Print
أحمد الجندي

عن طوفان الأقصى ودور الأدب

22 يوليه 2024
آراء



يمتلك الأدباء سلاحًا لا يقل أهمية عن سلاح المقاتل، فمن البيان ما يسحر كما يقال، وللكلمة قوة تأثير لا تنكر. فما كانت رواية المحرقة النازية الصهيونية بمبالغاتها لتصبح حقيقة لا يمكن مناقشتها، ويعاقب منكرها، لولا أعمال روائية وقصص وأشعار ومسرحيات أسهمت في ترسيخ جرائم النازية في الذاكرة الإنسانية، والأمثلة على ذلك أكثر مما تحصى؛ خذ مثلًا: رواية "فُلك شندلر" للروائي الأسترالي توماس كينيلي، التي نشرت في الولايات المتحدة باسم قائمة شندلر، ثم تحولت في ما بعد إلى فيلم أخرجه ستيفين سبيلبيرغ بالعنوان نفسه، وحاز عددًا من جوائز الأوسكار، أو رواية "سارقة الكتب" للكاتب الأسترالي ماركوس زوساك، والتي تحولت كذلك إلى فيلم بالعنوان نفسه، أو رواية "عازف البيانو"، التي ألفها الكاتب البولندي اليهودي فلاديسلاف شبيلمان في عام 1946، وتحولت هي الأخرى إلى فيلم سينمائي نال عددًا من جوائز الأوسكار.

من فيلم "عازف البيانو"  


هذه الأمثلة، وغيرها، تطرح سؤالًا مهمًا عن إمكانية أن يبقى الأديب بعيدًا عن ساحة المعركة؟! وهو سؤال تبدو الإجابة عنه سهلة ومباشرة عن دور الكلمة وما تملكه من قوة تجعلها سلاحًا ماضيًا، لا يقل عن البندقية في الميدان، وقد قال غسان كنفاني يومًا ما إن "الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبدًا أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها"، تلك العبارة التي رددتها من بعده الباحثة الأميركية باربرا هارلو، التي ترجمت إلى الإنكليزية مجموعة من قصص كنفاني القصيرة تحت عنوان "أطفال فلسطين". غير أننا حين نتأمل ماضي أدب المقاومة وحاضره يتبين لنا أن الإجابة عن السؤال أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير.
يرصد مؤرخو أدب المقاومة نشاطًا واضحًا وإنتاجًا عربيًا متميزًا في كمه ونوعه خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، غير أن اتفاقيات السلام التي عقدها العرب مع إسرائيل في كامب ديفيد ووادي عربة، وأوسلو، واتفاقيات أبراهام، علاوة على حالة التجريف الثقافي والفكري في العالم العربي، والأزمات التي مرت بحواضره الكبرى، كل ذلك أدى إلى تراجع هذا النوع من الأدب، حتى وصلنا، مع بدء الألفية الحالية، إلى حالة أقرب للجمود، أو عدم القدرة على الإبداع، كما يقول بعض النقاد.





لست في معرض الوقوف عند الماضي، ولا يمكن نسيان دور شعراء وروائيين وقصاصين كبار في التأسيس لهذا الأدب، أو المساهمة فيه، كالأخوين إبراهيم وفدوى طوقان، ومحمود درويش، وغسان كنفاني، ومريد البرغوثي، ووليد سيف... فهؤلاء، وكثيرون غيرهم، أسهموا إسهامات بارزة في أدب المقاومة عبر مئات الروايات والقصص والقصائد التي جعلت أصحابها مشاركين في المعركة، وألبسوا الكلمة الزي العسكري. لكننا حين نراجع إسهامات الأدباء بعد ثمانية أشهر من ملحمة طوفان الأقصى التي تأتي في مقدمة الأحداث الكبرى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي نجد حالة واضحة من النضوب. صحيح أن الأدباء يحتاجون وقتًا لإنضاج تجاربهم الأدبية، لكن من المنطقي أيضًا أن تفجر مثل هذه الأحداث الطاقات الكامنة، والأحاسيس لدى الأدباء لمواكبة سخونة ما يجري على الأرض، بل ومن الغريب أن يتأخر إبداع الأدباء العرب عن المشاركة في حدث كان له فضل توحيد الجماهير العربية على هذا النحو غير المسبوق؛ وفي مقدمتهم كتاب الأعمال النثرية بما تمتلكه هذا الأعمال من قدرة على أن تتحول إلى إنتاج سينمائي، أو تلفزيوني، يؤثر في قطاعات أوسع.

إبراهيم وفدوى طوقان علمان من مثقفي فلسطين والعرب الذين دافعوا عن القضية الفلسطينية


نتأكد مما سبق أكثر لو عقدنا مقارنة مع تفاعل الأدباء الإسرائيليين مع الحدث نفسه؛ فخلال الأشهر الماضية صدرت في دولة الاحتلال أعمال أدبية كثيرة، روايات وقصص وقصائد، كتبت بالعبرية لتحكي عن المعركة، أو كارثة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، التي لم يسبق أن مرت دولة الاحتلال بمثلها من قبل. خذ مثلًا تلك المجموعة القصصية "يوم واحد في أكتوبر" للأديب الإسرائيلي يائير أجمون، ومشاركة الكاهنة أوريا مفوراخ. يحكي الكتاب 40 قصة عن أربعين "بطلًا" إسرائيليًا في يوم السابع من أكتوبر باستخدام أسلوب المونولوج الأدبي، وتوظيف شهادات عشرات الأشخاص الذين جسدهم الكتاب، مع عناية كبيرة بإبراز المشاعر والأحاسيس. ثمة عمل آخر كتبه الضابط الإسرائيلي إلكانا كوهين بعنوان "الرقم الشخصي 7.10.23"، يحكي من خلاله سيرته الذاتية وذكرياته في حرب غزة، وبطولاته، وعلاقته برفاق السلاح، مع مزج بين مشاعر الأمل واليأس، أو ما يمكن أن يختصر إلى روتين الحرب، مع اهتمام زائد بتأثيرات ذلك اليوم الذي لن يمحى من الذاكرة الإسرائيلية. عمل آخر ألفه كاتب إسرائيلي شاب يدعى طال شايكا، وهو عبارة عن سرد ذاتي للأحداث، وحكي لذكريات من واقع ما حصل.
ما يلفت النظر هنا أن الأطفال كانوا على سلم أولويات بعض الأدباء، فكتبوا أعمالهم بأسلوب يتناسب مع تلك المراحل العمرية الصغيرة، مع تنبيه بأن تقرأ القصص بإرشاد عائلي وتوضيحات من الكبار إذا تطلب الأمر؛ مثل المجموعة القصصية "حرب الأبطال" لهداسا بن آري، وهي إحدى ناشطات حزب الصهيونية الدينية، وتحكي المجموعة قصص بطولة لرجال ونساء وفتيان وفتيات من رحم أحداث السابع من أكتوبر.
ويلاحظ في الأعمال السابقة أن كتابها جميعًا ينتمون إلى جيل الأدباء الشباب؛ ممن لا يتمتعون بسمعة أدبية كبيرة بعد، ولا حس أدبي مرهف، أو قدرة على الوصول إلى قلب القارئ وعقله، وهذا أثر في جودتها وتميزها. وعلى الرغم من وجود أعمال أخرى شارك فيها أدباء إسرائيليون كبار، فإن ذلك لم يغير من هذه السمة السلبية كثيرًا؛ من ذلك المجموعة القصصية "ملجأ؛ ما بعد السابع من أكتوبر"، والتي شارك فيها عدد من الأدباء الإسرائيليين، مثل: درور مشعاني، والأديبة والشاعرة يعارا شحوري، والأديب آساف شور، والشاعر والقصاص عوديد كرملي. لكن على الرغم من ذلك فشلت هذه المجموعة القصصية في بلورة نص ذي جودة فنية عالية، كما يقول بعض النقاد الإسرائيليين، فلم يشعر قارئُها بالتجربة الخاصة التي زلزلت روح الكاتب لينتج لنا في النهاية نصًا هزيلًا.

الإسرائيلي يائير أجمون كتب مجموعة قصصية بعنوان "يوم واحد في أكتوبر" 


وقد ركز كثير من الكتاب الإسرائيليين على ما يمكن اعتباره توثيقًا لأحداث السابع من أكتوبر؛ وفي هذا السياق تعددت أعمال لها الطابع نفسه، مقابلة أشخاص قاموا، حسبما يقول كتاب هذه الأعمال، بأعمال بطولة عبر التصدي للمقاومين الذين اقتحموا حدود الأراضي المحتلة، من هذه الأعمال "السبت؛ السابع من أكتوبر" من تحرير الشاعر الإسرائيلي رون دهان، ومشاركة شعراء وقاصين آخرين، وهو عبارة عن تجميع لأكثر من خمسين شهادة من قلب ما حدث في اليوم الأول من طوفان الأقصى، وتحويلها إلى عمل أقرب إلى التوثيق منه إلى الأدب. ومنها أيضًا كتاب "أبطال لا يرتدون الزي العسكري" للكاتبين إميلي عمروسي، الصحافية، والمراسلة السابقة للقناة العاشرة الإسرائيلية، ودوف كلمانوفيتش، أحد أشهر مصابي الانتفاضة الأولى 1987، وهو عمل توثيقي يحكي قصص بعض الإسرائيليين من غير العسكريين في يوم 7 أكتوبر، وكيف قاموا، حسبما يقول المؤلفان، بمواجهة أبطال المقاومة الفلسطينية الذين اقتحموا الحدود إلى الداخل الفلسطيني المحتل. كذلك فعلت الكاتبة الإسرائيلية راحيلي لافي في كتابها "روح البطولة"، روت فيه عشرين قصة بطولة لجنود ورجال شرطة، ومستوطنين عاديين، وشباب صغير، وبالمثل ألف يوسي لوندين كتابه "أرض البطولة"، متتبعًا فيه قصص البطولة في مستوطنات النقب الغربي منذ نشأتها حتى يوم السابع من أكتوبر. ولم تتوقف كتابات التوثيق عند سرد قصص البطولة، فانتقلت لتنقل حكايات الطواقم الطبية، وجهود الإنقاذ التي قامت بها في ذلك اليوم؛ وعلى هذا الأساس ألفت الطبيبة الإسرائيلية ياعيل درزنيك كتابها "احترموا أبواب غزة". ومن المهم هنا أن نتفهم أن استخدامنا لكلمة توثيق هو على سبيل وصف طبيعة العمل، من دون أن تكون للكلمة أي دلالة تخص مصداقية أي من تفاصيلها، خاصة وقد أثبتت التقارير كذب كل الروايات الإسرائيلية حول قتل الأطفال، وقطع الرقاب، واغتصاب النساء. أما في ما يخص المستوى الفني؛ فإن هذه الأعمال أيضًا، والتي ألفها كتاب مغمورون، أو مبتدئون، كانت دون المستوى.




أما الشاعرة الإسرائيلية ميخال سنونيت، التي نالت عددًا من الجوائز الأدبية في مجال الشعر وأدب الأطفال، فكتبت ديوانًا شعريًا عن الأحداث بعنوان "قصيدة أكتوبر"، استهلته بمقدمة تقول فيها "أنا لم أكتب الأشعار، بل استمعت إليها، وهي التي أملت علي ما أرادت قوله". وهي عبارة تبدو وكأنها سرقت من قول الشاعر العراقي، أحمد مطر، "أنا لا أكتب الأشعار، فالأشعار تكتبني".
ثمة أكثر من ملاحظة جديرة بالانتباه حول هذه الأعمال الأدبية الإسرائيلية التي خرجت من رحم أحداث طوفان الأقصى؛ أولاها أن كتابة أغلبها على أيدي مؤلفين شباب يرجح ألا يكتب لها الانتشار الجيد. والملاحظة الثانية هي أن جميع هذه التجارب الأدبية للأدباء، الكبار والشبان على السواء، لم تصل إلى ما يمكن أن يعد إبداعًا حقيقيًا رغم كثرتها مقارنة بالفترة التي انقضت منذ بدأت الحرب؛ فهي تجارب لم تبلغ مستوى النضج الأدبي المطلوب، وكان كتابها أقرب للمستمع الذي ينقل حكايات غيره، ففقدوا بذلك حس التجربة ومعايشتها، وهو ما انعكس في النهاية على القيمة الفنية والأدبية. أما الملاحظة الأخيرة، وهي الأهم، فهي أن الأدباء حرصوا على المسارعة في تسجيل التجربة قبل نسيانها، وقناعتهم بقدرة كتاباتهم على الترويج للبروباغندا الصهيونية، ونشر "مظلومية الشعب اليهودي"، وأن يكونوا هم أصحاب الرواية الأولى في ما جرى، فتحقق كلمتهم الهيمنة، وتصبح الرواية الحصرية والوحيدة لما يحدث. كل ذلك يجعل لهذه المحاولات الأدبية قيمة تتخطى القيمة الأدبية الحقيقية لهذه الكتابات المتعجلة، كما يدفعنا للسؤال المهم الذي يخص الأديب العربي: هل يمكن أن يبقى الأديب العربي بعيدًا، منزويًا في صومعته بمنأى عن المشاركة في قضاياه العادلة؟ ولماذا يتأخر الأدباء العرب عن وضع بصمتهم، فيتركون المجال تمامًا للكتاب الإسرائيليين للترويج لحكاياتهم الكاذبة؟