Print
أورنيلا سكر

في نقد الدراسات الاستشراقية عن السيرة النبويّة

19 يونيو 2024
آراء
أصبحت مسألة مراجعة التراث وتنقيته وضبط عملية فهمه ضرورة ملحة، وأساسًا في ظل تأسّس أيديولوجيات متطرفة داخل المجتمع الإسلامي مبنية على أحاديث مدسوسة ومنسوبة زورًا إلى النبي تارة، أو على سوء فهم وتأويل لأحاديث أخرى واردة عن النبي تارة أخرى؛ ما يجعلنا نثير إشكاليات عديدة عن هذا التراث الإسلامي، ليس بهدف المسّ بالدين الإسلامي، إنما لإزالة الشبهات والتشويهات التي رافقت السيرة النبوية منذ تأسيسها إلى يومنا هذا على أيدي مندسّين وبعض المستشرقين من الذين أساءوا فهم اللهجاتِ العربية ووعائِها الواسع الذي يشمل تعريب وتصريف المعاني من جهة، والتوظيفات السياسية التي تم تبرير سياسة الخلفاء فيها من جهة أخرى. وكثير من العلماء والعباقرة وصفوا النبي محمد بالرجل العظيم وما له من فضل وحكمة ورحمة قاد بها الأمة الإسلامية نحو التوحيد، وأشهرهم الكاتب البريطاني مايكل هارت في كتابه "المئة تصنيف لأكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ" حيث وضع الرسولَ محمد (ص) في المرتبة الثانية، لتأثيره الكبير على العالم الإسلامي والعالم.

المشكلة لا تكمن في الدين الإسلامي إنما في تركه مهجورًا لتركة لم تحسن توظيفه والائتمان عليه، بحيث تعرّض الدين الإسلامي لقضايا أبرزها التأثيرات الخارجية والغزوات والحروب، كما أن للمستشرقين دورًا في تشويه وزرع السموم في هذه الدراسات من خلال إسقاط منهجية تفتقر إلى البحث العلمي والمعرفة اللغوية؛ الأمر الذي يجعل من الصعب توضيح جوانب عديدة وعميقة، خاصة في طبيعة التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للإسلام، مع العلم أن بعض المستشرقين أحسنوا نقل تلك المعارف بأمانة وعلم وموضوعية، غير أن أغلبهم عمل على استغلال وقائع وأحداث من أجل توظيفها في خدمة أجندات استعمارية وضرب العقيدة من الداخل، أمثال وليام مونتغمري واط، وكارل بروكلمان، ويوليوس فلهاوزن. إن اختياري لهذه الأسماء من المستشرقين يكمن في شهرتها في الدوائر الأكاديمية التي عملت على تأهيل أجيال عديدة من أبناء المسلمين وفق نسقها المعرفي الخاضع في نشأته وتطوره ومناهجه إلى ما حدث في الغرب من تطور في العلوم ومناهجها، الأمر الذي أدى إلى عدم تطابق، بل وتضادّ مع وقائع السيرة النبوية. كذلك فإن خطر الدراسات الاستشراقية يكمن في وجود موطئ قدم لها في مؤسسات التعليم العالي في العالم الإسلامي، لذلك من المهم فهم طبيعة حركة الاستشراق وكيف تعمل منهجياتها، من أجل التصدي لهؤلاء المستشرقين من الداخل. كما أسهم الاستشراق في محاولة تفجير الإسلام من الداخل من خلال أدوات وأساليب خبيثة تعدّدت أوجهها لتشمل النواحي الفكرية، والعسكرية أيضًا، وتجنيد هذه المعارف في خدمة الاستعمار، واستهداف العقيدة الإسلامية، وذلك وفق سياسات عنصرية وتعصّب ديني لا يزال يرافقنا إلى يومنا هذا من خلال منهجيات مستأنفة تسعى إلى إفراغ الإسلام من ذاتيته الحضارية وتجريد النبي من أهم صفاته، وهي صفة النبوة [1].

وتأتي هذه المحاولة من أجل الكشف عن طبيعة أعمال ودراسة آراء هؤلاء المستشرقين الثلاثة من خلال مؤلفاتهم التالية: "محمد بمكة" و"محمد بالمدينة" لمونتغمري واط، و"تاريخ الشعوب الإسلامية" لبروكلمان، و"تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام حتى نهاية الدولة الأموية" لفلهاوزن. وتكمن أهمية هؤلاء المستشرقين في أنهم درسوا وفنّدوا تاريخ الإسلام، وبخاصة فلهاوزن الذي كان ملمًا بالتاريخ الأموي. غير أن سيطرة الأسلوب العاطفي على العلمي جعل من هذه الدراسات موضع تناقض وشبهة وتلاقت حول النظرة الضيقة وقصور الفهم في الإحاطة اللغوية وتأرخة التاريخ الإسلامي وطبيعته وتضاريسه ومبانيه الروحية بمعرفة عميقة وجيدة، الأمر الذي أوقع المستشرقين في تأويلات وممارسات ممنهجة للتضخيم وزرع بذور الفتنة واستغلالها وتحريف الكلمة عن موضعها وتشويهها من دون إرجاعها إلى المصادر الإسلامية الأصلية [2].

لا يمكن أن نفصل موضوع الاستشراق عن حركة التبشير والاستعمار وعلاقتها بالحروب الصليبية الوليدة للثقافة التي أنتجها الغرب الاستكباري بحق الإسلام والمسلمين، من خلال حملة لاهوتية بدأ وجودها مع تأسيس مجمّع فيينا الكنسي عام 1312م، وصولًا إلى إنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية. كما أن البابوات في أوروبا لعبوا أدوارًا أساسية في مجمع كليرمونت عام 1095م في عهد البابا أوربان الثاني (1088-1099)، الذي دعم وغذّى الحملات الصليبية على المشرق العربي- الإسلامي، فكانت تلك المرحلة هي التي تأسّس عليها الفكر الغربي الاستعدائي للمسلمين، إذ أن الاستشراق نشأ، إلى حدّ كبير، في أحضان الكنيسة، وعايش التحولات والتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها الساحة الغربية [3].

كانت لهذه الدراسات الاستشراقية أهداف سياسية ودينية بدأت في مجال الترجمة، حيث توجّهت البعثات العلمية المسيحية إلى الأندلس [4]، وكان من بين بابوات الكنيسة الذين تعلّموا في الأندلس، جربر دي أرالياك (938-1003)، الذي تولى منصب البابوية باسم سلفستر الثاني. وقام "بطرس المحترم" (راهب ولاهوتي فرنسي) بتشكيل جماعة من المترجمين للحصول على معرفة موضوعية عن الإسلام، وأوعز بترجمة القرآن إلى اللاتينية. وبحسب زعمه، فإنه من الضروري معرفة الإسلام معرفة جيدة "كي نحسن ضربه من الداخل ومحاربته جيدًا على مستوى العقيدة". وهكذا انكب المفسّرون والمسيحيون على ترجمة القرآن ودراسته، من أجل نقده. وهذا نقاش لاهوتي، لم يكن دائمًا صادرًا عن حسن نية أو لإيجاد تفاهم مشترك، بل كان موضع شكّ، وتزوير، ودسّ السموم، وإثارة الفتنة داخل العقيدة الإسلامية والتاريخ الإسلامي.

مسح مخطوطات إسلامية رقميًا في تونس (Getty)


وقد امتد النفوذ الكنسي على الاستشراق حتى وصل إلى المعاهد  العلمية، وأصبح العلم عبارة عن ثنائية "المعرفة- السلطة" بحسب المفهوم الخاضع لاجتهادات لغوية ولسانية كان لها تأثير كبير على النص وأثره على العقيدة الإسلامية واجتزاء المعاني وإعطاء معانٍ ومبانٍ فكرية مشوهة جدًا غلبت عليها روح التعصّب والكراهية والمغالاة وسوء الفهم والتحريف، مثل أحاديث ذات علاقة بالمقاتلة والمرأة والحجاب وملك اليمين وزواج الصغرى والنكاح والقتل والإرهاب وغيرها من المفاهيم التي يعتريها العنف والمغالاة، وإرجاع المفاهيم إلى سياقات هي بالأساس غير معترف بها في القرآن الكريم وتم نفيها وإدانتها مثل تحريم الردّة والقتل والاعتداء على الآخرين وتكفير الآخر.

يقول الإمام جعفر الصادق في حديث شريف: "لا تكتبوا عني شيئًا غير ما ورد في القرآن، ومن كتب عني فليمسحه"، فضلًا عن إشكالية نسخ القرآن، أي تفضيل السنة النبوية على كتاب الله الذي دعا فيه إلى التالي: "يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته". بمعنى آخر، العالم الإسلامي خاضع لسيطرة وسطوة الرواة وتقديس تفسيراتهم التي تناقض كلام الله من جهة، ومن جهة أخرى لا تحترم المنهجية العملية في الأخذ بما هو حديث صحيح، وقطع حبل الوريد عن الأحاديث الضعيفة، والشكوك التي تعتري مسألة الأنساب، وإشكالية الخبر ومدى صحته والإجماع حوله وصدقيّته وعلاقته بمفهوم ومبدأ النص القرآني.

إضافة إلى ذلك، اتهم المستشرق مونتغمري واط الإسلام بأنه منسوخ عن الدين اليهودي-المسيحي وبأنه تقليد له، على اعتبار أن سيرة النبي محمد هي تطبيق لسيرة المسيح، وهذه إشكالية تم العبث بها من قبل المستشرقين عبر التلاعب بالمصطلحات وتضخيمها وزرع الشك فيها وعدم اليقين، من أجل تقديم صورة مزيّفة وكريهة عن نبي الإسلام والتشكيك في نبوءته باعتباره أميًّا، بسبب تخوّف الكنيسة من المدّ الإسلامي الذي لم يتوقف إلا عند بلاط الشهداء بين مدينتي تور وبواتييه سنة 732م. ووصول المسلمين الأتراك إلى القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، واستيلاؤهم عليها عام 1453م، أفرز عصر النهضة الأوروبية التي كان يعوّل، من خلالها، على هدم بنية الكنيسة والتفكير اللاهوتي، لذلك لا يبدو غريبًا أن تشن الكنيسة على الإسلام حربًا انتقامية.

فعلى الجانب العسكري، كانت الحروب الصليبية وحملات الاسترداد المسيحي في إسبانيا والتي انتهت بطرد السلطان أبي عبد الله محمد بن أبي الحسن، آخر حكام بني نصر، من قشتالية في الثاني من كانون الثاني/ يناير عام 1492م. وعلى الجانب الفكري، اتخذت الكنيسة من الاستشراق وليدة كراهية جديدة للإسلام. وليس غريبًا أن يكون أعلام رواة ومفسّري الدين الإسلامي العربي أعاجم من بلاد فارس. ألا يضع ذلك موضع الشبهات، وأن تكون تلك التراكمات التي رافقت العالم الإسلامي سببًا في الانقسامات بين السنة والشيعة، منذ النشأة إلى يومنا هذا، وسببًا في الصراعات والتأويلات القاصرة والمشوّهة من أجل إثارة الفتن والنعرات والانقسامات الدينية والمذهبية [5] التي أوصلنا إليها المختبر الاستشراقي ثم المختبر السياسي والاستعماري، بكل تبعاته الاقتصادية والعسكرية وأنظمة الغزو.

ولتبرير هذا النهج الاستشراقي، ابتكر الغرب ووظّف دعايته القائمة على فكرة أن الإسلام هو العدو الأكبر للمسيحية، وهكذا تأسست فكرة محمد الظلامية في العصور الوسطى عبر اتهام النبي محمد بالخداع والشهوانية وبأنه نبي دجال. إن هذه الصور التي تأسّست وتشكّلت على مدى عصور تقوم على تراكيب ملفقة وسلبية من اليهودية والمسيحية والمجوسية، بحسب المستشرق بروكلمان [6]، وذلك بفعل المؤثرات الضاغطة على وعي المستشرقين.

اتبع المستشرقون الثلاثة في دراساتهم لواقع السيرة النبوية مناهج متعدّدة، تتلخص في: منهج الأثر والتأثر، المنهج العلماني، المنهج المادي، المنهج الإسقاطي، منهج النفي والافتراض واعتماد الضعيف الشاذ للأحاديث، ومنهج البناء والهدم. فمثلًا استخدام المستشرق واط في ذكره لآية من القرآن بالقول: "قال محمد" بدلًا من "قال الله"، كدعوة للمسيحيين لاتخاذ موقف ديني  من محمد. كما دعا إلى اتباع المنهج العلمي في دراسة الوحي الإسلامي من نظرة علمانية للكون لا مجال فيها للقيم الخلقية والدينية. لكن ما ذكره واط منافٍ لصحة ما يزعمه، باعتبار أن النبي تأثر بورقة بن نوفل المسيحي الذي أخذ ينقل عن اليهودية والمسيحية بهدف صياغة الإسلام على شاكلة الدين الأقدم، بحسب واط، عبر تظهير آثار اليهودية والمسيحية على الإسلام في الصلاة والعادات والصيام. ودعا واط إلى اتباع المنهج الإسقاطي في اتهام القرآن بالتحيّز، فقد كانت تلك المرحلة مرحلة تأسيس وتثبيت للعقيدة الإسلامية في مكة، وذلك بإثارة الشكوك حول شخصية الرسول من أجل الطعن في العقيدة لأسباب سياسية. كما نجد استخدامات عديدة لهذا المستشرق لمنهجية الافتراض، واعتماد الضعيف الشاذ، مثال على ذلك: "يصعب تصديق ذلك"، و"إذا أمكن قول هذه الرواية"، ففي نظر واط رواية الطبري حول المسلمين الأوائل هي موضع شك، وكذلك عروة بن الزبير لأنه كان ينتمي للحزب الحاكم أيام محمد، ما يضع الشك في قبائل بني أمية المسؤولة عن معارضة محمد وأبي بكر وتظهّرها بالمظهر السيء. كما يشكّك في دور نعيم بن مسعود في تخذيل الأحزاب أثناء حصار المدينة معتبرًا أن المصادر الإسلامية تقوم على تمجيد الاشخاص [7].

في الختام ، يعدّ هذا الموضوع مثيرًا للنقاش، إذ يتوقف عليه، تحرير العقل العربي- الإسلامي، والحدّ من إعادة إنتاج الأمراض العقيمة وعمرها أكثر من 1400 سنة، والتي تعيد استئناف وإنتاج نفس السياقات، لكن وفق منهجيات أكثر عرضية ومرضية أسهمت بتمزيق العالم الإسلامي وعجزه عن التحرّر من ماضيه وإيجاد مفاهيم جديدة تليق بمستقبل أجيالنا وتطلعاتها المعاصرة بفعل تفسيرات مبتورة ومشوهة تم مغالاة الكراهية فيها، والتأويلات القاصرة والمسيسة والمؤدلجة، والتي استطاع الاستعمار إيجاد موطئ قدم من خلالها لتفتيت وتمزيق العالم الإسلامي وتفصيله وفقًا لرؤيته ومخططاته.

*باحثة في الدراسات الاستشراقية.


إحالات:

 [1]  السيد محمد الشاهد: الاستشراق ومنهجية النقد عند المسلمين المعاصرين، مجلة الاجتهاد، عدد 22، ص ص 196-199.
[2] بعض أجزاء هذا التعريف مأخوذة من نجيب العقيقي: "المستشرقون"، ج2، ص 554. وبعضها مأخوذ من مؤلفات واط مباشرة ولمعرفة التفاصيل عن الاستشراق البريطاني أنظر، العقيقي: ج 2، 432 -464، مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية ج1، ص 390.
[3] عبد الكريم علي الباز، افتراءات فيليب حتي وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي، ص17.

[4] نقلًا عن مصطفى نصر المسلاتي: "الاستشراق السياسي في النصف الأول من القرن العشرين"، ص 5.
[5] مالك بن نبي: إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، ص 11.
[6] المعرفة والرؤية الاستشراقية حول علاقة الإسلام بالديانتين اليهودية والمسيحية؛ أنظر: الفيومي: الاستشراق رسالة استعمار، ص ص 337-359.
[7] عماد الدين خليل، مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية ، ج1،  ص159.