Print
سوسن جميل حسن

هواجس حول أسئلة النشر بعد موت المؤلف

16 سبتمبر 2024
آراء

لا أحد يعرف كم الوقت المتبقي من حياته، فالموت حاضر في كل لحظة، يسير بموازاة الحياة منذ الصرخة الأولى، أمّا مقولة "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا" التي تنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب، وتدعو إلى الحكمة في عيش الحياة وتدبّرها، والتسامي القيمي والأخلاقي في الوقت نفسه، باعتبار أن المرء يُسأل في الآخرة عمّا اقترفت يداه من فعل خير، أو شر، فإن هذه المقولة لا تصح بالنسبة للمبدعين، فالإبداع ينمو في فضاء آخر، ربما هو المجال الذي يقارع فيه الإنسان فكرة الموت وأسئلة الوجود.
لا أحد يستطيع رصد ساعة موته، إلّا أولئك القلائل الذين يذهبون إليه بإرادتهم، كما في حالات الموت الرحيم التي تشرعنها بعض الدول، أو الأنظمة، على قلتها، فيرتبون أمور دنياهم قبل المضي في تنفيذ قرار جبار كهذا. لذلك نرى المبدع بشكل عام، والمؤلف بشكل خاص، لا يكترث لفكرة الموت في أثناء كتابته، بل ربما الكتابة في حد ذاتها هي نوع من المقاومة المبطنة ضدّ الموت، وقد يباغته الموت من دون أن يتمكن من إنهاء أحد كتبه، وربما أكثر من كتاب. في بعض الحالات يقرّر الناشر نشر العمل بشكله الذي تركه المؤلف، حتى لو لم يكتمل، وفي حالات أخرى يتولى مؤلف جديد مهمة الكتابة وإنهاء المؤلَّف.
أعلنت دار "نوفل" منذ فترة وجيزة عن قرب صدور الرواية الأخيرة للروائي السوري الراحل خالد خليفة: "سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون"، والذي توفي منذ عام تقريبًا (30 سبتمبر/ أيلول 2023)، وكانت آخر رواية منشورة له "لم يُصلِّ عليهم أحد" (2019)، صدرت عن دار هاشيت أنطوان ــ نوفل، ودخلت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2020.
جاء في نبذة الناشر عن الرواية: "في هذه الرواية، كأنّنا بخالد يصفّي حساباته مع الزمن، مع جنّته المفقودة، مع تاريخه الشخصي والمدن التي أوجعه حبُّها، مع التناقضات التي تنهش النفس البشريّة والضياع الذي يشتّت روحها، مع اغتراب المرء عن محيطه وعن نفسه. كلّ الحبّ، كلّ المرارة، كلّ الفقد، كلّ اليتم والإحساس بالتخلّي هنا".
لا بدّ أن هذه الرواية سوف تلقى مزيدًا من الاهتمام، وسيقبل عليها القرّاء، خاصة لأنها ستدخل في سردية الموت ذاتها، ستعيد إلى الأذهان والمشاعر سردية موت خالد خليفة، ويتداخل الواقعي بالغيبي ورهبته فيها، وسوف يستدعى المؤلف إلى الحياة مجدّدًا من خلال روايته الأخيرة، وسوف ينكبّ عليها النقاد مفككين عناصرها ومخضعين إياها إلى معاييرهم النقدية ونظرياتهم المعتمدة، والبحث عن الجسور بينها وبين ما سبقها، خاصة أن تحريرها تمّ بعد وفاة مؤلفها. هذا أمر طبيعي ومألوف بالنسبة إلى الكتب التي تُنشر لكتّاب رحلوا ولم يشهدوا لحظة إشهارها، بصرف النظر عمّا إذا كان المؤلف تركها نصًّا ناقصًا، وجاء من بعده من تولّى مهمة إكمالها، أو كان مسودّة أولى أو ثانية، أي مخطوطًا لم يأخذ صيغته النهائية، أو كان نصّا منجزًا بالنسبة إلى مؤلفه وأودعه في عهدة المحرّر، كما رواية خالد خليفة المنوّه عنها.
في تاريخ التأليف والنشر قصص كثيرة تندرج تحت هذا العنوان: مؤلفات نشرت بعد موت مؤلفيها، نستعرض بعضًا من الأعمال والمؤلفين، منهم مثلًا:
فرانز كافكا: لولا ماكس برود لما كان لدينا اليوم إلّا عدد قليل ممّا ألّف كافكا. عندما توفي ترك ثلاث روايات رئيسية غير مكتملة (المحاكمة، القلعة، وأميركا). لقد طلب من صديقه الكاتب ماكس برود إتلاف الأعمال، لكن برود لم يصغِ إلى رغبة كافكا، بل أضمر أخرى في باله. أنقذ برود معظم أعمال كافكا من التدمير، بعد أن قرر تجاهل تعليمات كافكا الصريحة، التي عبّر عنها مرتين في شكل وصية، بأن يحرق برود جميع أعماله غير المنشورة من دون قيد أو شرط. على العكس من ذلك، مباشرة بعد وفاة كافكا، بدأ برود في نشر كتاباته، أولًا رواياته في عشرينيات القرن العشرين، ثم كتاباته في ستة مجلدات في ثلاثينيات القرن العشرين، وأعيد نشرها في شكل موسع في ثمانية مجلدات في نهاية أربعينيات القرن العشرين.





ديفيد فوستر:
كان كاتبًا وأستاذًا جامعيًا أميركيًا، اشتهر بروايته Infinite Jest، التي صدرت عام 1996، كان يعاني من اكتئاب حاد منذ طفولته، وانتحر في منزله عام 2008 عن عمر يناهز 46 عامًا. روايته الأخيرة "الملك الشاحب" تم نشرها بعد وفاته في عام 2011، ولقد ترك عديدًا من الأجزاء المشروحة والمنظمة من هذه الرواية التي جمعها محرّره منذ فترة طويلة، في عمله الأخير تناول مسألة ماذا يحدث للأشخاص الذين يتعرضون للملل، رشحت روايته "الملك الشاحب" لجائزة بوليتزر، ولقد لاقت الاهتمام والإعجاب من ناحية كتابتها الراديكالية والساخرة، وتعدّ شهادة مؤلفِ شَعَرَ بأنه تحت رحمة الواقع. عثرت أرملته على مخطوطة غير مكتملة على الكمبيوتر تشكّل 1000 صفحة، تم دمج 500 منها في رواية غير مكتملة. لكن لن يُعرف أبدًا الاتجاه الذي أراد فوستر أن يسلكه في هذه الرواية.
نابوكوف، الكاتب الروسي الأميركي: كان آخر عمل له قد نشر في عام 2009، أي بعد 32 عامًا على وفاته، وبعد أن حقق الشهرة العالمية عام 1955 بروايته "لوليتا" بدأ بكتابة آخر أعماله عام 1975، والذي شأنه شأن أعماله السابقة، كان يكتبه في ذهنه قبل تدوينه على الورق، أو على بطاقات مفهرسة. وبسبب مرضه الخطر تمكن من كتابة 138 بطاقة فهرسة، ما يعادل 38 صفحة محتملة من كتاب، ووفقًا لرغبته كان يجب نسف هذا الجزء من الكتاب أو الرواية، لكن ابنه ديمتري نابوكوف قرّر خلاف ذلك بعد أن أخفى بطاقات الفهرسة لرواية "نموذج لورا" في خزانة أحد البنوك السويسرية لسنوات، نشر الرواية غير المكتملة التي كتبها والده الساعي إلى الكمال، والذي لم يكن يكره شيئًا كما الكمال.
ستيج لارسون وثلاثية الألفية: الألفية هو عنوان سلسلة ناجحة عالميًا من روايات الجريمة، صممها في الأصل الكاتب السويدي ستيج لارسون، ونشرت بشكل رئيسي بعد وفاته، وهي واحدة من أكثر الكتب قراءة على نطاق واسع في أوروبا والعالم. ولسوء الحظ، فإن مؤلفها الصحافي والكاتب السويدي ستيج لارسون لم يعش ليرى هذا النجاح، فقد توفي بأزمة قلبية في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2004، بعد وقت قصير جدًا من الثلاثية الأولى. كان لارسون يعدّ الخبير الرائد في العالم في الحركات الفاشية واليمينية المتطرفة والنازية الجديدة والحركات اليمينية المحافظة، يحارب التطرف اليميني نهارًا ويكتب ليلًا.
كتب هذه الروايات ديفيد لاغركرانتز، وتم تسويقها مع إضافة مما كتب ستيج لارسون كأجزاء 4 و5 و6 من سلسلة الألفية. سبق نشر الثلاثية نزاع قانوني بين إيفا غابريلسون، شريكة لارسون منذ فترة طويلة، وعائلة لارسون، حول الحق في ميراث لارسون.
ورث والد لارسون وشقيقه حقوق الأعمال، وعارضا إكمالها ونشرها من قبل مؤلف آخر. وفي عام 2014، تم نشر الجزء الرابع من سلسلة الألفية ــ المؤامرة، من عمل الصحافي ديفيد لاغركرانتز، وليست مبنية على مخطوطة لارسون، وعلى الرغم من موافقة والده وشقيقه على النشر، إلا أنها قوبلت بانتقادات حادة.
ترومان غارسيا كابوتي: كان المؤلف الأميركي ترومان غارسيا كابوتي (30 سبتمبر/ أيلول 1924 ــ 25 أغسطس/ آب 1984) يعمل على كتاب يسمى "الصلاة المستجابة"، ويملك عقدًا لنشره مع إحدى الدور، ولقد قال في إحدى الإطلالات التلفزيونية عن الكتاب: "إنها روايته التي ستصدر بعد وفاته"، وتابع "إما أن أقتلها أو ستقتلني"، كان ذلك في عام 1971. نشر بعض فصول الكتاب في مجلة "أميركان إسكواير" في العامين 1975 و1976، كان الكتاب يمثل هجومًا مستترًا على حياة الأثرياء والمشاهير، ومنهم من كان من أصدقائه حينها، ولقد وجد كثيرون منهم أنفسهم في الكتاب، وقطعوا صلتهم وصداقتهم مع المؤلف، فوجد نفسه غارقًا في دوامة من الاكتئاب والمخدرات والكحول لم يخرج منها، بل عانى خلالها انهيارات عصبية، ودخل السجن مرات عدة، والمستشفيات أيضًا. نشر الكتاب حينها غير كامل، أما الفصول الباقية فما زالت لغزًا يعتقد بعضهم أنها مخفية في مكان ما، بينما يعتقد بعض آخر أنها لم تكن موجودة على الإطلاق.






نجيب محفوظ:
قصة "همس النجوم" لنجيب محفوظ مجموعة من الأوراق محفوظة في صندوق أعطتها ابنة الكاتب الراحل، أم كلثوم، إلى محمد شعير، الكاتب والصحافي في جريدة (أخبار الأدب)، وجد فيها ملفًّا ضمّ 40 قصة قصيرة كتبها الأديب الراحل ليختار من بينها بعض القصص للنشر في المجلات والصحف من حين لآخر، وكانت بعض قصص المجموعة، مع بعض القصص غيرها، التي نشرت عن دار الساقي للنشر والتوزيع ببيروت في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2018 بعد نحو ثلاثة عشر عامًا من وفاته تحت اسم "همس النجوم" قد نُشرت للمرة الأولى على صفحات مجلّة (نصف الدنيا). قصة وحيدة بعنوان "همس النجوم" لم تُنشر من قبل في أي من الصحف، أو المجلات، ولقد حملت المجموعة عنوانها أيضًا.

***

هذا الموضوع الذي يتجدّد كل حين، خاصة عندما يكون الكاتب معروفًا ويشغل موقعًا مهمًّا في المجال الثقافي، يجدّد في الوقت نفسه أسئلة متنوّعة حول العمل في حدّ ذاته، ومكانه في المشروع الأدبي، أو الثقافي الخاص بالمؤلف، ويطرح مهمات واجبة أمام النقد، خاصة لجهة أن يتولى مؤلف آخر مهمة إكمال المخطوط غير المكتمل، أمّا بالنسبة إلى المحرّر، فتنكسر حلقة أساسية وهي العلاقة بين المحرّر والكاتب بغياب أحد طرفي العمليّة، وهو طرف مهم، فهي عملية سجالية يطرح المحرّر وجهة نظره أمام الكاتب، ويجري النقاش حولها، فهي ليست ملزمة بالمطلق، وكثيرًا ما وقع خلاف بينهما حول هذا الأمر.
أما بالنسبة إلى رواية خالد خليفة الجديدة هذه، فإن المحرّرة، ذات الخبرة بالتأكيد، رنا حايك، ذكرت في منشور لها على حسابها في فيسبوك: "لم أواجه استحقاقًا كالذي واجهته خلال العمل على رواية خالد. خالد الألمعي كاتبًا، صاحب القلب الطفل إنسانًا، المترفع قامة أدبية... خالد الذي لم يعد هنا ترك قبسًا من روحه بين يديّ". وتتابع: "كل حرف تركه لي كان أمانة صنتها... لقد حرصت على حفظ الأمانة يا خالد، وها إني أسلّم هديتك الأخيرة لأحبائك، فلترقد روحك بسلام". هذه العلاقة الإنسانية والقريبة التي كانت بين الكاتب والمحرّرة، القائمة أساسًا على قراءة أعماله السابقة وفهمها شخصية خالد واسلوبه الأدبي، ربما ساعدتها كثيرًا في التعامل مع النص "الأمانة" بحساسية عالية.
ولا بدّ من سؤال أيضًا يدور في الذهن حول النصوص غير المكتملة وهو: هل يا ترى لو كان الكاتب على قيد الحياة، كان سيمشي بالسرد كما جرى، أم إن السرد والنهاية ما كانت ستخطر ببال المؤلف، أو إنه لن يرضى عنها؟
أمّا السؤال عن حقوق التأليف، فهذا سياق آخر ليس مجال بحثه هنا، خاصة في الدول التي تنتهك فيها الحقوق بشكل عام، ومنها حقوق التأليف والنشر.