Print
فدوى العبود

في معاناة القبح وعلاقة الشكل الجسديّ بما نكتب

12 سبتمبر 2024
آراء
كتب بول فاليري مرةً "إنّ كل نظرية هي شذرة من سيرة ذاتيّة"، ما يعني أن قراءة الأدب تستدعي ليس الخبرة الحياتيّة للمؤلف، بل علاقته بجسده، وهذا الأخير هو منبع الشقاء والهناء (القبيح والجميل، الشرير والخيّر، اللذيذ والمؤلم، المتناسب والمختلّ).

إن السؤال عن علاقة الشكل الجسديّ بما نكتب يجد مشروعيّته في الواقع والفن؛ لذلك يضع ألبرتو مورافيا بطل روايته "أنا وهو" في مقارنة بين أعضائه الخاصّة باعتباره كاملًا مع جسد غريمه الناقص والقبيح والذي يعوّض عن قصوره وعجزه بدهائه وحنكته السياسيّة.

وإذا صحت الحكاية التي رويَت عن المعرّي القائل "هذا ما جناه عليّ أبي وما جنيت على أحد" من أنه جرّب العلاقة الجسدية مع امرأة لمرة واحدة، فطلب منها قبلة وأجابته "ليس بهذا الوجه"، فإننا سنكون أمام مجابهة مفتوحة مع رولان بارت صاحب "موت المؤلف".

قد تثير فلسفة سقراط باشتباكها مع حياته بعض الشكوك في هذا الخصوص... ثم ماذا عن سارتر؟ هل وجّه كيانه الجسدي نظريته في نهايةِ المطاف؟ وفيما لو كان سارتر وسيمًا فما مصير أعماله؟ (لا شك كنّا حُرمنا من الفلسفة الوجوديّة! وحظينا بآلان ديلون آخر في السينما الفرنسية!) على اعتبار أن الوسامة من عدمها تحدّد مصير المرء ومستقبله.

ولكن هل يختلف حضور القبيح في الواقع عنه في الفن؟ أو بالأصح كيف يتبدل موقفنا منه؟ إذ يثير مشرّد بملابس قذرة نفورَ أحدنا في الشارع، ويبعثُ فينا المتعة حين نراه متجسّدًا في لوحة معلّقة بأحدِ متاحفِ الفن.

ونحن نتّفقُ على أن الجمال الفائق يجذب النعم الفائقة من حظٍّ ومالٍ وبهجة، وبخلاف ذلك يجرُّ القبح على صاحبه نقماتٍ لا تُحصى! النفور، الغثيان، الرفض، السخرية.

وأحيانًا يوقظ القبح غرائز نائمة كالتنمّر والإساءة والرفض، ليقف الإنسان في النهاية - كفرخ البطِّ في قصّة أندرسن- متطلّعًا في البحيرة باحثًا عن سرّ نظرات الآخرين الرافضة.

في كل حال، فإن على المرء - مجنونًا أو فيلسوفًا- أن يبدي مقاومة من نوع ما، هروبًا أو عدوانيّة أو حتى فلسفة. ربما لذلك خصّص سارتر مجمل فلسفته وأعماله الأدبيّة لشرح التهديد الذي تحمله إلينا نظرة الآخر، والتي تحولني إلى موضوع وتحيلني إلى شيء، بل تردّني إلى جسدي في محدوديته، وكأنها تعرّيني وبدلًا من أن تُغنيني هذه النظرة فإنها تسلبني حرّيتي فتتحول العلاقة بيني وبينه إلى انتهاك.

إلى هنا يبدو سارتر هادئًا، ثم تتدهور الأمور حين يقدّم نصيحته للذات التي يجب عليها اتخاذ موقف. وهذا الموقف الذي يلح عليه في كل أعماله هو السطو على الآخر قبل أن يسطو هو علينا، "ولا يتم ذلك إلا بأن أسطو على مكانه- وأن أحيله إلى واقعيته بأن أعلو على علوُّه، أو قدرته على تجاوز علوّي الخاص أي (حريتي)، يجب أن أنتزع حريته ولا أستطيع ذلك إلا باسترداد الحرية والسيطرة عليها"!

بخلاف ذلك، فإن رومنطيقيّة هوغو في "أحدب نوتردام" تصوّر كوازيمودو صاحب أبشع تكشيرة جعلت المعلم كوباتول يصيح "يا إلهي، إنّك أروع قبحٍ رأيته في حياتي" بوصفه رجلًا شجاعًا يتمتع بمزايا الإيثار والتضحية وراء مظهره القبيح.

في تجربة رجاء عليش

لا يعود الأمر مجرّد صراع حريات، أو مسألة التعبير عن جمال داخلي في أعمال الروائي المصري رجاء عليش. بل يتحول من تلقّي العذاب إلى ردِّه مضاعفًا. ويتفاعل غضبه مع نقمته مع حنانه المفرط في عمليه اليتيمين "لا تولد قبيحًا" و"كلهم أعدائي"، والذي ينتهي لانتحاره في 1979.

وفي هذين العملين يشرّح عليش معاناته مع القبح، فالأخير مشكلة تختفي وراءها كل الإخفاقات، وهي في ذات الوقت كاشفٌ عن الأنانيّة والتوحّش والغباء لدى الناس، "المشكلة ليست في القبح. بل فيمن حوله"، بهذا يختصر رجاء عليش المسألة.

إنّ النقمة التي توجِّهها أعماله للمجتمع تتأتى من اعتقاده بمحدوديّة النظرة التي تختصر الجمال والقبح في المظهر الجسدي؛ متسائلًا عن الجمال الفارغ والضحل الذي لا يحمل تحته سوى الخواء! ويمتد هذا السخط إلى العلاقة بالإله...

فمأساته- التي تختبرها شخصياته- ماثلة في التناقض بين شكله وحقيقته، ورغم أنه دائم البحث عن مقبوليّته في عيون الآخرين؛ لكنه لا يجد فيها سوى عيون مستهزئة، فهم يستكثرون على العازف الشاب وقوعه في حب فتاة جميلة تغرم به لسماعها عزفه، ومع تفاقم شعوره أن الحب استحقاق لا يطاوله يصرخ في وجه حبيبته: "إنني لا أريدك، هل تفهمين، لا أحبك، لا أحبك".

وتعكس المجموعة بنصوصها المتنوعة (الانتقال، من يملك البيت، فتى المقارنة، علبة، الجوع، الأشياء الصغيرة، الانتحار وغيرها)، أشكال الانتهاك الذي يمارس على الجسد حيًّا عبر النظرة؛ وميتًا حيث هناك "لصوص أخطر من لصوص الأكفان ينتظرون داخل القبر ليبدأوا بعملية السطو على جثمان الميت".


تختار شخصيّاته التواري بشتّى الطرق، كأن يعتزل أحدهم مع حواء جديدة في جنّة لا يشاركه فيها أحد؛ لكن الأمان يتبدّد عقب اكتشافه وجود شركاء آخرين يصعب إبعادهم عن المكان (كالنمل والقطط والحشرات). ولاختياره طائر البوم دلالة تعكسها افتتاحية قصته: "في اللحظة التي رفع فيها بصره في حذر شديد ليلتقي بالعينين الغريبتين الشاخصتين إليه". وفي هذه القصص، يُسهب في وصف العيون الناظرة إليه بكونها تهين آدميّته، "العيون التي تمتلئ بذلك المزيج من الدهشة والازدراء... إنها تناصبه العداء بلا سبب مفهوم، تحاصره طوال الوقت كأنها تريد أن تلتهمه".

فالشخصيات في هذا العمل ليست سوى شخصية واحدة تعكس حياة الإنسان المختلف أو القبيح تحت أنظار الآخرين، والذي ينتهي لأن يعامل جسده كأنه غريب عنه؛ "كان يشعر أنه يصلح أن يكون موضوعًا للوحة سريالية لبيكاسو أو سلفادور دالي... العينان مكان الأذنين... الأنف مكان الفم الواسع جدًا. بلا رقبة تحمل رأسه الضخمة كأنها كرة منفوخة بالهواء".

إن السؤال الذي يُطرح هنا: هل يمكن لجدارتنا وصدقنا أن تغيّر نظرة الناس إلينا؟ يستعرض السارد بيتهوفن وكل من عانوا من إعاقة جسمانيّة عبر التاريخ... وفي حين اعتقد أستاذ الرسم أن نظرة الناس تتغيّر بمجرّد أن تثبت جدارتك يجيب القزم: "إن تصوّرهم له كإنسان مشوّه قبيح الخلقة، سيظل هو التصوّر الأعمق والمستتر خلف المظاهر السطحيّة لتكريمه".

وفي قصة "الكتكوت العاري" يجسّد عليش حالة كتكوت صغير لم ينبت ريشه ويسترسل في وصف عدوانيّة باقي الطيور تجاهه؛ كما يشعر السارد بالتوحد معه: "إن الصلة بينهما هي صلة الانتماء إلى عالم غريب واحد ومنبوذ من الآخرين". تتجسد خلاصته في نظر المؤلف "أنت كالآخرين... أنت مقبول بيننا... أنت مختلف... أنت ملعون ومكروه".

إن السؤال عن عدوانيّة المجتمع ينقلب إلى نقمة واضحة في "كلّهم أعدائي". وتذكرنا الرواية في مشهدها الافتتاحي بمسرحيّة "الأبواب المغلقة" لـ جان بول سارتر والتي قال فيها عبارته الأشهر "الآخرون هم الجحيم".

تأخذ الحوارات بين الشخصيات التي تتصارع في مكتب صغير طابعًا مسرحيًّا، إنه واحد ضد الكل (موظف نزيه وزملاؤه المتورطون في صفقات احتيال يطلبون منه الابتعاد عن طريقهم). وكل شخصية تدرك في داخلها أنها تعاني من عطبٍ ما، فالوسيم بدون رجولة والكريم والشهم يشكو من قباحته "أما أنا فانظر، إنني أخجل من مجرد السير في الطريق. أحاول أن أتجنب عيون الناس التي تبصقني كل دقيقة". وهي متطرّفة العواطف إذ تدخل في مجابهة علنيّة فتنقاد لمشاعرها العنيفة وتتحدّث عبر أجسادها وتهجم على بعضها أو تتواجه بقوة؛ لكن بمجرّد أن يكون أحدها بمفرده؛ يحدث هذا الحنان الغامض والتدفق الكبير لمشاعرها تجاه الآخرين، وفي أعماق كل منها نهمٌ عنيفٌ للحب والآخر. من هنا ينبت شرخ أعمق يصعب لأمُه.

وحين يحمل كرم، وهو شخص مشّوه، باقة ورد للمرأة التي أرسلت له يومًا هدية تطمئِّن بها على حاله، وبمجرد رؤيته تطلق صرخة فزع ولم تعرف من هو هذا المخلوق الرهيب، الذي راح يذكّرها بهديتها التي أُرسلت رفقة خادمتها. ويشرح لها رغبته بأن يكون إنسانًا لمرة واحدة، ويُظهر نفسه على حقيقتها، لكن شكله الجسدي جعله متهمًا في نظرها.

تمثل شخصّيات عليش التناقض الحادّ، بين الرغبة في التواصل والعجز عنه، بين حنانها النَهِم الذي يتبخّر سريعًا وبين البرود الذي يفرزه عالمها. فلا نجد حلولًا وسط في موقف عليش المنقسم إلى (أبيض/ أسود).

وكل شيء غير منطقي في عالمه الروائيّ، إذ يحب الرجل امرأة قابلها للتوّ إلى درجة العبادة، ثم يكرهها وينفر منها في اللحظة التالية، كما تمور عوالمه بشبان فارغين يريدون الشراب والمرأة بأي ثمن، برجال انتهازيين، فتيات ليل، قبيحين ومشوهين... وتنتهي "كلهم أعدائي" بعبارة: "إنني الرجل الوحيد الذي يضطر للاعتذار عن شكله في كل مرة يرى فيها إنسانًا آخر". وتنال المرأة في هذا الفضاء الروائي نصيبها من النقمة. فلا يرى فيها سوى "وجبة يتناولها ويضع النقود على الطاولة ويمضي".

إن القبيح ليس مشكلة الناس بل مشكلة الشخص ذاته. ووجود القبح إلى جانب الجمال لا يتعدى للأسف وظيفته في إظهار الأخير. وكما يبرز السيد عبر الخادم عند هيغل يحضر القبح في الفن -إلا فيما ندر- باعتباره ضرورة لتألق الجمال.

وفي عصر الصورة، أوجدت وسائل التواصل والميتا بكل أنواعها حلًا تخديريًّا لمشكلة القبح على غرار الصورة التي شاهدناها في فيلم "آفاتار"، حيث يتحوّل الشخص الذي يعاني من الشلل أو عاهة جسدية إلى شخصية تتمتع بالوسامة والقوة في عالم مواز.  

وتعمل الصورة الافتراضية في مواقع البلوغ والتشات لمنح الوهم بالواقع وتعطي الإنسان الفرصة لأن يحصل على المظهر الذي يريده لكي يتجاهل اختلافه الجسدي عمن حوله ويعوّض نقصه بصورة جديدة. فمشكلة الإنسان ليست في شكله الجسدي بل في اختيار المقاومة التي تنبثق من نقاط الضعف الخارجة عن إرادته. وبالعودة إلى رجاء عليش فإن أعماله تمثل قسوة الطبيعة البشرية، حيث الحنان الهائل ينقلب إلى نفور مروّع. والمفارقة أن الرغبة بالتواصل العميق لدى شخصّياته الأدبية لم تتحقق إلاّ عبر انتحاره ليقول "أنا هنا" على طريقته.

 

إحالات:

- جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، منشورات الآداب، بيروت، 1966.
- رجاء عليش، لا تولد قبيحًا، القاهرة، مكتبة مدبولي.
- رجاء عليش، كلهم أعدائي. القاهرة، مطبعة الجامعات، 1979.
- فيكتور هوجو، أحدب نوتردام.
- أفاتار: ‏ فيلم خيال علمي ملحمي أميركي عُرض عام 2009، كتبه وأخرجه وشارك في إنتاجه وتحريره جيمس كاميرون.