Print
مليحة مسلماني

المقاطعة: بين الوعي والممارسة والتأثير

11 يوليه 2024
آراء
منذ بدء العدوان على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، اتخذت المقاطعة، باعتبارها شكلًا رئيسًا من أشكال مقاومة الاستعمار تاريخيًا، حضورًا بارزًا في الوعي الجمعي، وذلك على المستوى الجماهيري العربي والدولي. وتم تفعيل هذا السلاح على نطاق واسع لم يُشهد له مثيل في تاريخ القضية الفلسطينية، فانطلقت حملات واسعة تدعو إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية والشركات الداعمة للاحتلال، والعودة إلى المنتجات المحلية، ذلك أن المقاطعة تساهم، جنبًا إلى جنب مع أشكال النضال الأخرى، في ممارسة ضغط سياسي واقتصادي على الكيان الصهيوني والدول الداعمة له، والدفع باتجاه تحقيق حلّ عادل للقضية الفلسطينية.

ولا تقتصر المقاطعة على المنتجات الاستهلاكية والجانب الاقتصادي فحسب، بل تتسع لتضمّ مختلف المجالات، السياسية والثقافية والفنية والعلمية والأكاديمية والرياضية وغيرها. لكن يبقى من الواضح أن المقاطعة الاقتصادية مثّلت، ومنذ بدء العدوان على غزة، الجانب الأكثر فعالية وانتشارًا من بين أشكال المقاطعة الأخرى، وذلك لتداخل هذا الجانب، أي المنتجات الاقتصادية، مع الحياة اليومية؛ فهي جزء من ثقافة الاستهلاك اليومي لدى المجتمعات المختلفة. وفي حين تقتصر المجالات الأخرى على فئات محددة من الناس- كالمقاطعة الثقافية التي تقتصر على المثقفين والمبدعين والمقاطعة الرياضية التي تقتصر على الرياضيين- فإن المجال الاقتصادي يتسع ليشمل كافة فئات المجتمع.

حربٌ اقتصادية

تاريخيًا، وعلى المستوى الفلسطيني، يمكن القول إن نشوء ثقافة المقاطعة بدأ بالموازاة مع انطلاق حركات التحرر الفلسطيني ضد الاحتلال، وتبلورت بشكل أكبر خلال الانتفاضة الأولى (نهاية عام 1987) التي رفعتْ شعارَ الحرب الاقتصاديّة، عبر مقاطعة البضائع الإسرائيليّة، كحربٍ مكمِّلةٍ للحرب الشعبيّة، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتيّ، ما شكّل أحدَ أهمّ عوامل استمرار الانتفاضة. 

في مرحلة ما بعد أوسلو (1993)، انتشرت مظاهر تطبيعية في مجالات عدة، وتصدى الشعب الفلسطيني لهذه المظاهر عبر بعض أحزابه ومثقّفيه، والنقابات والحركات الطلابية والشبابية. وفي 9 تموز/ يوليو عام 2005 صدر النداءُ الفلسطينيُّ التاريخيّ "لمقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارت منها وفرضِ العقوبات عليها" (BDS)، وشارك في إطلاقه أكثرُ من 170 جسمًا من اتّحادات ولجان شعبيّة ونقابات وأحزاب ومؤسّسات أهليّة فلسطينيّة. انعقد المؤتمرُ الوطنيّ الأوّل لحركة المقاطعة عام 2007، وشارك فيه ممثّلو جميع القوى السياسيّة والأطر النقابيّة والاتحادات الشعبيّة، وممثّلو شبكات المنظّمات الأهليّة، وغيرهم.

والمقاطعة تاريخيًا هي شكل من أشكال مقاومة الاستعمار، وليست خاصة بالتجربة الفلسطينية فقط، ففي التجربة الجنوب أفريقية، لعب سلاح المقاطعة دورًا رياديًا مؤثرًا جنبًا إلى جنب مع الكفاح المسلّح والمقاومة الشعبية. ولعل التوجه الشعبي العربي والعالمي إلى تفعيل هذا السلاح خلال الأشهر الماضية ناتج عن عوامل عدة، منها ما يتعلق بطبيعة هذا الشكل من أشكال المقاومة، إضافة إلى عوامل أخرى خاصة بالظروف السياسية والأمنية والاقتصادية التي تشهدها الدول العربية.

مقاومة لاعُنفية

من ناحية، تعتبر المقاطعة شكلًا من أشكال المقاومة الناعمة، أو اللاعنفية، وهي سلاح متاح لكافة الجماهير لاستخدامه، ولا تتطلب تقديم تضحيات كبيرة، كالسجن أو الموت، كما هي الحال في المقاومة الشعبية أو المسلحة، وهي تقتصر على الامتناع عن شراء بضائع معينة، واستبدالها ببضائع محلية أخرى. كما أنها، أي المقاطعة، تحقق لدى الفرد شعور المشاركة والتأثير في الأحداث، وأنه جزء من مسيرة مقاومة الاحتلال عبر الامتناع، أو الاستغناء، والأخيرة كلمة يفضّلها كثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يتداولون مقولات مثل "أنا مش مقاطع... أنا مستغني"، في إشارة إلى تعزيز سلوك المقاطعة عبر الاستغناء التام والدائم - أي غير المؤقت أو المرحلي- عن المنتجات المطلوب مقاطعتها.

من جهة أخرى، ساهمت الظروف الأمنية والسياسية التي تمر بها الشعوب العربية، في مرحلة ما بعد الربيع العربي، في توجه الجماهير وبشكل قوي إلى سلاح المقاطعة، وذلك في ظل منع التظاهر وقمع أشكال الاحتجاج والتضامن في العديد من الدول العربية، والتي وصلت حدّ اعتقال مشاركين في مظاهرات تضامنية مع غزة، كما هي الحال في مصر. وبذلك، وخلال الحرب على غزة، نشطت الجماهير العربية وبشكل رئيسي في مجالين، هما: المقاطعة، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي يتم عبرها نشر المحتوى التضامني، وتناقل أخبار الأحداث في فلسطين، والتوعية بالقضية الفلسطينية، والتحريض ضد الاحتلال.

الحراك الجماهيري للمقاطعة

استخدم المواطنون في دول عربية وأجنبية كثيرة عدة طرق وأدوات لنشر ورفع مستوى الوعي بأهمية سلاح المقاطعة ضد الكيان الصهيوني والمؤسسات والشركات الداعمة له. ولعل وسائل التواصل الاجتماعي تعتبر من أبرز هذه الأدوات، إذ تُنشر عليها وبشكل يومي، منذ بدء العدوان على غزة، مواد بصرية كثيرة، تشمل الفيديو والملصقات والرسومات والكاريكاتيرات، التي تدعو إلى المشاركة في المقاطعة، وتحثّ باستمرار عليها، وتقدم معلومات حول الشركات الداعمة للاحتلال والمنتجات التي يجب مقاطعتها، وتناقش أهمية المقاطعة وأهدافها وآثارها، وتدافع عن جدوى هذا السلاح في مقاومة الاحتلال، وتردّ على الانتقادات التي يتعرض لها هذا الشكل من أشكال المقاومة.  

تُنظَّم كذلك حملات توعوية في الشوارع والميادين وداخل الأسواق والمحال التجارية، تهدف إلى التوعية بضرورة المقاطعة بخاصة، والحديث عن الأوضاع في غزة وفلسطين بعامة. كما شملت هذه الحملات تواجد جماهير في محيط مقاهي ومطاعم موجودة على قائمة المقاطعة، مثل "ستاربكس" وغيره، للاحتجاج على وجود زبائن فيها ودعوتهم إلى مقاطعة هذه الأماكن. وقد تطورت هذه الاحتجاجات إلى أحداث عنف في العديد من البلدان.

أُنشئت كذلك صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، ومدونات توعوية، ومواقع إلكترونية، تقدم المعلومات حول المقاطعة وأهمية تفعيلها لا باعتبارها شكلًا من أشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني فحسب، بل باعتبارها أيضًا سلاح مقاومة ضروري وفعّال. كما انتشرت تطبيقات للهاتف المحمول تسهّل على المستخدمين عملية التعرف على المنتجات الموجودة على قائمة المقاطعة.

يتمثل التأثير المباشر لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية والشركات الداعمة للاحتلال في إلحاق خسائر مادية مباشرة بالكيان الصهيوني وبالشركات الداعمة له


تأثيرات المقاطعة

لا شك في أن المقاطعة تبقى سلاحًا فعالًا، بل ضروريًا لدعم القضية الفلسطينية ومحاربة الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني؛ فهي تساهم في زيادة الوعي العالمي بحقوق الشعب الفلسطيني في التحرر من الاحتلال وتقرير المصير، وهي، جنبًا إلى جنب مع أشكال النضال الأخرى، تدفع المجتمع الدولي في اتجاه اتخاذ إجراءات جدّية لإنهاء عقود من الاحتلال.

يتمثل التأثير المباشر لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية والشركات الداعمة للاحتلال في إلحاق خسائر مادية مباشرة بالكيان الصهيوني وبالشركات الداعمة له؛ وعدد هذه الشركات كبير نسبيًا، ويمتلك كثيرٌ منها فروعًا، يصل عددها إلى المئات، تنتشر في معظم أنحاء العالم، مثل شركات "كوكا كولا" و"ماكدونالدز" و"بيتزا هات" وغيرها. ويترتّب على تفعيل المقاطعة انخفاض حجم المبيعات، وبالتالي إلحاق خسائر حقيقية بالشركة، ما يشكل ضغطًا اقتصاديًا على الشركات والمؤسسات التي تدعم الكيان الصهيوني، ويجبرها على إعادة النظر في سياساتها وتقليص حجم دعمها للاحتلال. وبذلك يتم إعاقة هذه الشركات في عملية دعمها المالي، أو العينيّ، للكيان الصهيوني، وقد تضطر، وفي حال تم تفعيل مقاطعتها على نطاق واسع ومؤثر، إلى التوقف تمامًا عن دعمه. كما لا تؤدي المقاطعة إلى الانخفاض في حجم الأرباح فحسب، بل تنخفض أيضًا القيمة السوقية لأسهم هذه الشركات في البورصات العالمية.

يسهم سلاح المقاطعة أيضًا في زيادة الوعي بالقضية الفلسطينية، وبمأساة الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته، وحقه في مقاومة الاحتلال بهدف أن ينال حقوقه المشروعة؛ حيث تعمل حملات المقاطعة على جذب انتباه الجماهير والمؤسسات وتحفيزها على دعم الشعب الفلسطيني، وبذلك يعزز سلاح المقاطعة من التضامن الجماهيري والدولي مع القضية الفلسطينية.

تترتب على النتائج الاقتصادية والثقافية للمقاطعة تأثيرات سياسية، وذلك على المدى البعيد على الأقل؛ حيث يمكن أن يلعب سلاح المقاطعة دورًا في تحقيق تأثير سياسي، ما يدفع الحكومات والمؤسسات والشركات إلى إعادة النظر في سياساتها تجاه القضية الفلسطينية، أي أنه يساهم في تحقيق تغييرات إيجابية في السياسات العالمية تجاه فلسطين.

كما لا شك في أن للمقاطعة تأثيرًا إيجابيًا على الحقوق الإنسانية والعدالة بعامّة؛ فعبر تعزيزها في التجربة الفلسطينية، بإبراز المأساة الفلسطينية والدعوة لرفع الظلم وتحقيق الحرية والعدالة للشعب الفلسطيني، يصبح سلاح المقاطعة وسيلة لرفع مستوى الوعي بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية بعامة، ويصبح أيضًا سلاحًا ممكن استخدامه وتفعيله لصالح الجماعات المضطهدة الأخرى في العالم.

المقاطعة والدعم العسكري

في ظل الحرب الإبادية على غزة، قد يحضر هنا السؤال التالي: "هل يمكن أن تؤثر المقاطعة على قرارات الدول الداعمة فتؤدي إلى وقف التسليح والدعم العسكري للكيان الصهيوني؟" إن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى عملية بحث معقدة ومتعددة التخصصات بين السياسي والاقتصادي، وذلك نتيجة تداخل عدة عوامل في هذا السياق. تاريخيًا، قد تكون الحملات الدولية لمقاطعة الكيان الصهيوني قد أدت في بعض الأحيان إلى زيادة الضغط على الدول والشركات التي تدعم هذا الكيان اقتصاديًا أو عسكريًا.

ومن الممكن أن يكون لسلاح المقاطعة تأثير بعيد المدى على قرارات الدعم العسكري للكيان الصهيوني، ولكن ذلك يتطلب أن يبقى هذا السلاح فعالًا ونشطًا وليس مرهونًا بالحروب على غزة أو بأحداث ساخنة تجري في فلسطين. وبمعنى آخر، ومن أجل أن تكون المقاطعة قادرة على التأثير على المدى البعيد، يجب أن ترسخ في الوعي باعتبارهًا رفضًا لمبدأ الاحتلال ككل وليس مجرد شكل احتجاجي ضد ممارساته وجرائمه.

ومع ذلك، يجب أن تؤخذ في عين الاعتبار العوامل الأخرى التي تؤثر على قرارات الدعم العسكري للكيان الصهيوني، مثل العلاقات السياسية الدولية والاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف. بالإضافة إلى ذلك، قد تكون هناك مصالح استراتيجية وأمنية تدفع دولًا معينة للحفاظ على الدعم العسكري للكيان الصهيوني بغض النظر عن الضغوط الدولية. لذا، ومن أجل أن تحقق المقاطعة أهدافها في التحرر من الاحتلال، يجب أن تكون بدورها جزءًا من استراتيجية شاملة لدعم القضية الفلسطينية، حيث لا يمكن أن تكون المقاطعة هي المسار الوحيد في مسيرة التحرر من أجل إحداث تغيير حقيقي وجذري في السياسات الدولية تجاه القضية الفلسطينية.

"خلّيك خسران"

"خليك عطشان" هي جملة انتهى بها الإعلان الأخير لشركة "بيبسي"، والذي شارك فيه نجوم منهم عمرو دياب وأحمد السقا ومحمد صلاح ونوال الزغبي، ما أثار انتقادات واسعة ولاذعة ضدهم على مواقع التواصل الاجتماعي، كما اعتبر رواد هذه المواقع الجملة "خلّيك عطشان" استفزازية وأنها تستهدف حملات المقاطعة، فجابهوها بِحَملة "خلّيك خسران... أنا مش عطشان" التي رافقتها رسوم كثيرة تؤكد على مقاطعة مشروب "بيبسي" وعلى ثقافة المقاطعة بعامة، إضافة إلى حَملة "خلّيها تصدّي" التي رافقتها أيضًا رسومات. هذه السلسلة من الأفعال وردود الأفعال، بين فعل المقاطعة ومن ثم إعلان يستهدف المقاطعة ثم ردّ الفعل الجماهيري على الإعلان، هي مؤشر واضح على أن المقاطعة اتخذت منذ "طوفان الأقصى" مسارًا تاريخيًا جديدًا حاضرًا ومؤثرًا بقوة، وأنها تحقق تأثيرات اقتصادية وسياسية وثقافية تدعم وبشكل حقيقي مسيرة التحرر الفلسطيني من الاحتلال.

لا شك في أن المقاطعة بمختلف أشكالها ومجالاتها، بما فيها الاقتصادية، تبقى مسارًا ضروريًا في مسيرة التحرر من الاستعمار، وهي تلعب في التجربة الفلسطينية، وفي تجارب شعوب أخرى، دورًا رياديًا رئيسًا لا ثانويًا في عملية التحرر تلك، وتأتي مكمّلة لأشكال النضال الأخرى، التي لا شك في أنها تحدث في مجموعها، إضافة إلى الضغوط الدولية والدبلوماسية، تغييرًا جذريًا من شأنه أن يؤدي إلى حلّ عادل للقضية الفلسطينية.