Print
إدريس الخضراوي

نادر كاظم ناقدًا: في تجديد النقد العربيّ

20 أغسطس 2024
آراء

 

تعريف: صدر عن دار سؤال كتاب "نادر كاظم: التلقي، وتمثيلات الآخر، والنقد الثقافي" (2024)، والكتاب بتحرير إدريس الخضراوي، وهو يضم عشر دراسات قيمة حول إسهام نادر كاظم في النقد، والنقد الثقافي على وجه الخصوص.
فيما يلي نص المقدّمة التي كتبها المحرّر:

أين تقع إسهامات نادر كاظم في سياق النقد العربي الحديث؟ أبادر إلى القول بأنها تقع في صلب الجُهودِ المبذولة من أجل تجديد النقد العربي، وفتحه على التطوّرات التي ما فتئت تَتحققُ في حقل النظرية الأدبية والنقد منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي حينما شرع المُهتمُون بالدراسات الأدبية في فكّ الارتباط مع الشكلانية الروسية، ومعَ البنيوية والتيارات التي تفرّعت عنها فيما بعد، في مسعى لإبداء مزيدٍ من الاهتمامِ بأبعاد الأدب الثقافية وسياقاتِ تحققه الاجتماعية والسياسية والتاريخية.

مُنذُ مطلع الألفية الثالثة اتجه نادر كاظم بجهوده الجدّية والمؤثرة والدينامية إلى الاغتراف من مَعينِ "الدراسات الثقافية"، ذلك المشروع البحثي متعدّد المرجعيات والتخصّصات الذي تشكّل في بريطانيا خلال الستينيات من القرن الماضي، وتَطورَ بشكل واسع في الولايات المتحدة الأميركية وأميركا الجنوبية وآسيا، اعتمادًا على قراءات جديدة ومبتكرة لفكرِ الاختلاف ما بعد البنيوي، مما أعطى للنظرية الفرنسية، وهي من أهم روافد هذا الفكر، أبعادًا جديدة في سياق ثقافي واجتماعي مُختلفٍ.

وعلى الرّغم من الهامشية التي ظلت تُحيطُ بالدراسات الثقافية ودراسات ما بعد الكولونيالية في العالم العربي لأسباب عديدة، بحيث لا يُشيرُ إليها إلى قلة قليلة من علماء الاجتماع والأنثربولوجيا والفلسفة والنقد الأدبي، فقد تنبّه نادر كاظم إلى قيمتها النظرية والنقدية مُنذُ كتابه الأول "المقامات والتلقي" (2003) الذي اهتم فيه بتفكيك الرؤية النقدية العربية لهذا الجنس الأدبي الذي ظلّ هامشيا في الثقافة العربية، ليتطور منظوره النقدي بشكل أوسع من خلال أبحاثه اللاحقة، مُنذُ "تمثيلات الآخر"(2004) وصولا إلى "تاريخ الأشياء" (2021)، مرورا بـ "الهوية والسرد"(2006)، "طبائع الاستملاك" (2007)، "استعمالات الذاكرة" (2008)، "خارج الجماعة" (2009)، "كراهيات منفلتة" (2010)، و"إنقاذ الأمل" (2013). لذلك ليس من المستغرب أن القضايا التي يهتمّ بها مؤلف "لا أحد ينام في المنامة" تتخطى إطاره الأصلي (النقد الأدبي)، ليستثمر العديد من مجالات المعرفة كالفلسفة والتاريخ والأنثروبولوجيا واللغة والعمران...

لا ينفتح وَعيُ نادر كاظم النقدي على إشكاليات جديدة مثل التمثيلات الثقافية والغرائبية التي تَنتجُ عنها وحسب، بل إنه يَكشفُ للقارئ إلى أيّ مدى يُعدّ التخييلُ والثقافةُ والتاريخُ والمجتمعُ موضوعات جديرة بالبحث في حدّ ذاتها. وعلى هذا فإنه بهذا الوعي النقدي يَفترعُ للنقد العربي منافذ إلى مسارات جديدة للقراءة والتأويل، بعد الانحسار الذي طَاولَ النظرية الأدبية، والجمود الذي أصاب النقد حيث بات يَتخبطُ في أزمة بنيوية أفقدته المكانة التي كان يَتمتعُ بها إلى حدود العقد الأخير من القرن الماضي. وليس غريبا أن التشخيص الذي أظهر هذه الأعراض أعدّه تزفيتان تودوروف، وهو ليس فقط من أبرزِ المُشاركين في المُغامرةِ النظرية خلال الفترة الممتدة بين الستينيات والثمانينيات، بل إليه يَعودُ فضل اتصال الفكر الفرنسي بِجهودِ الشكلانيين الروس، وظهور مجلة "الشعرية" التي كتب فيها أبرز أعلام النظرية الأدبية كـ تودوروف وبارت وجونيت وكريستيفا وكلود بريمون وغريماس...



إذًا، يكفي أن يَعودَ المرءُ إلى مجموعة واسعة من الأعمالِ عن النظرية الأدبية التي صدرت مع مطلع الألفية الثالثة كي يُقدّمَ أسبابا عديدة للانحدار الذي أصَابَ الأدب، وللتحولِ الذي شهده التفكير النظري منذ ثمانينيات القرن الماضي، حينما شرع في التخلي عن التصورات السابقة-مثل استقلالية النّص- التي كان من نتائجها أن نُظرَ إلى الأدب نظرة يطبعها الاختزالُ والاقتصارُ على المقومات الشكلية واللغوية، وتحويل بؤرة البحث، بدل ذلك، من النّص إلى التجربة الإنسانية في ارتباطها بالعالم. ومن المؤكد أن هذه الأسباب هي أوسع من أن يتمّ حصرها في ما هو أدبي بحت، بل تتّصلُ أشدّ ما يَكونُ الاتصال بما هو سياسي وثقافي كما ألمح إلى ذلك تيري إيغلتون. ومن المعروف أن أمواج هذه الأسئلة التي كانت تهبّ بقوة على الثقافة الغربية منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي، لم يكن النقد العربي المعاصر بمنجاة من آثارها القوية.

ولمّا كان مشروع نادر كاظم النقدي يَقومُ على استحداث هوية جديدة للنقد، ذلك أن المقصود بالنسبة إليه هو القطعُ مع التصورات الشكلانية المعنية بالكشف عن الأنظمة والقواعد التي تفسّر عددًا لانهائيًا من النصوص، والتركيز، في المقابل، على النّص الثقافي بَدلَ النّص الأدبي بالمعنى الجمالي الضيق، يمكن القول إن هذا المشروع يَقعُ في صميم الحقبة الجديدة التي يُدشنُها النقد الأدبي في ثقافات عديدة، بما في ذلك الثقافة العربية المعاصرة. وعلى هذا الأساس، يأتي هذا الكِتابُ للاقتراب من هذه التجربة النقدية المثيرة للاهتمام التي وضع أسُسَها نادر كاظم بمؤلفاته وأبحاثه القيّمة التي لفتت الأنظار إليه في وقت مبكّر، وبوأته موقعًا مهمًّا في المشهد الثقافي العربي بوصفه ناقدًا مجدّدًا ينطوي عمله على قوة نظرية لافتة تنزع السحر عن الأدب. ومن خلال مقاربات مختلفة تكرّست للإضاءة على أبحاثه ودراساته في الثقافة والسّرد والتمثيل الثقافي ودراسات الهوية والآخر، تُحاولُ مجموعة من الباحثين الذين يَجمعُهم الوعيُ العَميقُ بأهمية وقيمة فكر ونقد نادر كاظم، إبراز القوة النقدية والنظرية التي تميز اشتغالاته التي صارت تنفتح على الفكر بالمعنى الواسع والعميق. وستحاول هذه المقاربات أن تكشف عن المفاهيم وطرائق القراءة والتفكير التي ما فتئ هذا الناقد يوسّع بها أفق النقد في الثقافة العربية المعاصرة. ويَشهدُ تنوعُ التحليلات المقدمة هنا بوضوح على استحالة استنفاد معنى هذا المشروع أو الزعم بإمكانية استخدام ناجز ونهائي للمفاهيم التي يتأسّس عليها. بدلّا من ذلك، يشكّل ثراء المشروع مادة يُمكنُ من خلالها مواجهة الاختلافات في الممارسات والنوايا والمعرفة التي تولد وجهات نظر جديدة للتحليل.

يَتناولُ الكتاب إشكاليات أساسية اهتمّ بها نادر كاظم، ويَتوزعُ مَشهدُهُ على خمسة فصول. يَتعلقُ الأول بموضوع تلقي النصوص العربية الذي كرّس له نادر كاظم مؤلفه الأول "المقامات والتلقي" (2003)، وفي هذا الفصل يَجدُ القارئ بحثين مُهمّين لكلّ من راسم أحمد خولي: "المقامات والتلقّي: من تاريخ النصّ إلى تاريخ التّأويل"، وعز الدين معتصم: "استراتيجية القراءة وأنماط التلقي في مقامات بديع الزمان الهمذاني". ويَتناولُ الفصل الثاني نقد الأنساق الثقافية وهو مَوضوعُ مَحضَهُ نادر كاظم اهتمامًا خاصًا مُنذُ مؤلّفه "تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط" (2004). وفي هذا الموضوع كتب مجموعة من الباحثين مقالات تنطوي على آراء ومناقشات جديرة بالاهتمام؛ يحيى بن الوليد اهتمّ بـ: "فك الاستفراق: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط"، وتَناولَ طارق بوحالة: "النقد الثقافي وتمثيلات الغيّرية"، فيما اهتمّ إدريس الخضراوي: بـ"التمثيل الثقافي التخييلي والنسق". أما عامر أبو حارب فقد كتب عن: "السيرة الشعبية والقراءة عبر متوسّطات الدراسات ما بعد الكولونيالية"، ورشيد الخديري عن: "الآخر الأسود موضوعا للتمثيل والتمثيل المضاد"، واهتمّ عبد الرحمان نعسان بـ: "أنساق التخييل في خطاب النقد الثقافي". أما الفصل الثالث فموضوعه إشكالية الهوية والسّرد التي فكّر فيها نادر كاظم، وأفرد لها مؤلفه: "الهوية والسرد" (2006). وفي هذا الباب كتبت الباحثة المغربية الدكتورة عتيقة السعدي دراسة قيّمة بعنوان: "مفهوم الهوية السردية عند نادر كاظم". ويَتضمنُ الفصلُ الرابعُ مقاربة راهنة تتناول اشتغال نادر كاظم في السنوات الأخيرة وخاصة في كتابه "لا أحد ينام في المنامة" (2019)، حيث يقدّم أحمد رضي مقاربة للكتاب يرصد فيها انتقال اهتمامات نادر كاظم من نقد المعنى إلى نقد المبنى (المدن ومعمارها). أما الفصل الخامس فقد خصّص لحوار أجريناه مع نادر كاظم يبسط فيه منظوره للدراسات الثقافية وموضوعاتها، والقيمة النظرية والنقدية التي تنطوي عليها مجموعة من المقاربات المنضوية ضمن هذا المبحث.

من المؤكد أن عمل نادر كاظم هو من الغنى والتنوّع والتعدّد، بحيث لا يُمكنُ لهذه المساهمة الجماعية أن تُحيطَ بمختلف أسئلته أو بالقضايا التي يثيرها في أبعادها الاجتماعية والسياسية والأدبية والفنية، وهو ما يعني، كذلك، أن هذا الكتاب ليس سوى محاولة لتسليط الضوء على ذلك الجانب المهم من مشروع نقدي عربي جدير بالاشتباك معه قراءةً ونقدًا وتحليلًا واستثمارًا وتطويرًا.   

*ناقد من المغرب.