Print
روان الجبر

الدراما التركية المُعرَّبة: هل هي "موضة" للهروب من الواقع؟

20 سبتمبر 2024
آراء

حظي المسلسل التركي المدبلج "سنوات الضياع" في عام 2006 باهتمام ومتابعة المشاهد العربي، ولقي نجاحًا كبيرًا، وأسّس على ما يبدو لـ "موضة" مسلسلات تركية مدبلجة، بدا أنها تفتح أمام المشاهد العربي عالمًا جديدًا، عبر بناء درامي لا يخلو من الإثارة، وبثقافة جديدة، وطرائق معيشة مختلفة، وكاميرا عنت بتفاصيل البيوت الفاخرة، والسيارات الفارهة، والديكورات والأزياء المميزة، وتخلّل ذلك كله أصوات عربية. وقد فرضت هذه الأعمال تفاصيلها وتقنياتها على الدراما العربية، التي لم تنظر إليها سابقًا كعناصر مهمّة، وحرصًا على رواج مماثل، لم يكتف منتجو الدراما العربية بالاهتمام بتلك التفاصيل، بل سعوا إلى استنساخ تلك الأعمال، وتحولت الدراما التركية المدبلجة دراما مُعرَّبةً تحت عنوان: "مقتبس عن" ("عروس بيروت" و"ستيلتو" و"الثمن" و"كريستال"... إلخ)، ومعظمها بإخراج تركي وإنتاج مشترك تركي عربي، وجدت في انتظارها جمهورًا عريضًا في مختلف البلدان العربية، وحققت أرباحًا عالية، فتسابقت على إنتاجها وعرضها شركات ومنتجون طوال العام، باستثناء موسم رمضان في 30 يومًا، إذ تصل حلقات تلك النسخ التركية المُعرَّبة حتّى 90 حلقة، وربّما أكثر.
طابقت النسخة المُعرَّبة النسخة الأصلية التركية، نصًّا وحلقاتٍ، بل وأيضًا في الأزياء والديكورات وإيقاع الحوار، فكانت عبئًا على الممثل العربي، الذي ناء تحت وطأة المقارنة في كلّ مشهد بالممثل التركي في نسخة العمل الأصلية، وبدت مهمّة المخرج إعادة إنتاج مشاهد النسخة التركية. لكن وقت الحلقات وعددها، فرضا توجّهًا نحو تعبئة الوقت، والمشاهد المملة (الحشو) أو نحو استعادة مشاهد سابقة وتكرارها ذكرياتٍ لأبطال المسلسل، أو نحو صمت النظرات الطويلة بين عاشقَين ترافقه موسيقى تصويرية، وكان بإمكان المشاهد أن يحافظ على فهمه للأحداث حتى إن فاتته واحدة أو أكثر من حلقات المسلسل. كذلك استهوت المقارنة بعض المشاهدين، فحرصوا على مشاهدة حلقات النسخة الأصلية قبل استئناف متابعة حلقات النسخة المُعرَّبة. وتوفّرت للمشاهد العربي، من خلال تلك النسخ المُعرَّبة (بعد النسخ المدبلجة)، بأبطالها ذوي الانتشار الجماهيري عربيًا، فرصة الهروب من الواقع (المزري عمومًا)، وانتشرت بين شرائح اجتماعية واسعة وفئات عمرية مختلفة، بعمومية طرحها، وبإيقاعها البطيء وببساطتها، وبحوارها السلس الذي لا يحتاج ثقافةً خاصّة، واستعانت بها النساء خصوصًا في إضافة تفاصيل جديدة على ديكورات المنازل، أو استلهام أنماط جديدة من الأزياء والإكسسوارات والمكياج وألوان الشعر والتسريحات.

طابقت النسخة المُعرَّبة النسخة الأصلية التركية، نصًّا وحلقاتٍ، بل وأيضًا في الأزياء والديكورات وإيقاع الحوار، فكانت عبئًا على الممثل العربي، الذي ناء تحت وطأة المقارنة


أبهر مسلسل "ستيلتو" (وهو مستنسخ عن المسلسل التركي "جرائم صغيرة"، المستنسخ بدوره عن المسلسل الأميركي "أكاذيب كبيرة صغيرة")، الذي عرض للمرة الأولى على منصة "شاهد" في عام 2022، كثيرين في الشارع العربي بأسلوب حياة أبطاله، ما انعكس إحباطًا بسبب مفارقة الواقع- المثال؛ حياة متأنقة تبدأ صباحها بفستان وكعب عال وتستمر بإطلالة كاملة حتى آخر الليل، معها يفقد الزمان والمكان هُويَّتهما، وهما أساس بناء قصة العمل الدرامي. وكان هذا طبيعيًا في سياق اقتباس بتوسّطٍ تركي عن الدراما الغربية لا سيّما الأميركية، يتحوّل معها العمل نسخةً باهتةً ابتعادًا عن العمل الأصلي الأول، وبتحريره من عنصري الزمان والمكان. في هذه النسخ، حالات أكثر منها أحداثًا، لا أخبار محلية ولا عالمية، لا شكل لمجتمع مُحدّد، لا خطوط واضحة ترسم عادات وتقاليد، واختلافهما في سياق مواقع نجوم المسلسل في المجرّة الاجتماعية. لا كهرباء تُقطَع ولا حروب تدور، وكأنّ تلك الأعمال حرَّرتنا من زماننا ومكاننا فأحببناها.




استثمر ممثلون عرب مشهورون في تلك الأعمال واستثمرت بدورها بهم، كما ساعدت غيرهم في اكتساب شهرة واسعة، ونجومية عالية، إذ إن الأعمال المُعرَّبة أصبحت أكثر متابعة من النسخة التركية، فحصد مسلسل "العميل"، مثلًا، نجاحًا باهرًا على مستوى العالم العربي منذ حلقاته الأولى، من خلال قصة "بوليسية" لا تخلو من تشويق وإثارة، خصوصًا وأنه ضمّ مجموعةً كبيرةً من الفنانين السوريين واللبنانيين؛ أيمن زيدان ويارا صبري وسامر إسماعيل ووسام فارس وفادي صبيح وعبدو شاهين ورشا بلال وميا سعيد وأيمن رضا وطلال الجردي... وغيرهم من فنانين، قدّم كل منهم دوره باحتراف وإتقان. وأبدعت يارا صبري، بعد غياب عن الشاشة، لتعود بنقلة كبيرة من الفتاة الشابة المُدلَّلة أو الصحافية المثقفة أو الزوجة الملتزمة أو العاشقة المرهفة، إلى الأمّ المجهدة المكافحة، القوية والحنون في آن واحد. تعود بنضج السنين وبالموهبة لتزيّن الشاشة بثورة أداء أذهلت الجميع. لاقى مسلسل "العميل" (كتب السيناريو رامي كوسا، وأخرجه التركي باباروس بيلجن، إنتاج "إم بي سي" و"القمر" التركية، ومقتبس عن المسلسل التركي "في الداخل") إعجابًا كبيرًا، وقدّم نقلةً نوعيةً في سلسلة الأعمال المُعرَّبة، متفرّدًا وسط سرد درامي مُعرَّب، مُكرّر ومتشابه.

أبدعت يارا صبري، بعد غياب عن الشاشة، لتعود بنقلة كبيرة من الفتاة الشابة المُدلَّلة، أو الصحافية المثقفة، أو الزوجة الملتزمة، أو العاشقة المرهفة، إلى الأمّ المجهدة المكافحة


هل نقول إن لكل زمن فنّه؟ وهل تدخل الدراما التركية بنسختها المُعرَّبة في هذا الباب، أم هي مُجرَّد "موضة" لرغبتنا في الهروب بعيدًا عن واقع نعجز عن علاج مشاكله، أم "ترند" سرعان ما يتوارى خلف "ترندات" أخرى؟ وهل يعني ذلك تراجع الدراما العربية التي لا تزال كثير من أعمالها تحفر في الوعي والذاكرة؟... إن العناوين هنا كثيرة، انتمت زمانًا ومكانًا وروحًا إلى مجتمع مُحدّد، ووضعت أقدامها في أرض الواقع، بوجود إمكاناتها الإنتاجية وكتّابها ومخرجيها وأبطالها وممثليها وغيرهم من كوادر العمل الدرامي. لكن في لجّة العرض والطلب، حوّلت شركاتُ الإنتاج الجماهيرَ مُجرّد مستهلكين، ولا يخدم أن تقدّم شركات الإنتاج "ما يطلبه الجمهور" ارتقاءً بذائقة المشاهد العربي الفنية، ولا البوح بقضايا الواقع فنيًا وجماليًا. ويبقى أنّ شرط النجاح الحقيقي للأعمال العربية، والمعرّبة كذلك، أن تنطلق من فلسفةً واضحةً للتأثير في السلوكين الفردي والجماعي، سعيًا لترسيخ أو إلغاء أو تعديل بعض القيم والمفاهيم، انطلاقًا من الواقع وحاجاته، وفي ضوء تطلّعات المستقبل.

* شاعرة وناقدة سورية.