Print
علي العائد

حصاد الألعاب الأولمبية... ثقافيًا واقتصاديًا

14 أغسطس 2024
آراء
من المبكر الحديث عما كسبته، أو خسرته، فرنسا اقتصاديًا من خلال تنظيم أولمبياد باريس 2024، هي التي أنفقت حوالى 11 مليار دولار على هذا التنظيم، فالأمر يحتاج إلى أشهر لمعرفة الأرقام الحقيقية لعائدات تذاكر حضور المسابقات، وما يتبعها من مداخيل سياحية مرتبطة مباشرة بحضور المنافسات الرياضية، مع حساب تراجع عوائد السياحة نتيجة تراجع عدد زوار فرنسا من الأجانب في شهر الأولمبياد.

رياضيًا، العوائد تحتسب في نطاق التراث الثقافي غير المادي، فالأرقام القياسية نوع من تحدي الجاذبية، ونوع من الإعجاز الذي تمثّله إرادة الرياضي، الذي قد يتدرّب لعشر سنوات ليجري مسافة 100 متر في نطاق زمني ما بين 9.5 ثانية و10 ثواني، أو يقفز في رياضة الغطس لمدة ثانيتين بعد تدريب سنوات.

وفي الرياضة، أيضًا، لكن اقتصاديًا، دائمًا ما كانت الدول المتقدّمة هي التي تحصد الميداليات، مع طفرات لا تكاد تُذكر لرياضيين خارقين من دول فقيرة، يحقّقون الإنجاز لمرة واحدة فقط، بينما تستمرّ القاعدة "من يملك المال يملك الإنجاز"، فالمال ينفق، ويخطّط، ويحصد الذهب والفضة والنحاس.

الولايات المتحدة جاءت أولًا، كالعادة، مع منافسة شرسة، حقًا، مع الصين، إذ تساوتا في حصد الذهب، مع 40 ميدالية من المعدن النفيس لكل منهما، بينما تفوقت أميركا على الصين بـ 35 ميدالية من الفضة والبرونز. أما البلد المنظم، فرنسا، فجاءت خامسة، في أفضل ترتيب لها في تاريخ مشاركاتها الأولمبية، كونها صاحبة أكبر وفد رياضي مشارك.

الثقل السكاني ليس محدّدًا في الرياضة، عمومًا، كون الهند التي يوازي عدد سكانها عدد سكان الصين، وربما يزيد، لم تحقّق أي ميدالية ذهبية في باريس 2024 (فضية واحدة وخمس برونزيات)، بينما أتت هولندا (أقل من 18 مليون نسمة) في المركز السادس (15 ذهبية ــ 7 فضية ــ 12 برونزية) بعد البلد المضيف مباشرة.

افتقدت ألعاب باريس 2024 إلى عنصر الفرجة والتشويق، في عموم الألعاب، للمتفرّج المحايد. كرة القدم للرجال وللنساء جاءت مبارياتها باهتة، بسبب غياب المحترفين الكبار عن فرقهم، وغياب فريق البرازيل عن التنافس. وفي الأصل، رياضة كرة القدم ليست أولمبية، على رأي ميشيل بلاتيني، والأمر أن منظمي الألعاب طوال تاريخها رغبوا في الاستفادة من شعبية كرة القدم لجذب الجماهير. وعلى كل حال، هنالك رياضات غريبة عجيبة أصبحت أولمبية، مثل كرة الطائرة الشاطئية، وكرة السلة المؤلفة من 3 لاعبين لكل فريق وعلى سلة واحدة ونصف ملعب، وألواح التزحلق على عجلات بتأدية حركات بهلوانية، والتسلق بما يشبه التسلق على الجبال، وغيرها. هنا، من الجيد أن الألعاب الأولمبية تستبعد المنافسات التي لا تعتمد على الحركة، فالشطرنج ليس رياضة أولمبية، وكذلك النوم!

في حفل ختام الألعاب، تجنّب المنظّمون الإثارة التي مثّلها حفل الافتتاح، فالمشاركون كانوا أشباحًا هذه المرة، لا وجوه لهم ولا ملامح، لا أعلام ملونة، ولا ألبسة غريبة، ولا تعريض بالفن، أو الدين، أو المجتمعات المختلفة، فقط كانت هنالك قفزة سحيقة إلى الماضي الأولمبي (2800 قبل الميلاد)، ووثبة صغيرة في الحاضر والمستقبل القريب، وبلاغة تفتقر إلى البلاغة في شرح معنى الحلقات الأولمبية الخمس.

الجزائر حصدت ربما أكبر تريند في الأولمبياد، من خلال الجدل الذي أثير حول الملاكمة إيمان خليف التي تُوّجت في النهاية بالميدالية الذهبية للوزن المتوسط (Getty)


مرّت الألعاب من دون حوادث أمنية كبيرة، فلا شيء يذكر مع تقطيع الأمن الفرنسي أوصال باريس، وتعقيد حركة المواصلات، لتكون حركة تنقل الأشخاص تحت نظر الشرطة، ليكتفي معظم الباريسيين بمتابعة الألعاب على التلفزيون مثلهم مثل من يتابعها من الهند، أو من تشيلي.

في التنافس على المركز الأول في حصد الميداليات الذهبية، دخلت الصين إلى المركز الأول منذ اليوم الثالث للأولمبياد، وفي اليوم الثامن بدأت الولايات المتحدة في المنافسة من المركز الثاني، لتتبادل الدولتان المركزين الأول والثاني حتى آخر ساعة من الألعاب. في اليوم الرابع عشر (السبت)، بدا أن الصين ستختتم الألعاب فائزة، رياضيًا، وسياسيًا، ولكن فوز الولايات المتحدة في مسابقة كرة السلة النسائية على فرنسا في اليوم الأخير (الأحد) بفارق نقطة واحدة منحها ميداليتها الذهبية الأربعين بالتساوي مع الصين، ليرجح معدن عصب الصناعة المستقبلية، الفضة، كفة أميركا، وكفة رهان إيلون ماسك على مستقبل مناجم الفضة، في ظلّ قرب نضوب مكامن ومناجم الذهب، حتى قبل نضوب النفط نفسه.

أما عن المشاركة العربية، فلا جديد فيها غير المشاركة كغاية، على الرغم من أن الحصيلة هي الأفضل في تاريخ المشاركات العربية في الأولمبياد، إذ أتت البحرين أولى بينها، عن طريق رياضيين مجنّسين، وهذه النتائج ليست سلبية في حدّ ذاتها، ولكن أن تكون كل الميداليات لرياضيين مجنّسين فتلك مشكلة. الجزائر حصدت ربما أكبر تريند في الأولمبياد، من خلال الجدل الذي أثير حول الملاكمة إيمان خليف التي تُوّجت في النهاية بالميدالية الذهبية للوزن المتوسط. بينما تراجع حصاد ألعاب القوى المغربية، ليتقلّص إلى ميدالية ذهبية واحدة.

مصر ذات الثقل السكاني الكبير، والأسبق عربيًا في المشاركة بالأولمبيادات، اكتفت بثلاث ميداليات متنوّعة بالتساوي، بينما تراجع حصاد قطر إلى برونزية وحيدة لمعتز برشم، حامل ذهبية طوكيو في القفز العالي.

ونذكر هنا أن استعراض الوفود الرياضية المشاركة في حفل الافتتاح أظهر بعض وفود الدول في سفينة كبيرة تكاد في حجمها أن تكون باخرة، أو يختًا ضخمًا، بينما حمل قارب صيد صغير وفد دولة أخرى تشارك بعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ومنهم مدرّب وإداري. تفسير ظاهرة الوفد الصغير أن هذه الدولة جاءت لتثبت حضورها فقط، أو أنها تشارك برياضات تتخصّص فيها ويضمن رياضيّوها الحصول على ميداليات فيها بنسبة كبيرة. على عكس الدول التي تشارك في الرياضات الجماعية، ومنها كرة القدم، فعدد أعضاء الفريق وحده هنا يصل إلى 25 رياضيًا.

أوزبكستان أفضل مثال على الوفد المقتصد العدد والفعّال، فالدولة الآسيوية المسلمة حصدت 8 ميداليات ذهبية، وفضيتين، و3 برونزيات (ترتيبها 13 من بين 206 مشارك، بمن فيهم فريق اللاجئين)، من خلال تركيزها على ألعاب القوة (الملاكمة والمصارعة والتايكواندو ورفع الأثقال والجودو)، وهذا ما مثّلته جامايكا في دورات أولمبية سابقة، حين كانت تحتل مركزًا متقدمًا في الترتيب بتركيزها على سباقات العدو المتنوعة، لكن الدولة الكاريبية فشلت هذه المرة بعد اعتزال جيلها الذهبي من العدائين والعداءات.

مرت الألعاب بالنسبة إلى الدول العربية، والإسلامية، وعلى الأغلب ستكون حصيلتنا في أولمبياد لوس أنجلوس 2028 مشابهة لهذا الأولمبياد، ولن نقرأ عبرًا أو دروسًا، ولن نخطّط، أو نبحث، أو ننفق، بينما ستعمل دول أخرى على ذلك، ونقصد صاحبة الثقل الاقتصادي التي ترى في الرياضة ثقافة مجتمعية تفرز المواهب، وتعمل الحكومات على تشجيع ذلك، بينما تنفق البنوك والشركات الأموال لرعاية المواهب وصناعة الأبطال، كجزء من عملية إعلانية لمنتجاتها وكاستثمار له عوائد مادية ومعنوية مباشرة وغير مباشرة.