Print
محمود عبد الغني

الفكر ابن الأسئلة البسيطة: حكايات من الفكر المغربي الحديث

16 يونيو 2024
آراء
يعترف المفكر المغربي محمد عابد الجابري أن سؤالًا طرحه عليه أحد طلبته، هو الذي أيقظه من سباته، وقد كان شبه نائم. كان هذا السؤال منبّهًا قويًا، كان له صوتٌ صاخبٌ، فأحدث رجّة فكرية عميقة. يذكر الجابري أنه بعد خروجه من مدرّج الكلية، بعد انتهاء درسه عن الفارابي، وفجأة التحق به طالب، ضمن مجموعة من الطلبة، فسأله سؤالًا جعله يشعر كأنه شخص نزل من السماء. لم يكن الطالب في العادة يطرح الأسئلة، لكنه حين سأل واجهه بهذا السؤال: أستاذ، كيف نقرأ التراث؟
لم يجب الجابري في الحين، لأنه فهم الأبعاد التي صدر عنها السؤال، فلم يكن من الممكن تقديم جواب يقع في كلمة، أو كلمات، أو حتى في خطبة. فهم الجابري أن السائل أراد أن يقول: كيف نفكّر في تراثنا العربي الإسلامي، كما فعل فوكو في قراءته للتراث الفكري الفرنسي، وكيف نقرأ الفارابي بالطريقة نفسها التي قرأ بها ألتوسير ماركس؟ حينها شعر أن سؤال الطالب ليس من الأسئلة التي تُطرح من أجل جواب فوري، بل من أجل القيام بمهمة.
بالإضافة إلى الشعور بذلك، تحرّر الجابري فورًا من شيء قديم، ولبس ثوبًا جديدًا، ألا وهو ضرورة الشروع في القيام بالمهمة، عن طريق تجديد طرق تدريس الفارابي، وغيره من فلاسفتنا القدامى. وقد قدّر الجابري أن الجواب على السؤال الرهيب الذي طرحه طالبه، والداعي إلى القيام بمهمة، هو الانتقال من الطرح الأيديولوجي الدوغمائي الذي كان يستورد المنهج الماركسي مطبّقًا، إلى القيام بالبحث الإبستمولوجي. فقد كانت المادة متوافرة: الجابري متمرس على دراسة فلسفة الفارابي. كما كانت أساسيات المنهج موجودة: التمرس على المنهج الإبستمولوجي، ولم يعد سوى القيام بأمر واحد، مهمة واحدة، تطبيق المنهج على المادة. هذه هي القاعدة التي انطلقت منها مركبة الجابري نحو السماء.
يذكر عبد الفتاح كيليطو في مقدمة كتابه "الأدب والغرابة" (توبقال، 2006) مجموعة من التفاصيل والأحداث الصغيرة، لولا إنصاته إليها لما أصبح كيليطو ما هو عليه اليوم. يعود هذا الإنصات إلى سنة 1968 أو 1969، حين سمع أساتذة فرنسيين يتحدّثون عن العدد الثامن من مجلة لم يكن يعرفها، "كومينيكاسيون"، قالوا إنه عدد مخصّص للتحليل البنيوي للسرد، ويتضمّن مقاربة جديدة للأدب. فما كان من كيليطو، الأستاذ الشاب آنذاك بشعبة اللغة الفرنسية وآدابها في الرباط، إلا الإسراع لاقتناء المجلة، التي فوجئ بما تضمنته من أسماء جديدة، ومفاهيم لم يسبق أن سمع بها، ومواضيع غير معتادة. يقول كيليطو إنه كان معتادًا على قراءة الأدب الرفيع (دوستويفسكي، بروست، فلوبير، كافكا...)، أي ما يُذكر في المدارس والجامعات. لكنه لم يكن يظنّ أن الحكاية، والأسطورة، والخرافة، والنكتة، والقصة المصورة، والرواية البوليسية، يمكن أن تصير موضوعات لدراسات جادّة.




بالإضافة إلى هذه الصدفة، ذكر أيضًا أخرى كان بطلها طالبًا مغربيًا طرح أسئلة عدة على محاضر أتى من فرنسا: كيف تتحدّث عن الأدب من دون أن تذكر جاك دريدا، ولويس ألتوسير؟ ما هي منطلقاتك الأيديولوجية والمنهجية؟ من أي مكان تتحدّث؟ ويضيف كيليطو أن رولان بارت حين جاء إلى المغرب لم يرحمه الطلبة بأسئلة محرجة: ما فائدة البنيوية بالنسبة لبلد من العالم الثالث؟ وهو سؤال أكثر دقة من السؤال الأكبر التي تولّد عنه: ما فائدة الأدب؟
كانت تلك هي نقطة تحوّل عبد الفتاح كيليطو في نظرته إلى الأدب. وتغيّر النظر لا يتمّ إلا بعد تغير طرق القراءة، وعندما تتغيّر هذه تتغيّر الكتابة حتمًا.
تنتمي الباحثة الاجتماعية المغربية فاطمة المرنيسي إلى هذه الفئة من المفكرين المنصتين دومًا لدبيب الأسئلة. نزلت الأستاذة فاطمة من بيتها عند بقال الحيّ لشراء ست بيضات. ولأنها عالمة اجتماع، فقد كانت تعرف أن البقال في المغرب هو المحرار الحقيقي لقياس درجة حرارة الرأي العام. فسألته: "أيمكن للمرأة أن تحكم المسلمين؟". فردّ البقال صائحًا "أعوذ بالله". استاءت فاطمة المرنيسي رغم الصداقة التي تربط بينهما. ضاق البقال من فظاعة الفكرة، حتى كادت البيضات الستّ تقع من يديه.
لم تكن وحدها عند البقال، بل هنالك زبون آخر جاء لشراء حبوب الزيتون. سمع السؤال، ودمدم على الفور "وقانا الله من مصائب هذا الزمن"؛ وهمَّ بالبصاق على الأرض. وفي الحين نفسه وجّه إليها زبون ثالث، وهو معلّم كانت تصادفه عند بائع الجرائد، نقدًا لاذعًا بذكر حديث نبوي كان يعرف أنه سيكون ضربة قاضية لها: "لن يُفلح قومٌ وَلّوا أمرهم امرأة". ساد الصمت من حول المتحاورين الأربعة: عالمة اجتماع وأستاذة جامعية، معلم يقرأ الجرائد، زبون مجهول الهوية، والبقال الغاضب. لكن الأستاذة فاطمة المرنيسي اعترفت أنها خسرت الجولة. فحديث نبوي صحيح في ظلّ حكم ديني إسلامي لا يمكن الاستهانة به، إنه الحجة التي تختفي أمامها كل الحجج. لم يكن أمامها سوى مغادرة البقالة خلسة من دون أن تتمكّن من إضافة شيء، "وأي شيء كان في وسعي أن أقوله وتكون له قوة مثل قوة هذا القول السياسي المأثور، القاسي والشعبي، على حدّ سواء".
لكن تلك الصدفة الصباحية التي اجتمعت فيها على الأقل ثلاثة أنماط من الوعي. وجاء كل واحد لاقتناء شيء: فاطمة اقتنت ست بيضات، والمعلم باقة نعناع، والزبون الآخر لم يكن بعد قد أفصح عن حاجته، أما البقال فقد كان مركزًا يمنح كل شيء، منها العياذ بالله، كأنه يجهر بالصلاة على النبي، من أجل التحصين والدعاء بالحفظ من السوء. انطلاقًا من ذلك الصباح البعيد، قرّرت فاطمة المرنيسي، مثل محمد عابد الجابري، وعبد الفتاح كيليطو، وهم جميعًا في حالة من الذهول والشعور بالهزيمة والغيظ، بالضرورة القسرية للتزود بالوثائق حول ما يمكن أن يصبح فكرًا تصحيحيًا ويصبح بديلًا (لمَ لا؟) لتلك السلطة المدهشة على الأفكار المأثورة في دولة حديثة.
حين أنصت الجابري لسؤال طالبه "كيف نقرأ التراث" أنتج كتابه "نحن والتراث" الذي انطلق منه نحو ما تبعه وتلاه من كتب. وحين أنصت كيليطو للأساتذة الفرنسيين وهم يتحدّثون بدهشة عن البنيوية التي جاء بها أحد أعداد المجلة الفرنسية "كومينيكاسيون"، ألَّف كتابه الافتتاحي لكلّ مشروعه النقدي "الأدب والغرابة". وحين حاورت فاطمة المرنيسي بقال الحي، وبعض زبائنه، حول سؤال "هل يمكن للمرأة أن تحكم المسلمين؟"، هي التي جاءت فقط لشراء ست بيضات، انعزلت وخصت كل وقتها للبحث، فكان ثمرته الكتاب المدهش "الحريم السياسي"، وما تلاه من مؤلفات أخرى.