، بينما تقول غزة: إن المقاتل الصادق مسؤول عن إيقاظ كل وعي ضليل في هذا العالم، أكان عربيًا أم أميركيًا.

كتب إدوارد سعيد مرة دراسة بعنوان: لوْم الضحايا، إذ يُتهم القتيل ويُبرّأ القاتل. أنصف كفاح غزة، اليوم، القتيل الفلسطيني وأعلن عن اسم القاتل في أرجاء العالم الأربعة، ومنها: الجامعات الأميركية التي نصب أساتذتها، اليوم، خيمًا تحرس الطلبة المقاومين، وتواجه آلة العسف الأميركية، التي احتجبت، طويلًا، وراء ديمقراطية تمارس القتل في كل مكان وتدّعي: الفضيلة.