Print
أحمد زكارنة

المسألة الفلسطينيّة وإدارة التّوحّش ما بين الهامش والمتن

1 يوليه 2024
آراء

قسّم منسوب التّوحش المرتفع بعد السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر القراءة السياسيّة لليوم التالي إلى قسمين أساسيّين؛ ذهب الأوّل يفكّك المشهد على أرضيّة أنّ ما وقع تحت عنوان "طوفان الأقصى"، بكلّ ما فجّره من تداعيات حاليّة وتالية، لا يعدو أكثر من كونه أحجيّة لم تخرج من دائرة وصمها بالمؤامرة، أو المغامرة، ولذلك فقدت، ولا تزال، المرونة السياسيّة القادرة على استشعار خطورة اللّحظة الرّاهنة على كامل مصير القضيّة، وكذا على الإصغاء جيّدًا لأوجاع النّاس التي خلّفها هذا التّوحش تحت شرط الحاجة الإنسانيّة الملحّة.
وتندرج نظريّة المؤامرة، وفق أصحاب هذه القراءة، في خانة الإرادة السياسيّة لحركة "حماس" على وجه التّحديد، في محاولة جديّة منها لتغيير ملامح الخارطة السياسيّة للشعب الفلسطينيّ وخياراته المستقبليّة، سواء من داخل المؤسّسة الرّسميّة المعترف بها دوليّا "م. ت. ف"، أو من خلال تشكيل جسم بديل منها، عبر فرض قاعدة أنّ التّمثيل للمقاوم وليس للمساوم. فيما يرى أصحاب فرضيّة المغامرة أنّ هنالك فخًّا نُصب بإحكام شديد من قبل أطراف عدّة، لاستدراج قوى المقاومة الفلسطينيّة، بغية تقويض قوّتها العسكريّة في سياق إعادة صياغة الخارطة الجغرافيّة والديمغرافية في القطاع، كمقدّمة لما هو مخطّط وآت للضفّة الغربيّة، تحت عنوان "التّطهير العرقي"، عبر تطبيق سياسات التّهجير والإزاحة.
أمّا القسم الثّاني ممّنْ قرأ، ولا يزال، كامل المشهد، وينتمي إليه كاتب المقال، فيعتقد أنّ المفاضلة بين نظريّة المؤامرة وفرضيّة المغامرة هي الصّياغة المريحة، وليست الاستجابة الفاعلة، ما سيُنتج بالضّرورة سؤالًا خاطئًا على قواعد ساكنة، في زمن متحرّك، فيما الأكثر صوابًا أن يصبح السّؤال سؤال الفعل وتغيير السّياسات وما يندرج تحتها من تكتيكات واستراتيجيات مفترضة من قبل اللّاعبين المؤثّرين كافة في المشهد السياسيّ الفلسطينيّ، وهي تغييرات يمكنها أن تحتوي الحدث وتُجيّره لصالح القضيّة الوطنيّة بصرف النّظر عن أفكار وتصوّرات الفاعلين في مشهده ووقائعه، ليصبح السّؤال: هل يمكننا فعلًا احتواء الحدث وتجييره في ظلّ المناخ السياسيّ الرّاهن لدى المتنفّذين في صناعة القرار الغربيّ بقياده الولايات المتّحدة الأميركيّة؟
الإجابة السّريعة على مثل هذا الطّرح حتمًا ستصل بالنّتيجة الى اختيار القول: لا (كبيرة)، لن نستطيع تحريك حجر من أرضه ما دامت مفاتيح اللّعبة السياسيّة في اليد الأميركيّة بنسبة 99%، كما قالها الرّئيس الرّاحل أنور السادات قبل أكثر من أربعين عامًا من يوم النّاس هذا؛ أمّا اصحاب الإجابات المتأنّية بالاتّكاء على قراءة المتغيّرات الإقليميّة والدّوليّة، فيمكنهم الذّهاب إلى الإجابة بنعم: هنالك إمكانيه لالتقاط فواصل التّحوّلات الكبرى التي بدأت عجلتها في الدّوران إقليميّا ودوليّا لاستثمارها والبناء عليها، كما هو تحوّل الدّفع بتعدّديّة القطبيّة في زعامة العالم ومصالح وطموح لاعبين كبار على المستوى الدّوليّ والإقليميّ، كما اللّاعب الصينيّ واللاعب الرّوسيّ وعدد لا بأس به من اللّاعبين الإقليميين المؤثّرين والمستفيدين، وكذلك عبر حاجة الأنصار والخصوم لامتلاك مفاتيح الملفّ الفلسطينيّ بغية فرض السّيطرة والهيمنة على كامل المنطقة ولاعبيها الأساسيين والاحتياط معًا.





وسؤال الفعل عبر تغيير السّياسات وما يندرج تحتها من تكتيكات واستراتيجيات، يُمكنه أن يتحقّق من خلال محاوله تغيير قواعد الاشتباك السياسيّ عبر الذّهاب إلى الخيارات الصّعبة وغير المتوقّعة من قبل الجميع شرقًا وغربًا، وهي بالمناسبة خيارات تدفع بها وقائع الأحداث، ويفرضها السّلوك الإسرائيليّ المتغطرس، وفي إمكانها أن توفّر لصانع القرار الفلسطينيّ على المستويين السياسيّ والمقاوم، المساحات المنطقيّة للتحرّك العكسيّ، شريطة أن تتوفّر الإرادة السياسيّة الفلسطينيّة، في هذا الظّرف المختلف والاستثنائيّ، تحت عنوان الشرّاكة الفعليّة من دون توسيطها بين مصلحة القضيّة الوطنيّة، والمصالح الحزبيّة.

نشطاء يساريون إسرائيليون يرفعون لافتات ضد حكومة نتنياهو في تل أبيب (29/ 6/ 2024/ فرانس برس)


وهنا تتمظهر الأسئلة الأصعب، أو ما يمكننا أن نسميّها أسئلة الحقيقة: هل يمتلك اللاعبون السياسيّون الفلسطينيّون زمام قرارهم؟ هل تغازلهم الإرادة السياسيّة لليقظة قبل فوات الأوان؟ أيمكن أن يذهبوا للتّفكير خارج الصّندوق؟ فإنّ وجهة النّظر التي أحاول طرحها هنا لا تنهض على الشعارات الرّنانة، وترفض أن تتغذى على البطولات من دون أن تغذيها، ولكنّها تستمدّ مشروعيّتها من الواقعيّة السياسيّة التي تؤكّد في كلّ حدث بعد الآخر، أنّ العالم اليوم كما في كلّ يوم، لا يعترف إلّا بالقويّ والمؤثّر، وبالمناسبة الشعوب أيضًا لا تنظّر ولا تحترم إلا هؤلاء، فهل نستطيع أن نجاري مسار الأحداث الرّاديكاليّة التي تفرض نفسها بمنطق القوّة في كافّة المعمورة؟ عبر التحرّر من نسبيّة البراغماتيّة التقليديّة.
قد يقول قائل، نحن لا نمتلك كثيرًا من هامش الحركة، وأقول أنا إنّ قليل ما نمتلك يمثّل كلّ الحركة وفعلها المؤثّر، كأن نقلب الطّاولة على الجميع وأمام الجميع، وأن نصنع مفتاح أمل جديد يمكنه أن يفتح لنا مساحات حركة أوسع، وأن نبدّد الأوهام الملبّدة بخلق وقائع جديدة وفاعلة، وأن نفكّر في بعض دروس التّجربة عبر استدعاء مبدأ المخالفة، بأنْ نرى أنّ هنالك خطّين فاصلين أساسيّينِ مكمّلان لبعضهما بعضًا في تاريخ النّضال الفلسطينيّ وجب النّظر إليهما بتمعُّنٍ شديدٍ للاستفادة والاستثمار قدّر الإمكان من نتائجهما، أولًا من قِبلِ النُّخب السياسيّة الفلسطينيّة كافة، في سياق مراجعة ملحة تفرضُها وقائع الأحداث، وثانيًا من قِبلِ النّظام الدّوليّ إنْ أراد سلامًا حقيقيًا في المنطقة وخارجها.
أما الخط الأوّل فهو خطّ "معركة الكرامة" عام 1968 التي أوقعت أوّل هزيمة عسكريّة حقيقيّة بالجيش الإسرائيليِّ المُحتلِّ للأراضي العربيّة بعد "نكسة حزيران/ يونيو 1967"، هذا الانتصار الذي تُوّج باعتراف الأمم المتّحدة عام 1974 بحقّ الشّعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره والاستقلال الوطنيّ والسّيادة على أرضه المُحتلّة، وإقرار المنظومة الدّوليّة بالاعتراف بالكينونةِ المعنويّة الفلسطينيّة المُمثّلة بمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة، التي باتت عضوًا مراقبًا في الجمعيّة العامّة كممثّلٍ شرعيٍّ ووحيدٍ للشّعب الفلسطينيّ.
ومن دون الإطالة في معاني ودلالات هذا الاعتراف المهمّ بالحقّ الفلسطينيّ، كمشروع نقيض للحركة الصّهيونيّة التي صُنّفت بوصفها "حركة عنصريّة" في العام الذي تلاه بقرار من الأمم المتّحدة، يمكنُنا المرور مباشرة إلى الخطّ الفاصل الثّاني، المتمثّل في معركة "طوفان الأقصى"، والتي جلبت بدورها تحوُّلات تاريخيّة كبرى مَسّت بشكل كبير المُناخ السياسيّ العام على المستويين الشّعبيّ والرّسميّ في أوروبا والعالم بأجمعه، ما ساهم في تحقيق هزيمة نَكراء للسّرديّة الصّهيونيّة الزّائفة، لصالح الرّواية الفلسطينيّة المُحقّة، وحرّك بما لا يدع مجالًا للجدل المياه الرّاكدة حول الملفّ الفلسطينيّ على الصّعيدين الدّوليّ والإقليميّ.
هذه النّتيجة الواضحة وضوحَ الشّمس لكلا الخطّين الفاصلين تفرض علينا أن نعيد ترتيب الأولويّات لنصيغ معًا ما يخدّم مصالحنا الوطنيّة من قرارات في ظلّ علاقات فلسطينيّة داخليّة بمعايير مختلفة، تبحث عن المشترك وتتجاوز مصيدة "الانقسام" التي نصبها الاحتلال وحلفاؤه بإحكام لافت، لنزع غطاء الشّرعيّة الوطنيّة المُتمثّلة في منظّمة التّحرير، عن فكرة وجسد المقاومة، وحرمان الشّرعيّة الوطنيّة الفلسطينيّة من بعدها المقاوم.



جدير بنا أنْ نحترم ونقدّر الدّم الفلسطينيّ النّازف، الذي دفع بكلّ هذا الحراك الدّوليّ، لحظة التقاء نتاج البرنامجينِ السياسيِّ والمقاوم للفلسطينيّين تلقائيًّا، حتى من دون إنهاء ملفّ الانقسام سياسيًّا. وجدير بنا أنْ نؤمنّ جميعًا بعد أكثر من سبعة عقود من الاحتلال، وأكثر من تسعة أشهر من حرب الإبادة الجماعيّة على شعبنا الفلسطينيّ، أنّنا أمام لحظة فارقة ومهمّة، إما أن تضع القضيّة على طاولة الفعل، وإمّا أن تزيحها عن التّداول إلى أجل غير مسمّى. وسواء انتهى بنا مطاف السعيّ إلى هذه أو تلك، فإنّها لحظة لا شك وفّرت لصانع القرار الفلسطينيّ الحجج والمبرّرات المنطقيّة والقانونيّة والسياسيّة كافة، لاتّخاذ عدد من الخطوات والإجراءات والقرارات الفاعلة على صعيدينِ أساسيّين، صعيد الموقف السياسيّ في تعامله مع راهن الأحداث، وصعيد إنهاء ملفّ الخلاف الدّاخليّ؛ ردًا على الممارساتِ الإسرائيليّة الرّسميّة وغير الرّسميّة كافة، التي تهدف إلى خلق مزيد من الوقائع الجديدة، بغية إنهاء القضيّة الفلسطينيّة.
وهي خطواتٍ وإجراءاتٍ وقراراتٍ ممكنةٍ ومحتمَلة من شأنها أن تنتزع الحق الفلسطينيّ انتزاعًا، ويُمكننا أنْ نحدّد بعضها في التّالي:
1 ــ  تغليب المصلحة الوطنيّة على حساب الارتباطات الخارجيّة، أيًا كانت، وبشكل واضح ومعلن وصريح، وصولًا للاتفاق على مشروع تحرّريّ لا يتجاهل أهميّة المسار السياسيّ الدبلوماسيّ، ولا يتنكّر لحقّ المقاومة في ممارستها المشروعة.
ــ الإعلان عن ترتيب البيت الفلسطينيّ، بإدخال فصائل العمل الوطنيّ كافة تحت مظلّة (م. ت. ف)، بعد الإقرار بالتزاماتها الدّوليّة الأساسيّة. على أن يتمّ الاتّفاق لاحقًا على تحديد موعد لإجراء الانتخابات المحلّيّة والتّشريعيّة والرّئاسيّة، إن توفرت المساحة لذلك.
3 ــ إعلان سحب الاعتراف بالدّولة الإسرائيليّة، وانتهاء صلاحيّة اتّفاقيّات أوسلو، على خلفيّة الاعتداء على بنودها من قبل الطّرف الإسرائيليّ.
4 ــ إعلان الدّولة الفلسطينيّة المستقلّة، دولة تحت الاحتلال، والطّلب من المنظومة الدّوليّة، وعلى رأسها الأمم المتّحدة، ومجلس الأمن، والمجموعة العربيّة، تحمّل مسؤوليّاتها حيال هذا الوضع الجديد.
5 ــ تشكيل حكومة وفاق وطنيّ جديدة تعمل على ملفّين أساسيّين، إغاثة شعبنا، وإعادة الإعمار في قطاع غزة، وعلى دعم الصّمود، في الضّفّة والقدس.
6 ــ إعلان المؤسّسات الفلسطينيّة العامّة والمجتمعيّة والخاصّة كافة مؤسّسات دولة تحت الاحتلال تتحمّل المنظومة الدّوليّة بأذرعها كافة مسؤوليّة الحفاظ عليها وفق الشرعية الدولية.
7ــ الإعلان عن استعداد الجبهة الفلسطينيّة الانخراط الفوريّ في عمليّة سلام حقيقيّة وفاعلة ضمن مؤتمر دوليّ للسّلام يتّكئ على قرارات الشّرعيّة الدّوليّة بشأن حلّ الدّولتين، تحت شرط سقف زمنيّ مُحدّد ومعلوم، بعد اعتراف المُحتلّ بالحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة.





إنّ اتّخاذ مثل هكذا قرارات وإجراءات سيحول دون سقوط الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة في قبضة المشاريع الصّهيونيّة بغيّة تصفية القضيّة، فضلًا عن كونها تُعدّ الخُطوة الأولى التي من شأنها أنْ تخدّم أهدافًا تكتيكية واستراتيجيّة عدة في ضربة واحدة، أوّلها إنهاء ملفّ الانقسام بما يليق بالتّضحيات الجسام التي قدّمها الشّعب الفلسطينيّ، وثانيها نزع فتيل الخلاف الفلسطينيّ الأساس حول قضيّة الاعتراف المتبادل بالحقوق الوطنيّة بيننا وبين الطّرف الإسرائيليّ المُحتلّ، وهو ما سيكون بمثابة أولى الإجراءات العمليّة لتصحيح بعض أخطاء المسار السّلميّ من دون إغلاق الباب في وجهه.
غير أنّ مثل هذه القرارات ستقطع الطَّريق على كلّ الادّعاءات الذرائعيّة بشأن إشكاليّات البيت الفلسطينيّ الدّاخليّ، فضلًا عن كونها ستخلط وتربك كلّ الحسابات الإسرائيليّة والأميركيّة بشأن القضيّة الفلسطينيّة، وستجبر الغرب على مزيد من التّحرّك، كما أنها ستضع الحراك الدّوليّ الدّبلوماسيّ الأخير على صعيدِ الاعترافات بالدّولة الفلسطينية أمام مسؤوليّاته الإجرائيّة التنفيذيّة، إما بالاشتباك السياسيّ، أو بالانخراط الدّبلوماسيّ، وهو ما يفيد الموقف السياسيّ المتمسّك بضرورة توسيع دائرة الرّعاية المطلوبة دوليًا لعمليّة سلام حقيقيّة ومثمرة.
أعتقد أنّ ما حدث منذ السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر يشبه إلى حدّ بعيد ما وقع بعد اجتياح بيروت عام 1982، ولكنّ النّتائج لا يجدر بها أن تكون متشابهة، مع الإقرار بالفوارق السياسيّة والجغرافيّة المرتبطة بكامل المشهد داخليًّا وخارجيًّا، إذ ثمة فوارق بادية للعيان بين الحالتين، بإمكانها أن تفسر لنا وللجميع أين نحن اليوم، وما هو وضع قضيّتنا حول العالم؛ فإن كانت مقولة اليوم التّالي هي مقولة أميركيّة إسرائيليّة تحاول أن تدير التّوحّش بدلًا من منعه والذهاب إلى حلّ القضيّة بمشروع سلام واضح ونهائيّ، إلّا أنّها أيضًا استجابة لضرورة وطنيَّة ملحّة من شأنها أن تستدعي المسألة الفلسطينيّة من هامش الأجندة الدوليّة إلى متنها وفق البعدين الفلسطينيّين السياسيّ والمقاوم.