Print
فريد الزاهي

هل هي نهاية الأدب؟ وسيادة الأدب الموازي؟

25 مايو 2024
آراء
"منحاز لنفسي ومتعصب لأفكاري... لا أملك وقتًا أصرفه لتفنيد وجهة نظر يقف خلفها حاقد ناقم... ولا ذرة احترام أقدمها لمتغطرس متعالٍ... متعايش مع غربتي وغرابتي... أجيد التظاهر بالإنصات لكل أحمق مشبع بالثقة... لكني في الحقيقة لا أكترث... لأنه أصغر من أن أراه... وهو أغبى من أن ينتبه"... إنها ليس تدوينة من تلك التي تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، ترمي بها امرأة أربعينية كدرت حياتها الخيبات، أو شخص يعاني من ويلات محيطه الشرس فيغدو حائطه أشبه بالمرآة لبناء نرجسية معطوبة بشرارات العداوة والنكران. إنها كلمة تعبر عن الهشاشة أكثر من القوة وعن رد الفعل أكثر من الفعل. ومن ذلك تمتح فعلها الماكر والموارب... بل هي عبارة تتصدر رواية لكاتب من كتاب الأدب الموازي/ paralitterature، صنع الحدث بصمت ليكشف عن وجوده الهادر في معرض الرباط الأخير للكتاب، ليحوله إلى معرضه الخاص بامتياز.

منقلبات الحداثة الثقافية والكتابة الجديدة

هزات الثقافة لم تعد تقويضًا للميتافيزيقا كما كانت كتابات نيتشه، ولا زعزعة لليقينيات الوجودية كما هي كتابات سيوران، ولا خلخلة لنقاء القصيدة كما هي قصائد بوكوفسكي. إنها لم تعد تنبع من صميم الفلسفة والأدب والشعر، لأن صلابة هذه المجالات كانت بمثابة صخرة تتكسر عليها كل المساعي التي تبتغي ولوجها من غير تملك لبنيتها الداخلية وهجها الجوهري.
لقد ظل الأدب الشعبي والمتخيل الجماعي والسحري يعيش خارج الثقافة العالمة وعلى هوامشها، يغذيها من حين لآخر، وينعش بعضًا من منعطفاتها كما هو الأمر لدى فرانسوا رابليه، ولدينا كما هو لدى الغيطاني... وغيرهما. وهو أضحى موردًا للسينما منذ ولادتها، متمثلًا في شخصيات الرعب (فرانكشتاين) وأفلام الروحانيات والشخصيات المتحولة... ليغدو في العقود الأخيرة المورد الأساس لبناء متخيل جديد مبني على استقلال الخيال والفانتازيا عن الواقع، يقدم نفسه على أنه الواقع بامتياز. هذه العودة أطلت علينا منذ بدايات اضمحلال موارد العقل والعقلانية، وتحول التكنولوجيا إلى أداة للحروب الفتاكة، وانقلاب الهوية إلى عرقية، والتبشير الديني إلى استعمار وتحضير الشعوب إلى الاستعباد. فلقد تنامت الحركات الهامشية المناهضة لهمجية التقدم من قبيل حركة الهيبيين، وغيرهم منذ أواخر الستينيات. وصارت الحركات الروحانية تستشري في الغرب تعبيرًا عن عدم الإذعان لمصائر التقدم التقني والتكنولوجي وسياساته الهيمنية. وفي عالمنا الثالث، تَتَرجم ذلك بعودة جارفة للديني، ولأشكاله الجهادية، ومعه عودة استشراء السحر والاعتقاد الصارخ في الروحانيات...
لهذا، لم يكن من الصعب تصور النجاح الباهر الذي لاقته كتابات الروائية الإنكليزية جوان رولينغ عن العالم السحري الذي اكتشف فيه الطفل اليتيم "هاري بوتر" قدراته الخارقة في مجاوزة الطاقة البشرية. في آخر التسعينيات، حين ذاع صيت هذه السلسلة، كان أغلب قرائها من المراهقين والشباب. وأتذكر أن بنتيَّ اكتشفتا الأمر في بدايات الألفية، وكان عمرهما لا يجاوز الثانية عشرة، والخامسة عشرة. وقد ألحتا عليّ كي أستجلب لهما عند كل سفرة إلى فرنسا الأجزاء الجديدة من "ملحمة" هاري بوتر العجيب الذي كنت أسميه "تهكما": هاري بوبكر! وطبعًا، كنت أقرأ خلسة منهما بعض المقاطع من هذه الملحمة السحرية التي تتصارع فيها القوى الخفية وتحبل بالجن والوصفات والحلول، والخفاء، والتجلي، والطيران. صرت في تلك اللحظات صبيًا مثل بنتيَّ يتابع معهما ما تقرآنه، كما "المانغات" التي تستهويهن، فنجلس معا لمتابعتها، مثلما تابعت معهما ما حوّل من سلسلسة هاري بوتر إلى السينما. ومن تشبعي بتلك السلسلة، وخاصة الجانب السينمائي منها، الذي كنت أقصد صديقي بائع نسخ الأفلام على الأقراص المدمجة لاقتنائها للبنتين، أصبت بخيبة بالغة، سنين بعد ذلك، حين وقعت عيناي على ممثل شخصية هاري بوتر، وقد تحول وجهه المدور المليء بالبراءة إلى وجه مكعب لم يوح لي بأي جاذبية تذكر... أذكر أيضًا أن لغة تلك الروايات العجيبة (الفانتازية) كانت موردًا ومعينًا، من ضمن موارد أخرى، لاكتساب البنتين خزانًا لغويًا وأسلوبيًا جاوز فرنسيتي التي كنت أتكلمها وأكتب بها نصوصي...




لم أكن قد سمعت قط باسم صاحبنا (ال) مسلم، الذي اكتظت قاعة توقيع رواياته بحمهور الناشئة في معرض الرباط الأخير، قبل أيام، مع أني أتابع بشغف جديد الرواية وأحداثها الثقافية. لكن ذلك اللغط والهرج الذي أحاط به، وتلك الجماهير الغفيرة التي حجت إلى موقعه وتوقيعه، مع ما صاحبها من تدافع للأكتاف وحالات الإغماء... أثار فضولي، فوجدت أغلب رواياته على الإنترنت، والتهمت أغلبها، أو لنقل أشهرها، كي أحاول استيعاب هذا الواقع الثقافي الذي لم يتجاوزني لوحدي، ولم يصبني لوحدي بالدهشة الغبية، وإنما تجاوز وأصاب كل المجايلين لي من الكتاب والمثقفين...

تحولات غريبة في الثقافة العربية اليوم

أعترف أن لغة صاحبنا متينة، لا يشوبها ما كان يشوب من ركاكة، أو أخطاء، بعض روايات كتاب عاطفيين وسموا يفاعتنا، من قبيل محمد عبد الحليم عبد الله، وإحسان عبد القدوس (ربما، كما علمت في ما بعد، لأن المدققين اللغويين كانوا يراجعونها لهما، وهو ما قد ينسحب على صاحبنا (ال) مسلم). بيد أن حكيه المتقطع، المليء بالاستطراد أحيانًا، والتكرار أخرى، والذي يعتمد التقطيع السينارستي، والتشويق والتركيب بين حكايات مختلفة... يبدو أشبه بما ينشره من تدوينات عفوية شباب قارئ، أو مثقف في مواقع التواصل الاجتماعي. بيد أن نرجسيته (ونرجسية شخصياته) لا يمكن إلا أن نحس بها في كثير من الأحيان. فالرجل (أو شخصياته) معاد للطب والأطباء، يعترف بـ"جنونه"، وغرابته، ويتقن فنون الروحانيات والسحر، ما يساعده على طرد الجن والأرواح الشريرة. وهكذا، تبعًا لذلك، علينا أن نتخلى عن التصور السائد لدى المشرقيين منذ "ألف ليلة وليلة"، على أن السحر موكول بالمغاربة الدراويش، أولًا، لأن المؤلفات المتداولة في هذا المضمار من قبيل "شمس المعارف الكبرى"، وغيرها، صنفها مشارقة، وثانيًا لأن المغاربة حافظوا أطول وقت ممكن على إرث المشارقة في مختلف المعارف، وثالثًا لأن الرواية السحرية جاءتنا في العصر الرقمي من "المشرق"، واحتفي بها احتفاء مبهرًا من قبل جمهور الناشئة والمراهقين، كما المراهقين المتأخرين بالرباط؛ بالرغم من أن كاتبًا مغربيًا كتب ما يشبه ذلك منذ أكثر من عقد من الزمن، ولم يثر كتابه ما أثارت كتابات صاحبنا.
كان جمهور الروائي يتكون أساسًا من شباب الإعداديات والثانويات والطلبة. إنه الجمهور المغفل والمهمش في الكتابة الأدبية المغربية، كما في الترجمات. فكتاب الناشئة العرب قلة قليلة، وأندر من الكتاب باللغات الأجنبية. لذلك فأغلب ما تتشبع به هذه الشرائح، الواسعة جدًا، والوازنة جدًا، يأتيها من مقرراتها الدراسية (طه حسين، المازني، وبعض المحدثين). المثقف والكاتب العربي المعاصر لا يتوجه للناشئة، ولا يعير لها ما تستحقه من اهتمام. وأذكر أن تجربة مشروع "كلمة" في أبو ظبي، المتمثلة في تخصيص جزء منه للناشئة، في المجالات العلمية والفلسفية (أوكلت لي لمدة طويلة)، كانت من الأهمية بمكان، لولا أنها لم تحظ بالتوزيع في أنحاء العالم العربي كافة.
تابعت أغلب ما نشر تعليقًا عن حادث معرض الرباط، وأحسست بغصة الكتاب الحاضرين في المعرض، الذين جاء هذا الحادث ليعصف بتوقيعاتهم الفقيرة عدّة وعددًا، وليحطم نرجسيتهم المبنية على مفهوم النخبة، والفعل الثقافي المحدود في الطلبة والمهتمين، والذين لا تجاوز طبعات كتبهم الألف نسخة، ونادرًا ما تحظى بالطبعة الثانية. إنه واقع مرير يحول النخبة الكاتبة والمثقفة إلى فئة نخبوية لا ترى نفسها إلا في مرآة مجالها، يتساوى في ذلك المتوّجون بالجوائز في السرديات والنقديات كما الروائيون والشعراء. فالجوائز في العالم العربي يتجاوز فيها المبلغ المرصود للفائز بكثير جدًا عدد قراء الكتاب الفائز... ولو سنين بعد ذلك. بل إن تلك المصنفات غالبًا ما تنسى فور تتويجها، فما بالك بديمومتها الثقافية أو بتحولها إلى مرجعية ثقافية!
ما يفضحه هذا الحادث ويعريه، ومعه النمط الروائي الذي ينتجه (ال) مسلم بغزارة، كما فضح قبله فنان تشكيلي غريب يضاهيه غزارة وعجائبية وتداولًا، هو هشاشة قارئ الثقافة العربية. وهو بمقدار ذلك، يكشف عن خلخلته لهشاشة جيلنا من الكتّاب. لقد رأينا بأم عيننا جيلًا من الفتيان والفتيات الذين لم يصلب بعد عودهم يتهافتون (بالمعنى الحقيقي للعبارة) على كاتبهم المفضل. لقد خرجوا من وراء شاشات هواتفهم الذكية وحواسيبهم كالنمل يسري لتلامس عيونهم وأناملهم هيئة "مرشدهم الروحي" الجديد. وهم أول من يعثر على النسخ "البي دي إف" في الشبكة العنكبوتية ليلتهموا أجزاءها الضخمة التي قد تصل إلى ستة أجزاء. بل هم أول من يطلعون على الإشهارات المصورة الجذابة التي تلج هواتفهم وتروج لاقتناء مجموعة "خوف"، أو "ملحمة البحور السبعة"، أو غيرها، بحورياتها وجنها وعفاريتها وسحرتها...

السعودي أسامة مسلم... الروائي الظاهرة

أما جيلنا من الكتاب، فإنه جيل تحول، بفعل الثورة الرقمية ومستتبعاتها الفكرية و"باردغمها" العجيب، إلى فئة من الدناصير الآيلة للانقراض. وهو وإن استعمل وسائل التواصل ولهث وراء الاعتراف الرقمي، ودرس بعضهم منه ما يسمونه "الأدب الرقمي" (الذي لا علاقة له فعلية بالرقمية)، فإنه يستعملها وسيلة فقط من غير أن يدرك شبكيتها وتفاعليتها. إنه جيل يعيش ما يسمى في كرة القدم بالشرود... أي الشرود عن جيل المستقبل، لأنه يراه جيلًا غير قارئ، ولا مبادئ أو معتقدات له... والحال أنه جيل يقرأ بطرق مختلفة ومتنوعة ومتعددة. فهو يقرأ الرسوم والصور والفيديوهات والأفلام بالطريقة نفسها، لا حسب "مناهجنا" و"ميتودولوجيانا" و"منظورنا الفكري" و"أطروحاتنا" و"باراديغماتنا" و"إبستمينا" وأيديولوجياتنا"...





وأنا في صدد ترجمة كتابين صغيرين لصديقي الأنثربولوجي المعروف، ديفيد لوبروتون، عن الجسد ومسألة الفحولة والوشوم، وغيرها، لدى المراهقين، كان السؤال الذي دفعني إلى هذه الترجمة يتصل بغياب الاهتمام بهذه الفئة، أو قلتها، ليس فقط لدى الروائيين والأدباء والشعراء (الذين ننعتهم بالمبدعين، وكأن الإبداع والخيال محصور فيهم)، وإنما لدى علماء الاجتماع والنفس والأنثربولوجيا المغاربيين والعرب. بل إن الطامة الكبرى تأتي من أن الجامعة المغربية خلقت كلية متخصصة في علوم التربية (اقتداء بشعبة في فرنسا ظهرت في الثمانينيات تسمى بهذا الاسم، وتندرج في كلية العلوم الإنسانية)، تنتج "متخصصين" في هذه العلوم (بالجمع)، يتخلى معظم المتكونين في العلوم الاجتماعية فيها عن تخصصهم ليمارسوا التربية الجمالية (وهو مصطلح أقل ما يلاحظ فيه غموضه)، أو ديدكتيكا اللغات، ويتخرجون منه مساعدين اجتماعيين، أو داعمين نفسيين، أو موجهين وأساتذة في المؤسسات التربوية، من غير تعميق تكويني في علمي النفس والاجتماع.
لنعترف، إذًا، أننا "نخبة" لا تملك الإيقاع الفكري والثقافي القمين بالإمساك الشمولي العميق والوجيه بالإيقاع المتسارع للعالم في أشكاله الرقمية. فنحن ما زلنا نراه سطيحة "ننشر" فيها صبيننا الثقافي. أما قراء "الروائي الظاهرة" فهم أبناء "جيل Z"، جيل الشذرية و"الزابينغ"، أي جيل ما بعد 1997، العام الذي نشر فيه بالضبط كاتبنا روايته الأولى. وهو جيل يعشق الغريب والعجيب والحميم، ولا يطل على التاريخ إلا من خلال فورة العواطف والإحساسات والنشوة الفوارة، التي تتقاسمها هذه القبائل الجديدة (حسب تسمية مشيل مافيزولي في ترجمتنا له، 2005)... وهو ينتج بسرعة ووفرة لا يوفرها لنا إلا الذكاء الاصطناعي، أو الاشتغال على الحاسوب ليل نهار... إنه الأنموذج الجديد للكاتب الذي يتقن ابتكار invention قرائه باللغة العربية، في وقت أدار هذا الجيل فيه الظهر لهذه اللغة... ويكتب الروايات الضخمة المتسلسلة في زمن قياسي، كما لو كان ثمة عفريت خدوم يكتب له ذلك...
ولنعترف أيضًا أننا عوض تحقير هذه الأشكال الجديدة التي تنتقل للسينما بسهولة فائقة، مثلما حقرنا في الماضي كتابات إحسان عبد القدوس، ومحمد عبد الحليم عبد الله، باعتبارها أدبًا موازيًا/ paralitterature، علينا أن نرى فيها مرآة نستشف فيه مآل ثقافتنا التي غدت تقليدية فكرًا وأشكالًا ووسائط... إنها كومة الأسئلة التي تطرحها، وستطرحها بشكل أحدّ وأعتى، هذه الظواهر الجديدة للممارسة الثقافية. فهل بدأنا نعيش احتضار أشكالنا الثقافية لصالح أشكال جديدة مناقضة لها تمامًا؟... أليس لكل جيل أدبه وثقافته، حتى ولو كانت ثقافة هذا الجيل سائلة وعاطفية وروحانية وعنيفة، ولها مذاقات أخرى؟