Print
فريد الزاهي

هل تحرج الذات والذاتية الكتابة الفكرية؟

15 سبتمبر 2024
آراء
لماذا يلجأ الكثير من المفكرين والباحثين لدينا (كما لدى الغير بكل تأكيد) إلى كتابة السيرة الذاتية أو الرواية أو القصة؟ من طه حسين وع. الرحمن بدوي، إلى الخطيبي مرورا بحليم بركات والعروي ومحمد برادة وكليطو... نجد أنفسنا أمام رغبة حكائية تنفجر في لحظة ما لتخبو بعدها، أو تصير معبرا موازيا للكتابة الفكرية والنقدية. هل لأن ثمة شيئا تبقى لدى هؤلاء في بلورة أفكارهم بطريقة الكتابة المفهومية، التي تبتغي رص الأفكار وتتناول بالتحليل والتركيب، وتتفادى الصور البلاغية والحكي؟ أم لأنهم يجدون في الحكي متعة حسية تضاهي أو تجاوز أحيانا متعة التركيب واستجلاء المعاني وترتيب الأفكار وتحليل القيم والاستجداء بالإحصاءات أو الوقائع أو أفكار الغير؛ أم لأن الكتابة الفكرية لا تحتوي فيض الذات وومضات الذاكرة؟...
الكثير من الكتابات الفكرية والفلسفية تقوم على نصوص سابقة، تخترق تاريخ الأفكار محللة إياها ومعيدة تركيبها، ترشح بشواهد من نصوص كتاب آخرين، تنفتح عليها انتقادا أو استعادةً أو تحطيما. والكثير منها (خاصة الأنثربولوجيا)، يقوم على الملاحظة العينية كما على الحكي المباشر، تناوبا مع التحليل والوصف للظاهرة العينية. أما الكتابة الحكائية (رواية أو قصة) فتقوم على ابتداع موضوعاتها مهما كانت واقعية، تعتمد الذاكرة الشخصية (في حال السيرة الذاتية) أو الابتداع وتحويل الوقائع في حال الرواية. وحتى حين تُحكى الرواية بصيغة المتكلم فهي لا تعني بالضرورة كاتبها، بل هي قد تكون لعبة حكائية مقصودة من المؤلف. ذلك حال رواية مقتل روجيه أكرويد لأغاثا كريستي التي يكون فيها القاتل هو الراوي بحيث يتعاطف معه القارئ ليكتشف في النهاية أنه القائم بالجريمة.

الذات في مرايا الكتابة 
من فضائل الكتابة لدى القدماء، التي تحبِّبنا فيها، أنها عصارة تجربة شخصية ممهورة بالملاحظة والتفكير يمتزج فيها الشعر بالحكي بالحكمة. فنحن لا نكل من قراءة محاورات أفلاطون لأنها تشخص حواريا، وفي مشاهد يمكن مسرحتها، القول الفلسفي لسقراط (ومن ثم لأفلاطون).




أما مقالات مونطيني (التي ترجمناها كاملة منذ ثلاث سنوات)، فإنها مزيج من استلهام التراث اليوناني والروماني، والحكي الشخصي، والفكر النقدي الذي يحول الذات إلى محور خصيب للكتابة. وحين نقرأ الجاحظ وغيره في تراثنا الأدبي والفكري فإننا نجد أنفسنا في قلب كتابة لا فاصل فيها بين الحكي الشخصي والغيري والبلورة الفكرية للأحكام والمفاهيم.
يزعم البعض، انطلاقا من موقف دولوز من الكتابة الشخصية والسيرة الذاتية، كما من شتات آراء بلانشو في التيهان والنسيان، أن الكتابة الذاتية أو حكي النفس لا تستقيم إلا باعتبارها كتابة غيرية. وهكذا أقرأ بنوع من الحيرة هذا الاستطراد الدولوزي البلانشوي من كاتب عربي:  "لا علاقة للكتابة بما هو شخصي، بل إنّ لها علاقة بالحياة. لكنّ الحياة أمر يتعدّى الأشخاص، والانكباب على ما هو شخصي يحُول بين الكاتب وبين «أن يَرى». أنتَ تكتب لأنّ شيئًا من الحياة يمرّ عبركَ. ليست الكتابة قضية أرشيفات وتوثيق. وليست مهمّة الكاتب أن ينقّب في أرشيفه. فأن يقتصر الأديب على طفولته وذكرياته الشّخصية أمر لا يعني أحدًا، بل قد لا تكون هناك جدوى من ورائه على الإطلاق. الكتابة شهادة للحياة ومن أجلها. ليست الكتابة تسجيلَ ذكريات، ولعلّها، بالأولى، تفجيرٌ لها وللّغة التي سُطّرت بها. إنّها أساسًا نسيان". إنها استراتيجية ممكنة، أو هي بالأحرى لعبة غيرية كان رامبو أول من استكشفها في قوله الشهير: "الأنا هو آخر"، مدشنا بذلك لعبة المرايا التي تتحكم في الكتابة عن الذات.    
لم يخصص جيل دولوز عملا كاملا للكاتب الذي يكتب عن نفسه. ومع ذلك، فإن أفكاره حول الأدب والكتابة والموضوع تفسح المجال لتحليل هذه المسألة. الكتابة لدى دولوز صيرورة، فهي ليست فقط تعبيرا عن هوية الفرد، بل هي بالأحرى عملية تحول إلى آخر. الكاتب لا يعكس نفسه في عمله، بل يستكشف إمكانيات جديدة، وأساليب جديدة للوجود. الكتابة إذًا من هذا المنظور كتابة لاشخصية وليست شأنًا شخصيًا، بل قوة جماعية. فالكاتب يغدو بذلك قناة لأصوات متعددة، كما لمستقبل يتجاوزه. إن هذا التصور الذي يلائم لدى دولوز تصوره للاختلاف، وإن كان مغريا، قد يبدو غريبا ومفارقا في بلداننا العربية التي لم تستكمل حداثتها، ولم تمنح بعد للذات والفرد كامل مقومات وقيم الذات والذاتية. نحن نعيش أزمنة متداخلة لا نشرع في أحدها حتى يدركنا الآخر. ففي المشرق تتداخل البداوة مع أحدث مظاهر التقدم، وفي المغرب تتعايش أنماط مركبة من العلاقات الاجتماعية. من ثم تكون كتابة الذات بشكل ما تعبيرا عن ولادة الذات والفرد.
لا غرو في أن الذات حين تستحضر "ذكرياتها"، في شكل سيرة ذاتية أو رواية، تكشف عن نفسها أيضا (أو تُواري وتنتقي) في اللغة والتعبير. فالكتابة الحكائية الأدبية اشتغال على الوقائع في اللغة. اللغة تفكك الواقع وتستنبت فيه رغبات أخرى جديدة. لذلك ليس من الغريب أن يكتب عبد الكبير الخطيبي، أحد مفكرينا الأكثر حداثية، والأكثر استلهاما لفكر الاختلاف،  "رواية" ذاتية (عشق اللسانين) تتوارى فيها الذات لتغدو اللغة نفسها ذاتا موازية تبلور الأنا "الواقعية" وتمنحها صور وجودها. وهي رواية تستعصي استعصاء على الترجمة لأن لعبة الذات واللغة هذه تغدو فيها أساسا أسلوبا للكتابة.
بل لنقل بكل بساطة إن ثمة كتابا ليس لهم سوى أن يكتبوا حيوات الآخرين، لأن ذاكرتهم لا تختزن من الفظائع والتحولات والانكسارات والمنعطفات ما يمكّنهم من كتابة سيرة ذاتية. وهم إن كتبوا ذلك فإن اللغة والأسلبة والتفكير الخيالي هو ما سيسعفهم، محولين الوقائع إلى تأملات جمالية. وثمة مفكرون لم يعيشوا من وقتهم سوى طفولة وديعة وشباب منساب سلس في الثانوية والجامعة. وكل ما حدث من أحداث هامة في حياتهم كانت وقائع عاشها الآخرون فردية أو جماعية. فهل لهم في هذه الحال ما يحكون؟ غيريتهم في هذه الحال سابقة على الكتابة، وذاكرتهم العجفاء لا تسعفهم للحكي.




لذا فهم ليس ما لديهم ما يمنحونه للمحو والنسيان سوى محاضراتهم ولقاءاتهم الثقافية. أتذكر في هذا السياق رواية كتبها ناقد معروف عن مصر نشرها في أواخر التسعينيات، يتحدث فيها عن لقاءاته بالقاهرة بكتاب مصريين كبار من قبيل نجيب محفوظ وطه حسين. حين انتهيت من قراءتها، أدركت أن المؤلف لم يعش من القاهرة شيئا ذاتيا غير هذه اللقاءات... وكان الأحرى به أن يكتبها مذكرات فقط...  
ثمة من له إذًا ذات وذاكرة قابلتان للكتابة، وثمة من لا يكون له النسيان مسعفا لأن ليس ثمة ما ينسى !

الأنا في صلب الفكر
تعلمنا الأنثربولوجيا أن الذات الملاحظة لا يمكن أن تنفصل عن موضوعها، وأنها في المعايشة والمعاينة لموضوعها تحوله إلى محيط للذات حتى لو كان البون شاسعا بين الرائي والمرئي، وبين الذات والموضوع. تغدو الذات البحاثة في هذا السياق جزءا، ولو عارضا، من الموضوع، إلى حد أن بعض القبائل تتبنى الأنثربولوجي، وتسعى إلى إخضاعه لطقوسها الغريبة. هكذا تغدو الذات في الواقع جزءا من الموضوع، منتمية إليه لحظيا. وقد يستمر هذا الاندماج إذا ما طال المُقام أو تكررت الأبحاث عن المنطقة والظاهرة نفسهما. بالمقابل يجد المفكر نفسه منحبسا في مفاهيميته، فنراه ينزاح عن تلك الصرامة في الحوارات الصحافية أو التلفزيونية.
هل الكتابة الفكرية والفلسفية محصنة من الذات؟ حين قال جاك لاكان بأننا ننسى ليالي الأرق التي تثوي وراء مقال أو كتاب، كان يعني أن الكتابة معاناة ذاتية وأن تكوينها الذاتي جزء من سيرورتها. الذات المفكرة تعودت على كبت حضورها وترك نفسها خارج الحجاب الذي يفصلها عن التفكير. وحين تكتب سيرة المؤلف، نكتشف معها أحيانا أمورا لم نخبرها تثير لدينا الدهشة أو الحيرة. وما يثار اليوم حول حياة بيكاسو وميزوجينيته (احتقاره للنساء) يكشف عما استخدمه الفنان بشكل واضح أو مستخفٍ من حياته الشخصية في لوحاته.  بل إن ما يثار ويحكى عن علاقة سارتر بسيمون دوبوفوار بعد وفاته يهشم الصورة التي كانت لدينا عن هذين الشخصين. إنها شذرات حياتية إن لم يحكها الكاتب أو الفنان أو المفكر سيكتبها عنه آخرون عوضه.
حين يدرج مفكر في نص فكري وتحليلي وقائع شخصية، فهذا لا يعني أنه يُمسرح ذاتا عليه أن يتناساها ويمارس على مكوناتها النسيان والمحو. إنه يترجم الحكاية إلى تاريخ (كما يقول بول ريكور). بل إنه يحول شذرات حياته إلى موضوع للفكر والتفكير، مانحا بذلك الحياة للفكرة أو المفهوم. حقا أن الحياة تخترقنا، غير أن هذا الاختراق يترك آثارا تتشكل في ذاكرتنا في شكل صور ووقائع تعود للاستعلان هنا وهناك في شكل سيرة شذرية قد تجد الوقت لكي تتبلور في نص قائم بذاته.