Print
وارد بدر السالم

البُعد الرابع في الرواية

26 سبتمبر 2024
آراء

(1)

لو قلنا بأنّ كتابة الرواية تشبه بناء بيت من طابق أو طابقين، فهذا وصف إنشائي، غير وافٍ، يمكن أن نقوله في أي وقت، وهو تشبيه وصفي معتاد لا إثارة فيه كبيرة سوى التقريب والمشابَهة، وقع تحت إجراءات متعارف عليها في توطين التعريف إلى معناه الرمزي. فبناء الطابق الواحد لا يحتاج إلى عوامل أولية كثيرة، والطابق الثاني يحتاج شيئًا من هذا في سبيل بناء بيت كلي وشامل. وكلما تعددت الطوابق في الواقع زادت معها الكُلفة وتمدد الزمن واستوجبت عُددًا وعوامل مساعدة أخرى.

هذه الإجراءات يجب أن يسبقها: المكان، الزمن، المساحة، مواد إنشائية أساسية، الاحتمالات، الكُلفة، الطقس، وقبل هذا وذاك هو البنّاء الماهر. كونه مهندس الأفكار وضابطها، وهو الذي يجعل من الخيال ممكنًا في الواقع.

إذا قلنا شيئًا ما عن البُعد الرابع للرواية، فالموضوع أكثر تعقيدًا من بناء بيت بمواصفات مسبقة. إذ لا نتخطى ثلاثة أبعاد هندسية (الطول- العرض- الارتفاع) بما يرمزون لها هندسيًا (س. ص. ع)، ولأن السرديات ومجمل الأجناس الأدبية لا تخضع إلى هذه الموازنات والحسابات والمعادلات الهندسية الدقيقة، كونها عملًا يتخلله الخيال إلى أبعد حد ممكن، ويأخذ من الواقع ما كان قادرًا على الرصف الفني الأساسي، لكن يمكن تأويل مقتضيات الهندسة ومعادلاتها ومعطياتها الرمزية إلى السرديات عامةً. فليست هناك رواية عريضة ولا مرتفعة هندسيًا. ويمكن أن تكون هناك روايات قصيرة أو طويلة، حسب رؤيا الكاتب لموضوعها. ولا توجد روايات مرتفعة، إلا من الباب الرمزي الذي يُعلي من شأن تلك أو هذه. فروايات دوستويفسكي وماركيز ونجيب محفوظ وهنري ترويا وتولستوي هي روايات "مرتفعة" في زمنها، وحتى في الأزمان التي تعاقبت عليها، فنيًا وذوقيًا وموضوعيًا.

(2)

هناك احتكامات تأويلية في المشروع النقدي؛ باعتبار أن الأدب غير خاضع لمنطق التجريب العلمي، على عكس العلوم المختلفة التي تبني بناءً تجريبيًا عقليًا، حتى أن مقولة (كثيرون حول العلم. قليلون حول الأدب) لا تبدو حقيقية وصحيحة، ولا متماسكة أمام ما يتحقق في المضمار العلمي الذي يخص الحياة والأكوان المحيطة به. لكن لو رجعنا إلى السبب التاريخي في التعليم العربي بعمومه لوجدنا مشكلة أساسية وهي التخلّف الدراسي بتفريق الطلبة إلى "علمي" و"أدبي" وهذا أدّى إلى مسخ شخصياتهم بين الفرعين، ووزّعوا اتجاهاتهم بين هذا وذاك، فصارت النتيجة كما هي معلومة لديكم؛ العلمي لا يطالع الأدبي، والأدبي لا يعرف أين وصل العلم... إلا في النادر!

(3)

مسألة التأويل واجتراح مفهومات فلسفية تستند إلى المعرفة العلمية المحض ممكنة جدًا، ولا تبدو ناشزة عن نسقيتها ومفهوميتها الشخصية، بل نرى العكس في التغذية المصاحبة لكلا النوعين، فمعظم العلوم القديمة أنتجَت من الخيال الأدبي تحت بابه العلمي المتخيّل، وكثير من الفقرات العلمية دخلت إلى السرد الأدبي، لهذا علينا التوخّي في عدّ العلم موضوعًا أدبيًا خالصًا، بل مفردات العلم ونظرياته ومقاماته الهندسية، يمكن أن تساعد على بلورة مفهومات نقدية واجتراحات مهضومة تبلور نسق السرد الأدبي في مفهوم الهندسة النسبية في تصوراتها الآينشتاينية على وجه الخصوص.

(4)

إن كانت الأبعاد الثلاثة (س. ص. ع) هي الثابتة علميًا، فإن البُعد الرابع الآينشتايني بشقّيه "المكان" و"الزمان" هو السلسلة الأكثر إجرائية في تعميم فكرة الزمان والمكان في الكون، وهي سلسلة حَدثية غائمة ماضوية يشوبها الغموض كثيرًا، تنعكس شرطًا على العالم بأبعاده الثلاثة. وقد يكون هذا مجرّد إجراءات نظرية تتعمق فيها الفلسفة ورؤيا العلم إلى اتساع الأكوان مترامية الأطراف، فإثبات وجود البعد الرابع هو تكهّن نظري وفلسفي وليس حقيقيًا طبقًا لغموض الكون وموازناته الكثيرة، وهذا لا يعني أن آينشتاين في نظريتيه النسبيتين الخاصة والعامة، هو مجرّد أداء إجرائي تجريبي نظري، لكنه وضع الأساس العلمي للفيزياء الحديثة لمن يريد تطوير النظريتين في مراقبة الكون الفسيح. وهذا ما فعلته نظرية الأوتار التي وجدت أن المادة مكونة من أوتار صغيرة من الطاقة، والكون مجموعة أكوان متصلة ببعضها ومتداخلة، ومن الضروري أن تكون لتلك الأكوان قوانين خاصة بها، بمعنى أن الحيّز الواحد في العالم قد يكون مشغولًا بأكثر من جسم ولكن من عوالم مختلفة، ولا ينفي كل هذا أن المُكتشف حتى الآن هو أن عالمنا مكون من ثلاثة أبعاد حقيقية تُجاوِر عوالم أخرى شبيهة بعالمنا، وربما تلك العوالم فيها أبعاد تصل إلى 11 بُعدًا، ومع النظريات العلمية الدقيقة التي تبحث عن المجهول في الأكوان البعيدة، ينتظر علماء الكون إثبات ما نادى به آينشتاين على اعتبار أن الزمن يجب أن يكون هو البُعد الرابع في الكون الفضائي، وهو بُعد نظري- عقلي غير منظور، لتمر نظرية الأوتار مرورًا يسيرًا في اكتشافاتها البُعدية الكونية التي ما تزال قيد البحث والدراسة.

وجدت نظرية الأوتار أن المادة مكونة من أوتار صغيرة من الطاقة، والكون مجموعة أكوان متصلة ببعضها ومتداخلة (Getty)


(
5)

على وفق هذا المختصر فإن حاضن الأبعاد الثلاثة هو البُعد الآينشتايني كبُعد عقلي لا يمكن أن يكون ظاهرًا، بل هو ماضٍ في الأغلب يمر عبر الحاضر ومن ثم المستقبل في تمدّد الكون وحركيّته السريعة. أما نظرية الأوتار فهي تصبو- بالبحث- لأن تكون هي الحاضنة الأكبر لنظريتي آينشتاين، تمهيدًا لعلميات مقبلة مع الزمن الذي ربما سيكتشف الكثير ويغيّر المفاهيم النظرية العلمية. فنرى في كل هذا، ومع تمدّد الكون، أن البحث في الفضاء الكوني هو بحث في الماضي أولًا قبل أن يكون مستقبلًا. ومن هذه الاستقبالات العلمية المتطورة، رأينا في الكون السردي الروائي ما نتوخى أن ندلف في غموض الكون من معارف علمية غير مُدرَكة، لموازنة الكون السردي في آفاقه الثقافية المعتمدة، ولكن على وفق ما يلي، باستعادة نظرية بناء البيت ذي الطابق أو الطابقين:

أولًا: الزمكان الروائي (الزمان- المكان)، تم بحثه في عشرات الكتب والمقالات، وليس ضروريًا إعادته بقدر تعلّق الأمر بالتطبيقات. لكنّ رأينا في أن الزمكان مصطلح آينشتايني تم تكييفه كمصطلح أدبي.

ثانيًا: المساحة، هي الحيّز الذي يشغله البناء. إذ لا بد من أبعاد متعدّدة وقياسات منضبطة لإقامة البيت على مساحة معلومة من الأرض. وبناء الرواية قريب من هذا التصوّر، بإيجاد الأبعاد الهندسية المناسبة للمساحة الكلّية المفترضة. فالبيت يحتاج إلى فضاءات غير مشغولة كما الرواية التي يجب أن تُترك فيها مساحات مناسبة لفضاءات زراعية وعطرية وثانويات تُباعد فصول السرد عن بعضها.

ثالثًا: المواد الإنشائية الأساسية في بناء البيت معروفة، وفي الرواية أيضًا. فمواد الرواية هي مكوناتها الأساسية من اللغة والحوار والوصف والزمن والمكان والشخصيات. وهذه كلها أبعاد نفسية واجتماعية، تتدخل فيها العلوم الاجتماعية على وجه التخصيص.

رابعًا: البنّاء هو المهندس الأول الخبير في إنشاء البيت من مواد مبعثرة مستقلة، لا صلة بينها. لكنه يجمعها بخيال المعماري الحاذق، ليكون المكان بيتًا متكامل الأركان. أما زمنية إنجازه فتحدّدها الفكرة الأساسية إن كان ذا طابق أو طابقين. فالزمن مُحكَم فيهما.

خامسًا: الطقس، قد يتحكم بسرعة الانجاز أو بطئه. عامل مخادع نوعًا ما، لا البنّاء يدركه ولا الروائي. ففي بناء البيت يكون المناخ عاملًا إما مساعدًا أو عكسه، وفي الرواية هو احتكام نفسي للروائي الذي "يبني" بيته السردي على وفق خطط ذهنية وخيالية، وبالتالي فالعلم حاسم من حيث المبدأ، وقوانينه نافذه إلى أزمان طويلة حتى يتطور، وتستجد نظريات أخرى تجبّ ما قبلها، أو تطورها كلما وجدت فسحة لذلك، بينما السرد مطّاط إلى حد بعيد، ليست له قوانين حاسمة، وعندما يجري بها مع الزمن، فهذه الزمنيات تتعلق بتكييف المادة الاجتماعية إلى شكلها ووعائها المناسب ظرفيًا. لا سيما إذا عددنا أن المجتمعات العالمية تتطور هي أيضًا، لكن بواسطة التكنولوجيا، والآن مع الإلكترونيات بثورة ثالثة بعد الثورتين الزراعية والصناعية اللتين أخرجتا الحياة من بدائيات السلوك البشري إلى جمالياته التكنولوجية المتطورة.

(6)

التطورات الاجتماعية ونموّها السريع، أنتجت، ثقافيًا، ظروفًا جمالية جديدة في مسارات متعددة وأخذت أدوارها في الحياة المجتمعية، بدءًا من الفلسفات القديمة حتى السرد المعاصر، في أبنية متعددة، لا تقف في ثبات التنظير، بل تتخطاه إلى ميدان الكتابة الإبداعية التي وجدت وتجد ظروفها المتخيلة في واقع تكنولوجي وإلكتروني، تستطيع فيه إنشاء أبنية مختلفة وإيجاد أشكال متوائمة مع الأحداث الكبيرة والكبرى التي اجتاحت وتجتاح العالم من حروب وأوبئة وسياسات عالمية كارثية، لتكون حاضنة جمالية في هذا الخليط الذي يُربك الإنسان في كل زمن ومكان. وبالتالي فإنها تستجيب لمعطيات العلم وإنجازاته في بناء إنجازاتها الشخصية، وهي استجابة طوعية بالنتيجة، نظير التقدّم العلمي في مضامير الكون من زمن ومكان وإحداثيات وكشوفات متعددة. وليس المقصود هنا جوهره، بل شكله التلقائي في تطوراته ونضجه.

(7)

بناء البيت ذي الطابق الواحد لا يكلّف كثيرًا على المستوى الاقتصادي، بينما مُراكبة طبقاته تتطلب جهودًا واقتصاديات مختلفة. لا نقول تتطلّب نظريات كونية، إنما تتطلّب الكثير والكثير من استيعاب العالم وتحدّياته المثيرة، لاستيعاب البُعد الرابع في السرد هو الخيال، خيال البنّاء على وجه التحديد، لا سيما بنّاء الرواية، التي زاحمت باقي الأجناس الأدبية في نزوعها إلى التجديد، وخوض الأبعاد الجمالية التي تركها العلم والتكنولوجيا والإلكترونيات، لتكون الرواية مبدئيًا في البُعد الرابع الذي لم تصله الأجناس الأدبية الأخرى في خيالها الذي لا ينتهي، مؤسِّسَة بُعدًا خياليًا يقترب ولا يبتعد عن رؤيا أينشتاين في بعده الزمكاني. وهذه وجهة نظر يتطلبها بناء البيت بطوابقه المتعدّدة، واقعًا وخيالًا، زمانًا ومكانًا.

هوامش:

  • النظرية النسبية: نظرية للعالم الألماني ألبرت أينشتاين. نصّت على أن حركة الأجسام تكون نسبيّة مع تغيُّر الوقت، ومفهوم الوقت لم يعد ثابتًا ومُحدّدًا، وربطت النظريّة النسبيّة بين الزّمان والمكان بحيث تتعامل معهما كشيء واحد يُسمى الزّمكان بعد أن كان يتم التّعامل معهما كشيئين مُختلفَين، وربطت الوقت بسرعة الجسم وحركته، كما أصبحت هناك مفاهيم لتقلُّص وتمدّد الزّمن في الكون.
  • نظرية الأوتار أو النظرية الخيطية:‏ مجموعة من الأفكار الحديثة حول تركيب الكون تستند إلى معادلات رياضية معقدة. تنص على أن الفرميونات مكونة من أوتار حلقية مفتوحة وأخرى مغلقة متناهية في الصغر لا سُمك لها، وهي مليئة بالطاقة تجعلها في حالة من عدم الاستقرار الدائم وفق تواترات مختلفة، وإن هذه الأوتار تتذبذب وتتحدد وفقها طبيعة وخصائص الجسيمات الأكبر منها مثل الكواركات والإلكترونات. أهم نقطة في هذه النظرية أنها تأخذ في الحسبان كافة قوى الطبيعة: الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية، فتوحّدها في قوة واحدة ونظرية واحدة، وتسمى النظرية الفائقة. وتهدف إلى وصف المادة على أنها حالات اهتزاز مختلفة لوتر أساسي.