في قراءةٍ لقصّة "لغة الآي آي" ليوسف إدريس ربما بدا الجواب – للوهلة الأولى– الذي تلقّته الزوجة الأرستقراطية (عفّت) من زوجها العالِم الكبير الدكتور الحديدي، حين سألته بتوحُّش، عن سبب إحضاره فهمي، صديق طفولته المريض بالسرطان، إلى البيت للمبيت معهم فيه، ولو مع الخدم في المطبخ لضيق الشقة الفخمة، ولم يرسله إلى (اللوكاندة) مثلًا؛ فكان ذلك الجواب: "دي الحاجة الوحيدة اللي خرجت بيها من طفولتي"، جوابًا صادقًا لكنه لم يكن كافيًا.
الأرجح أنّ موقف الزوجة المستند إلى موروثها الأرستقراطي هو الأقرب إلى منطق الأمور السائدة. ويبدو أنّ السبب الحقيقي وراء موقف الحديدي هذا، عائدٌ إلى عنصرٍ في موروثه الشعبي بعثه من جديد ظهور رفيق صباه فهمي في حياته؛ فهذا الموروث، أو الثقافة الشعبية، بعبارة أخرى، يشكّل نموذجًا مثاليًّا ينطوي على أنماطٍ متماسكةٍ من السلوك، تتميّز بالمحافظة على التقاليد، وتعتمد – في وشائجها – على عنصر القربى- إن وجدت- والعيش المشترك في البيئة نفسها في جميع الأحوال، وتخضع لضوابط غير رسمية، بل ترتكز على نظامٍ أخلاقيٍّ وقيميٍّ صارمٍ، وتراثٍ غير مكتوبٍ بطبيعة الحال، ملزمٍ؛ ولهذا فإنّ أنماط السلوك لا بدّ أن تكون شديدة التماسك، والأهمّ من هذا، بالغة التكامل. إنّه نموذجٌ يشيع في المجتمعات القروية، المخلصة لتقاليدها، والمتمسّكة بموروثاتها من قبيل ضرورة إكرام الضيف في منزل المضيف وليس إرساله إلى النزل، وبوعيٍ أو بغير وعيٍ فقد أصرّ الحديدي على هذا المبدأ، لكنّ واقعه المدني لم يسمح له بإفساح صدر البيت للضيف... يكفي المطبخ.
كانت منظومة الدكتور الحديدي الثقافية الشعبية قد دُفنت في أعماق نفسه لعشرات السنين، ولكنّ بذرتها ظلّت حيّةً على ما يبدو في أعماق روحه؛ ليظهر فهمي فجأةً ويزيح الغطاء عنها. ثمّة عنصرٌ مهمٌّ في هذه الثقافة يتعلّق بأصول إكرام الضيف، ولم يكن هذا على ما يبدو في الوعي الحاضر للحديدي. إنّ إكرام الضيف، بثقافة أهل الريف بخاصّةٍ، لا يجوز أن يكون بمنأى عن حمى المضيف وأهل بيته... في سكنه. ومن المعيب في هذه الثقافة إرسال الضيف أو السماح له بالذهاب إلى الفندق، والأمثال الشعبية في أرياف المدن العربية تتحدّث بتندُّرٍ عن المضيف الذي نصح ضيفه بالمبيت في الفندق لأنّ ذلك أكثر راحةً له.
كان الحديدي، كما قلنا، قد ابتعد، بل تنكّر لثقافته الشعبية. وحاول جاهدًا أن ينتمي بكلّيته إلى المنظومة المدنية، التي تحكمها التقاليد البرجوازية، التي خضع هو لأنساقها، في حين ظلّت زوجته عفّت تصدر عمّا تبقّى من تقاليد للطبقة الأرستقراطية الآفلة.
صاغ يوسف إدريس رؤيته هنا بمثل هذا النصّ المشبع بثقافة القرية التي وُلد فيها ونشأ على قيمها وصدر - من ثمّ- عن ثقافتها ولا سيّما في العديد من أعماله المسرحية والقصصية بخاصّة، حتى في وصفه لملابس شخوصه، وأدواتهم كما في الحقيبة المدرسية، في بناء المدرسة الذي لم يقوَ الطلاء الجيري على إخفاء مادة بنائه الشعبية من الطين والتبن ولكن الأهمّ: القيم الظاهر منها والخفي.
لا يحضر في ذكريات الحديدي رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات الكبرى، وأحد أهمّ أعلام الكيمياء في بلده، وربما في عصره، مستوى "الراق العلوي" في المجتمع النخبوي الذي تنطلق منه أحداث القصة – في حاضرها الزمني الفني- بعيدًا عن الأحداث الناجزة، في الماضي أي ماضي الينبوع الأول. بل إنّ يوسف إدريس لا يتردّد بوضع قيم الشهامة الإنسانية في الموروث الشعبي في مواجهة القيم المدينية، بورجوازية عليا كانت (كما الأمر بالنسبة إليه) أو من بقايا الأرستقراطية الآفلة لدى الزوجة؛ فهي لا ترى في فهمي، رفيق الصبا لزوجها، أكثر من مصدرٍ للتخلّف بل للتقزّز، فهمي سَميّ ابن الحديدي، الذي أحضره لبيته بعد أن تكفّل بعلاجه في اليوم التالي. لكنّ الأمر غير ذلك بالنسبة لزوجها؛ فإنّ الحطام البشري أمامه ليس جزءًا من ماضيه الشخصي فحسب، بل قطعةً من وجدانه ظلّت تلازمه بالضرورة منذ ترك القرية.
إذ تحضر المروءة في ماضي فهمي، وماضي الحديدي نفسه، المروءة الشعبية التي تسوّغ، في سبيل واجب الشهامة كلّ فعلٍ، حتى السرقة: "- أنت فهمي أبو عنزة؟"، وهنا لم ينتظر السارد، الذي يتذاوت بين الشخصية والكاتب فيتكفّل الحوار بإضاءة موضوع العنزة، بل راح هو يسرد: "العنزة التي سرقها [فهمي] ليشتري لحسين أبو محمود والد منصور الألدغ حقن الدواء 606 التي قيل إنها بخمسين قرشًا وإنها دواؤه الوحيد" (115).
الشهامة إذًا إرثٌ شعبيٌّ غير مقنّنٍ والاسم (أبو محمود) يذكّر بكنية والد الحديدي، تذكيرًا إضافيًّا بضرورة الوفاء من جانب الحديدي.
يضع يوسف إدريس الأنساق الثقافية في حالة مواجهةٍ سافرةٍ؛ فثمّة نسقٌ جمعيٌّ (أي الثقافة الشعبية) وهو النسق الذي كان قد غاص في أعماق الحديدي لصالح النسق الفردي (الثقافة البرجوازية). هذا النسق الأرستقراطي الزائف يبهظه. بل كان يتسبّب في تعاسة الحديدي وأزمته بدون أن يعيها، وقد اكتشف – مع مجيء فهمي – أنّ هذا النسق يسرق عمره: "ولكنك حيٌّ [يعني فهمي]. أنا ميتٌ إنه ليس تلاعبًا بالألفاظ، إنها حقيقة، المقياس الوحيد للحياة أن تشعر بها، وأنا لم أشعر ولا أشعر بها، إنني أقضي حياتي كعملية حسابية دقيقة هدفها الوصول... وحين أصل... لا أُسعد؛ لأنّ أمامي يكون ثمّة وصولٌ آخر". (123)
في هذا الإفضاء يكمن الفرق الجوهري في الأثر الذي تتركه الثقافة البرجوازية لدى أصحابها، والحال الاندماجية التي تحقّقها الثقافة الشعبية. الثقافة البرجوازية عند يوسف إدريس لا تعني أكثر من الفردية (وليست التفرّد) والانقطاع عن الجذور، والسعي وراء الوصول، ليتمخّض هذا السعي المتلاحق عن إحساسٍ بالعبث واللا جدوى. هنا تكمن الأزمة، وهنا يكمن العلاج كذلك.
أمّا الأزمة، مع الواقع البرجوازي؛ فهي أن نجري ونلهث؛ لكي نصل إلى القمّة، كما تُسمّى... كان على الحديدي – حسب إفضاءاته – أن يصعد ويظلّ يصعد؛ ولهذا كان يصادق أو أن ينضمّ إلى مجموعة الأصدقاء لا لكي يستمتع بالصداقة والرفاهية (حسب تعبيره) وإنما على أساس سرعة المجموعة في المساعدة في "الوصول"، لذا لا يلبث أن يهجر المجموعة إلى مجموعة أسرع في سعيها للوصول من المجموعة التي هجرها، ويظلّ سائرًا معها ما داموا يسيرون بنفس السرعة التي يريد؛ حتى إذا شعر أنه بحاجة إلى سرعة أكبر هجر المجموعة وسار بمفرده كي لا يعوقه معوِّق. ولم يتوقّف يومًا كي يواسي متخلّفًا أو يأخذ بيد أعرج أو مريض (كما صنع فهمي في طفولته مع أبي محمود الألدغ) بل أقنع نفسه أنّ الذنب ليس ذنبه إن تخلّف أو مرض أو أنه خُلق أعرج... لم يكن للوصول نهاية. بعد التخرّج العمل، فالدكتوراه، ثمّ الأستاذية، ولكنها تستلزم الانتظار ليهجرها إلى الشركات؛ فالزواج، وانتظر أن تبدأ الحياة – بعد الزواج – مع الأولاد... وها هو يسرع ويسرع وقد أصبح هدفه ليس الوصول إلى أيّ شيء بل الإسراع في ذاته...
وفي الموقف المقابل، هناك فهمي. لقد عانى من الفقر والبؤس. ولكنه لم يختر أن يسير مشوار حياته منفردًا؛ بل كان يعمل مع الناس... يضحكون سويًّا، ويتشاورون في مشاكل العمل ويستمتعون بمشوارهم إلى السوق. يفرحون لعود الفجل إذا أُضيف إلى الأكلة. ليس هدفه، كما يقول الحديدي، الوصول إلى الألف الأولى، فالثانية، فالثالثة إلى أن ينسى الهدف ويتحوّل إلى بخيل فقير مقتِّر هدفه جمع المال ليس إلا...
أمّا "شلّة" فهمي؛ فلا أحد منها يأكل بمفرده؛ إذ الطعام ليس أن تجوع وتملأ بطنك، الأكل عندهم أن يحلّ موعد الطعام ويلتفّوا حوله في ترحيب، ويتعازموا ويهزروا ويحسّوا أنهم يقومون باحتفال إنساني صغير. إنهم يفعلون هذا دون إدراك ولكنهم بهذه الأشياء الصغيرة الكثيرة المتناثرة في طريق حياتهم يمتلئ كلّ منهم بإحساس يومي متجدّد: أنه حيّ وأنّ الحياة مهما صعبت حلوة (123) في الثقافة الشعبية، بل قل في النمط الذي يتوق إليه الحديدي حياة متجدّدة، ما دامت مرتبطة بالجذور وتستقي باستمرار من النبع الأصلي. لكنّ النبع الطارئ يجعل أقلّ الإشارات وأدقّ الاعتبارات تبعث على التوتّر والتوجّس، وها هو الحديدي، بكلّ ما حقّقه من إنجاز ومكانة، يصيبه الذعر لأمر صغير: أن يشكّ بوّاب أو ساعٍ أنّ فهمي أخ أو قريب له. إنه إحساس برجوازي بامتياز: ألّا يُخدش الوضع الاجتماعي "المكتسب" حتى لو من أقلّ الناس شأنًا اجتماعيًّا بطبيعة الحال. ومن هنا جاء انخلاعه عن جذوره بل عن ثقافته الأولى حرصًا منه على خصوصيته الفردية، وهي الفردية التي طالما اتّسم بها النمط البرجوازي الذي يجعل الواحد منّا لا يعرف اسم صاحب الشقة المقابلة لشقته حتى لو تجاور الطرفان عشرات السنين: كان قد اتّخذ قراره منذ زمن بعيد وكفّ عن مساعدتهم وتوظيفهم والتدخّل في شؤونهم لقضاء المصالح. إنّ أهل بلده هؤلاء لا يكاد يبرز بينهم واحد حتى يتسابقوا إلى جذبه إلى أسفل وإغراقه في حلّ مشاكلهم. مشاكل لو تفرّغ لها لاحتاج لأضعاف عمره، فلا يوجد إنسان إلا وله مشكلة حادّة ملحّة تتطلّب الحلّ وتستحثّه، ومائة ألف نسمة في "زينين" وما حولها بمائة ألف مشكلة. بقرار حاسم باتر منه [قرّر] أن تبقى له حياته الخاصة ومشاريعه وطموحه وأن ينفض عن نفسه هذه الأيدي الكثيرة التي تريد إنزاله وجرّه إلى حيث هم (112) وهكذا بتعالي الثقافة البرجوازية، في وجهها الأناني؛ يتّهم الثقافة الشعبية بأنها لا تطيق رؤية البارز العالي، ولا يستريح أهلها حتى "يبرك" مثلهم ويعجز.
وكان ليوسف إدريس في تخطّي بطله مأزقه القيمي هذا، أدواتُه، ولعلّ الأبرز الأنجع فيها: اللغة، ولغة الحوار بخاصّة.
اللغة والانتماء
ثمّة مؤشّرات دلاليّة متعدّدة للغة الحوار في هذه القصّة؛ إنسانيّ عامّ في صرخات الآي أي والمفردات غير المفهومة التي نحتها إدريس لمحاكاة حالة الألم، ومستوى بمحمول برجوازي، كما الأمر في حوار الحديدي مع غير فهمي، ومستوى ينطلق من موقف أرستقراطي بدا متوحّشًا – حسب تعبير السّارد – وهو خاصّ بالزوجة صاحبة الاسم ذي الصيغة غير العربية (عفت) ومستوى محلّي نابع من ثقافة شعبيّة وجذور تضرب في أعماق الأرض المصريّة: ما ينطق به فهمي: "يا بوي... موجوعة تأتي للحديدي بالضبط على الوجع، يا بوي... إنّها ليست من لغة الحياة، ولكنّها من لغة الأعماق والأي أي... إنّه يحسب أنّها تعبّر عن وجعه هو" (121).
وبالإضافة إلى اللغة؛ فإنّ تشكيل المنظومة الفنّيّة والفكريّة للقصّة إنّما يرتكز على إبراز أزمة هويّة الانتماء هذه؛ بل قل التوزّع بين الجذور الشعبيّة والسطح البرجوازي. ومن المناسب هنا أن نستبعد من سياقنا هنا على الأقلّ تلك المعالجة النقديّة التي تلخّص مرتكزات القراءة التي تقوم على ثنائيّة مسطّحة بالمقابلة بين الألم الجسمي لدى فهمي، والألم النفسي لدى الحديدي؛ فإنّ الدلالات والإشعاعات تصل إلى آفاق أبعد كثيرًا.
إنّ أزمة الحديدي إذا افترضنا أنّها قامت على ثنائيّة؛ فهي الثنائيّة الثقافيّة؛ أزمة اغتراب حضاري داخل الوطن إن شئت. وقد وجد الحديدي الحلّ بالعودة إلى الينبوع الأوّل: القرية؛ صحيح أنّه حلّ بائس يائس، بمعنى أنّ فهمي الذي اختار أن يمضي معه بقيّة عمره أنّى حلّ، على وشك الموت، ولكنّه الحلّ الوحيد الذي يستعيد أهمّ أمر في الوجود بالنسبة لأيّ شخص، أي حياته: وأحسّ براحة باهتة وبالأصوات تصل إلى مكان سحيق داخلي فيه وتنعشه في رقّة وعذوبة... ...وتشبّثت عفت بزوجها سائلة إيّاه عمّا يفعله بنفسه وإلى أين هو ذاهب، وابتسم لها وأضاء وجهه لم تتعوّد بالابتسامة وقال: رائح في طريق تأتي صعب شديد... تيجي معايا؟ - أنا ما رحت ويّاك بالشكل ده... أنت أحسنت؟... لقد عاش في الحيّ سنين مرعوبًا أن يكتشف أحد أصله وفصله، وتبدو للأعين النائمة شعرة واحدة تكشف عن الجذور والسيقان التي يمتّ إليها... ولا ريب في أنّ كثيرين من سكّان الحيّ كانوا يفعلون مثله.
والمداخل حافلة بكثير من الجثث... وهو الآن يستعجل اللحظات التي يغادر فيها الحيّ... وقد أصبحت الرائحة لا تطاق. (128)
ومرّة أخرى تستيقظ نوازع الجذور الأصليّة لتنهش في أعماق شخصيّة مثقّفة أخرى في أدب يوسف إدريس، شخصيّة العميد في قصّة "حالة تلبّس" ومرّة أخرى تصوغ هذه الجذور رؤية إدريس بل تشكّل بناء عمله ضمن مواجهة ساخنة، وتكاد تكون مصيريّة بين ما هو شعبيّ إنسانيّ لا يعترف، وما هو نخبويّ لا يتعاطى إلّا بالعقل البارد والمشاعر المقنّنة بقوانين هذا العقل وبالدور الذي يرسمه لها.
"حينما ضبط المنظر لم يكن عميد الكلّيّة هو الذي غضب والتهبت الدماء في عروقه، ولكنّه الطفل الذي وُلد وتربّى في سوهاج. ومنذ أن بدأ يعي فهم أنّه [التدخين] قد يكون مباحًا للرجل وعيبًا للشباب، ومحرّمًا تحريمًا قاطعًا على الأطفال، ولكنّه للنساء جريمة" (129).
ليست الثقافة الشعبيّة هنا غريزة بدائيّة بل موقف قيمي. هنا في هذه الواقعة تحديدًا يضع إدريس مفردات هذه الثقافة بمواجهة الثقافة البرجوازيّة، أو ثقافة النخبة التي تقف، زمن أحداث القصّة في الستّينيّات من القرن الماضي، موقفًا أقلّ تشدّدًا من قضيّة المرأة والتدخين مثلًا، ولو أنّه الموقف ذاته، من الناحية الجوهريّة، فالاختلاف اختلاف درجة وليس اختلافًا في النوع.
ولكنّ هذا الاختلاف في الدرجة إيجابيّات يسهل معها جعل الحياة أكثر اتّساقًا في القيمة البرجوازيّة هنا. وهذه القيمة هي التي تدرك أهمّيّة "قشرة العقل المكتسبة" التي تعيد الأمور إلى سياقها الحضاري السليم. وفي "حالة تلبّس" يغوص بنا إدريس إلى أوضاع متشابكة تجعل المسألة إشكاليّة لا حلّ نهائيًّا لها إلّا بالجور على هذا الجانب أو ذاك من التكوين الوجداني للشخصيّة التي يتوزّعها أكثر من واقع، ويتجاذبها أكثر من قيمة اجتماعيّة. لذا؛ فإنّ إدريس يضع شخصيّته (ولا أقول بطله فهذا أنسب لأناس الرواية) ضمن منظومة من التجاذبات.
التجاذب الأوّل حين يجد العميد نفسه عالقًا بوعيه وكامل إدراكه في مستنقع ازدواجيّة المعايير لا تجاه واقعة تدخين الفتاة فحسب بل تجاه ما هو أكبر منها: التعامل مع المرأة؛ فالتدخين مثلًا مباح للشابّ ولكنّه جريمة للفتاة، وهو معيار مطبّق حتّى في الحرم الجامعي، قدس أقداس الحرّيّة والمساواة في بلد كان يعيش أزهى مراحل التنوير. وضمن مراجعة أشبه بعمليّة الإجهاض النفسي والعاطفي يتوصّل العميد إلى تصوّر، ولكن ليس إلى حلّ يركن إليه؛ لأنّ الحلّ يأتي متّسقًا مع هذا التحالف الجائر – تجاه المرأة – بين معطيات الثقافتين الشعبيّة والبرجوازيّة.
أمّا التجاذب الثاني فيأخذ تجلّياته من خلال ما بات يُدعى بقضيّة الدور الاجتماعي في علم النفس الاجتماعي. معنى أنّ للعميد وضعه الاجتماعي المستمدّ من دوره الوظيفي، وهو وضع يقتضي منه الالتزام باستحقاقات دوره عميدًا، إنّها معارك "الدور" التي نضطرّ لخوضها. وغالبًا ما تكون النتيجة التنازل عن جزء من قناعاتنا، بل من اندماجنا وإحساسنا بالحياة على النمط الذي يتمتّع به من هم متحرّرون من سلطة هذا الدور. ويقول علم النفس الاجتماعي إنّ هذه السلطة تتعاظم مع المبتدئين في تقمّص هذا الدور حرصًا على المكاسب أو المكانة التي يحقّقها؛ فطبيب الامتياز مثلًا يحرص على أن تكون سمّاعته ظاهرة واضحة لكلّ ذي عينين إعلانًا مشروعًا منه عن دوره المستحدث. لكنّ المفروض إن مضت عليه فترة أطول أن يتخفّف من علامة الدور ومظهره مع الأيّام... بيد أنّ الحديدي حرص على التمسّك بمقتضيات الدور إلى أن قاده هذا التمسّك إلى الطور الثالث من التجاذبات التي عاشها، وفي هذا التجاذب بالتحديد تكمن أزمته، بل ربّما مأساته.
في هذا الطور عانى العميد – كالحديدي في لغة الآي أي – من مآزق الوقوع بين الرتابة والنمط المتكرّر للحياة والسعي إلى نمط من العيش أكثر انفعالًا مع معطيات الحياة ومباهجها الحسّيّة تحديدًا. إنّ ثمن هذا يتطلّب بكلّ بساطة التخلّي عن ثقافته النخبويّة وأدبيّاتها التي تجمع، للمفارقة، بين الثقافة التقليديّة المتوارثة من جهة، والثقافة النخبويّة، لما فيها مقتضيات دوره عميدًا:
"ولماذا الحرس والساعي والتأنيب والفصل؟ ألا أنّها تدخّن وسنّها سبعة عشر عامًا ولكنّها طالبة؟ وما الفرق بين أن تدخّن وهي طالبة وتدخّن وهي خرّيجة وكلّه تدخين في تدخين؟ ولماذا نحرّمه على جسد شابّ فائر ونحلّله لسيّدة أو عجوز تسعل وتكحّ كلّما جذبت نفسًا؟ أليس هو قائل نفس المبادئ وهو في العشرين والثلاثين حين كان في بعثته يرى أنّ مشكلة مجتمعه الأساسيّة أنّ أفراده يحيون في عصر بتقاليد قرون مظلمة مضت، وأنّ بلاده لا يمكن أن تصل إلى أيّ تقدّم علمي أو صناعي أو حضاري إلّا إذا تمّ التحرّر وعاش الناس بتقاليد عصرهم نفسه وقيمه وأنواع حرّيّاته...؟ بإعطاء أفراده حتّى حرّيّة الخطأ وألّا نمنعهم بالنصح والزجر عن خوض التجارب ونورّثهم صوابنا نحن وخطأنا بل نتركهم لكي يستخلصوا هم من تجاربهم ما يرون أنّه الصواب وما يرون أنّه الخطأ" (34).
وكأنّ يوسف إدريس يدين تواطؤ الثقافات المجتمعيّة كلّها: الشعبيّة، والبرجوازيّة، وربّما الأرستقراطيّة ضمنًا على حقوق الجيل الصاعد؛ فكلّها، في مجتمعنا الشرقي تصادر حقوقه الطبيعيّة في المساواة وحرّيّة الاختيار حسب قناعاته، بل يسعى الجيل الأكبر لأن يقولب هذا الجيل، بحيث يأخذ الكبار حقّه هو وحقوق من يأتي بعدهم.
وهكذا فإنّ الرؤية في "حالة تلبّس" تتشكّل بمنظومة فنّيّة وفكريّة بما يختلف قليلًا عن منظومة "لغة الآي أي". ففي هذه القصّة تنتصر الرؤية للثقافة الشعبيّة وتجد في أحضانها الملاذ الآمن والخلاص النهائي، في حين تنتهي الرؤية في "حالة تلبّس" إلى واقع إشكالي يمزّق قناعات الشخصيّة وينتهي بها إلى الاستسلام لهذا "الكوكتيل الثقافي" – إن جاز القول – يفرض على العميد متطلّباته، بدون قناعة من هذا الأخير، وبدون رفض، أو بكلمة أدقّ، بدون قدرة على الرفض؛ فتأتي النهاية بمنطق كلاسيكي بائس يملي على العميد استحقاقات الدور، ولا شيء غيرها، حتّى لو كان إنسانيّته نفسها التي لا تملك سوى أن تتشيّأ: "وبأصبع عادت إليها كلّ عصبيّتها، وكأنّها تمتدّ من صدر ضاق الدنيا ضغط على الجرس [لضبط الطالبة التي تدخّن]... ولكنّ إصبعه كانت لا تزال بها بقيّة من ارتعاش، ارتعاش ليس الكبر أو الضغط سببه" (136).
في هذه القصّة تحديدًا ينجز إدريس حدثًا صغيرًا (ضبط الفتاة وهي تدخّن) يستطيع أن يجعله أساسًا لكلّ عناصر القصّة؛ فيضبط من خلاله "الأحداث" وردود الفعل بينه وبين الطالبة، ويجعله إطارًا زمنيًّا يستحضر من خلاله حاضر العميد وماضيه، ومستقبله أيضًا، ناهيك عن واقعه النفسي والوجداني والعائلي والقيمي بطبيعة الحال. بضع دقائق هي الزمن الأساسي للقصّة يحكمها تناول السيجارة يكشف فيها إدريس آفاقًا اجتماعيّة يستحضر فيها، سواء بالحدث، أم بالرؤية، كلّ ما يتجاذب المجتمع من قيم ثقافيّة واتّجاهات فكريّة ونوازع نفسيّة وبضبط إيقاع الحياة في هذا المجتمع من أنساق اجتماعيّة وأطر محلّيّة وآفاق إنسانيّة.
مؤشرات دالة
وبعد؛ لعلّ من الأوفق أن نقف الآن عند بعض المؤشّرات الدالّة:
أوّلًا: بات من المعروف أنّ أدب يوسف إدريس ينشغل، في المقام الأوّل، بالقضايا الكبرى للوجود الإنسانيّ. ما يهمّنا في هذه المقالة هو هذا الاشتباك المركّب والنبيل بين معطيات القيم البرجوازيّة وما يتجذّر في أعماق أبطاله من ترسّبات تستمدّ مادّتها من طين مرجعيّته الوجدانيّة في الينبوع الأوّل، أي من الريف المصري، أي المكوّن الثقافي الشعبي والأصيل إن شئت. ولهذا المكوّن عروقه التي تمور بدم الحياة في كلّ ما قرأت من أعماله، بل إنّ تجذّر هذا المكوّن في بيئة شخصيّاته أنّى حلّوا هو الذي يطرح الأزمة ويصنع من ثمّ الحدث القصصي، سواء كانت البيئة الريفيّة الأصليّة كما في "حادثة شرف" مثلًا أو في بيئة المجتمع البرجوازي المدنيّة (كما في الفصلين موضع التناول في هذه المقالة)، أو حتّى يكون أبطاله في بيئة الآخر، جغرافيًّا وحضاريًّا، حين تعيش شخصيّاته، أو تعاني من غربتها واغترابها.
ثانيًا: إنّ الصراع هو الأساس الدرامي لأيّ عمل سردي؛ والمعروف أنّ الصراع النفسي (الداخلي) يُبهظ الشخصيّة بأشدّ ممّا يُبهظها أيّ شكل آخر للصراع، وبخاصّة إذا ما ارتكز هذا الصراع على القيم. والصراع في العملين موضع التناول صراع قيم بامتياز؛ قيم الثقافة الشعبيّة بمواجهة الثقافة الفرديّة، أو البرجوازيّة، أو إن شئت الثقافة النخبويّة. هذا الصراع يتّسم بضخامة "الحدث النفسي" مقارنة بالفعل الخارجي، بل إنّ قصّة حالة تلبّس، هي حكاية حدث نفسي أوّلًا وأخيرًا، بحيث جاءت خالية تمامًا من أيّ شكل من أشكال الحوار الخارجي (الديالوج).
ثالثًا: جاءت المواجهة بين الثقافتين في كلّ من العملين جدليّة إشكاليّة. فلم نتبيّن انحيازًا سافرًا بل قل خالصًا – بدون قيد أو شرط – لواقع ما تمليه إحدى المنظومتين، ولكن في قصّة أخرى: "حادثة شرف" مثلًا تطالعنا إدانة كاملة للثقافة التقليديّة ضدّ المرأة، في حين تتلقّى الإدانة الثقافيّة المقابلة ولا سيّما حين يغدو الفرد فيها مجرّد ترس في طاحونة تسلبه الجزء الأكبر من إحساسه الإنساني، وتأتي على كلّ مباهج الحياة وتحرمه من الانفعال الإيجابي بالشعور بأنّ العيش الحقّ لا يتحقّق إلّا بالانخراط مع الجماعة البشريّة مع ما يستتبعها من موجودات ملحقة بالوجود الإنساني.
رابعًا: إنّ اختيارنا لهذين النموذجين القصصيّين لا يعني في حال من الأحوال أنّ "الصدام القيمي" عند يوسف إدريس يقتصر على فنّ القصّة القصيرة فحسب، فها هو هذا الصدام يحضر في رواية "العيب" مثلًا حين تنهار المنظومة الثقافيّة الشعبيّة القيميّة بأجمعها إذا ما استسلم عنصر فيها لمغريات الكسب المادّي على حساب المبدأ الذي ينشأ عليه عضو الجماعة، ولا سيّما إذا كان امرأة لا تلتزم بجزء من المنظومة وتترك آخر فإمّا الالتزام بكلّ معاني الشرف وإمّا الطلاق البائن معها كلّها. أمّا الفلّاح في مسرحيّة "ملك القطن" فإنّ القيمة الأوسع في الثقافة الشعبيّة هي الانتماء للأرض، وهو انتماء يتعالى حتّى على حقّ الملكيّة؛ فليس شرطًا أن تمتلك القطن حتّى تنتمي إليه، يكفي أن تزرعه وتعتني به حتّى لو جناه غيرك.
خامسًا: لقد استقرّ مفهومنا للثقافة الشعبيّة على أنّها من مكوّنين رئيسين؛ الفولكلور الشعبي وتجلّياته الشفاهيّة في المقام الأوّل، والعادات والتقاليد والقيم الكامنة في أعماق النفس البشريّة، وواضح هنا أنّ المكوّن الأساسي الثاني لثقافة الينبوع الأوّل في أدب يوسف إدريس يمكن أن يفتح آفاقًا للدرس النقدي والتحليل الاجتماعي للأدب، وضمن أكثر من منهج، وما هذه المقالة سوى تحليل وصفي يطرق طرقًا خفيفًا هذا الباب في أدب هذا الرائد الكبير.
الأرجح أنّ موقف الزوجة المستند إلى موروثها الأرستقراطي هو الأقرب إلى منطق الأمور السائدة. ويبدو أنّ السبب الحقيقي وراء موقف الحديدي هذا، عائدٌ إلى عنصرٍ في موروثه الشعبي بعثه من جديد ظهور رفيق صباه فهمي في حياته؛ فهذا الموروث، أو الثقافة الشعبية، بعبارة أخرى، يشكّل نموذجًا مثاليًّا ينطوي على أنماطٍ متماسكةٍ من السلوك، تتميّز بالمحافظة على التقاليد، وتعتمد – في وشائجها – على عنصر القربى- إن وجدت- والعيش المشترك في البيئة نفسها في جميع الأحوال، وتخضع لضوابط غير رسمية، بل ترتكز على نظامٍ أخلاقيٍّ وقيميٍّ صارمٍ، وتراثٍ غير مكتوبٍ بطبيعة الحال، ملزمٍ؛ ولهذا فإنّ أنماط السلوك لا بدّ أن تكون شديدة التماسك، والأهمّ من هذا، بالغة التكامل. إنّه نموذجٌ يشيع في المجتمعات القروية، المخلصة لتقاليدها، والمتمسّكة بموروثاتها من قبيل ضرورة إكرام الضيف في منزل المضيف وليس إرساله إلى النزل، وبوعيٍ أو بغير وعيٍ فقد أصرّ الحديدي على هذا المبدأ، لكنّ واقعه المدني لم يسمح له بإفساح صدر البيت للضيف... يكفي المطبخ.
كانت منظومة الدكتور الحديدي الثقافية الشعبية قد دُفنت في أعماق نفسه لعشرات السنين، ولكنّ بذرتها ظلّت حيّةً على ما يبدو في أعماق روحه؛ ليظهر فهمي فجأةً ويزيح الغطاء عنها. ثمّة عنصرٌ مهمٌّ في هذه الثقافة يتعلّق بأصول إكرام الضيف، ولم يكن هذا على ما يبدو في الوعي الحاضر للحديدي. إنّ إكرام الضيف، بثقافة أهل الريف بخاصّةٍ، لا يجوز أن يكون بمنأى عن حمى المضيف وأهل بيته... في سكنه. ومن المعيب في هذه الثقافة إرسال الضيف أو السماح له بالذهاب إلى الفندق، والأمثال الشعبية في أرياف المدن العربية تتحدّث بتندُّرٍ عن المضيف الذي نصح ضيفه بالمبيت في الفندق لأنّ ذلك أكثر راحةً له.
كان الحديدي، كما قلنا، قد ابتعد، بل تنكّر لثقافته الشعبية. وحاول جاهدًا أن ينتمي بكلّيته إلى المنظومة المدنية، التي تحكمها التقاليد البرجوازية، التي خضع هو لأنساقها، في حين ظلّت زوجته عفّت تصدر عمّا تبقّى من تقاليد للطبقة الأرستقراطية الآفلة.
صاغ يوسف إدريس رؤيته هنا بمثل هذا النصّ المشبع بثقافة القرية التي وُلد فيها ونشأ على قيمها وصدر - من ثمّ- عن ثقافتها ولا سيّما في العديد من أعماله المسرحية والقصصية بخاصّة، حتى في وصفه لملابس شخوصه، وأدواتهم كما في الحقيبة المدرسية، في بناء المدرسة الذي لم يقوَ الطلاء الجيري على إخفاء مادة بنائه الشعبية من الطين والتبن ولكن الأهمّ: القيم الظاهر منها والخفي.
لا يحضر في ذكريات الحديدي رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات الكبرى، وأحد أهمّ أعلام الكيمياء في بلده، وربما في عصره، مستوى "الراق العلوي" في المجتمع النخبوي الذي تنطلق منه أحداث القصة – في حاضرها الزمني الفني- بعيدًا عن الأحداث الناجزة، في الماضي أي ماضي الينبوع الأول. بل إنّ يوسف إدريس لا يتردّد بوضع قيم الشهامة الإنسانية في الموروث الشعبي في مواجهة القيم المدينية، بورجوازية عليا كانت (كما الأمر بالنسبة إليه) أو من بقايا الأرستقراطية الآفلة لدى الزوجة؛ فهي لا ترى في فهمي، رفيق الصبا لزوجها، أكثر من مصدرٍ للتخلّف بل للتقزّز، فهمي سَميّ ابن الحديدي، الذي أحضره لبيته بعد أن تكفّل بعلاجه في اليوم التالي. لكنّ الأمر غير ذلك بالنسبة لزوجها؛ فإنّ الحطام البشري أمامه ليس جزءًا من ماضيه الشخصي فحسب، بل قطعةً من وجدانه ظلّت تلازمه بالضرورة منذ ترك القرية.
إذ تحضر المروءة في ماضي فهمي، وماضي الحديدي نفسه، المروءة الشعبية التي تسوّغ، في سبيل واجب الشهامة كلّ فعلٍ، حتى السرقة: "- أنت فهمي أبو عنزة؟"، وهنا لم ينتظر السارد، الذي يتذاوت بين الشخصية والكاتب فيتكفّل الحوار بإضاءة موضوع العنزة، بل راح هو يسرد: "العنزة التي سرقها [فهمي] ليشتري لحسين أبو محمود والد منصور الألدغ حقن الدواء 606 التي قيل إنها بخمسين قرشًا وإنها دواؤه الوحيد" (115).
الشهامة إذًا إرثٌ شعبيٌّ غير مقنّنٍ والاسم (أبو محمود) يذكّر بكنية والد الحديدي، تذكيرًا إضافيًّا بضرورة الوفاء من جانب الحديدي.
يضع يوسف إدريس الأنساق الثقافية في حالة مواجهةٍ سافرةٍ؛ فثمّة نسقٌ جمعيٌّ (أي الثقافة الشعبية) وهو النسق الذي كان قد غاص في أعماق الحديدي لصالح النسق الفردي (الثقافة البرجوازية). هذا النسق الأرستقراطي الزائف يبهظه. بل كان يتسبّب في تعاسة الحديدي وأزمته بدون أن يعيها، وقد اكتشف – مع مجيء فهمي – أنّ هذا النسق يسرق عمره: "ولكنك حيٌّ [يعني فهمي]. أنا ميتٌ إنه ليس تلاعبًا بالألفاظ، إنها حقيقة، المقياس الوحيد للحياة أن تشعر بها، وأنا لم أشعر ولا أشعر بها، إنني أقضي حياتي كعملية حسابية دقيقة هدفها الوصول... وحين أصل... لا أُسعد؛ لأنّ أمامي يكون ثمّة وصولٌ آخر". (123)
في هذا الإفضاء يكمن الفرق الجوهري في الأثر الذي تتركه الثقافة البرجوازية لدى أصحابها، والحال الاندماجية التي تحقّقها الثقافة الشعبية. الثقافة البرجوازية عند يوسف إدريس لا تعني أكثر من الفردية (وليست التفرّد) والانقطاع عن الجذور، والسعي وراء الوصول، ليتمخّض هذا السعي المتلاحق عن إحساسٍ بالعبث واللا جدوى. هنا تكمن الأزمة، وهنا يكمن العلاج كذلك.
أمّا الأزمة، مع الواقع البرجوازي؛ فهي أن نجري ونلهث؛ لكي نصل إلى القمّة، كما تُسمّى... كان على الحديدي – حسب إفضاءاته – أن يصعد ويظلّ يصعد؛ ولهذا كان يصادق أو أن ينضمّ إلى مجموعة الأصدقاء لا لكي يستمتع بالصداقة والرفاهية (حسب تعبيره) وإنما على أساس سرعة المجموعة في المساعدة في "الوصول"، لذا لا يلبث أن يهجر المجموعة إلى مجموعة أسرع في سعيها للوصول من المجموعة التي هجرها، ويظلّ سائرًا معها ما داموا يسيرون بنفس السرعة التي يريد؛ حتى إذا شعر أنه بحاجة إلى سرعة أكبر هجر المجموعة وسار بمفرده كي لا يعوقه معوِّق. ولم يتوقّف يومًا كي يواسي متخلّفًا أو يأخذ بيد أعرج أو مريض (كما صنع فهمي في طفولته مع أبي محمود الألدغ) بل أقنع نفسه أنّ الذنب ليس ذنبه إن تخلّف أو مرض أو أنه خُلق أعرج... لم يكن للوصول نهاية. بعد التخرّج العمل، فالدكتوراه، ثمّ الأستاذية، ولكنها تستلزم الانتظار ليهجرها إلى الشركات؛ فالزواج، وانتظر أن تبدأ الحياة – بعد الزواج – مع الأولاد... وها هو يسرع ويسرع وقد أصبح هدفه ليس الوصول إلى أيّ شيء بل الإسراع في ذاته...
وفي الموقف المقابل، هناك فهمي. لقد عانى من الفقر والبؤس. ولكنه لم يختر أن يسير مشوار حياته منفردًا؛ بل كان يعمل مع الناس... يضحكون سويًّا، ويتشاورون في مشاكل العمل ويستمتعون بمشوارهم إلى السوق. يفرحون لعود الفجل إذا أُضيف إلى الأكلة. ليس هدفه، كما يقول الحديدي، الوصول إلى الألف الأولى، فالثانية، فالثالثة إلى أن ينسى الهدف ويتحوّل إلى بخيل فقير مقتِّر هدفه جمع المال ليس إلا...
أمّا "شلّة" فهمي؛ فلا أحد منها يأكل بمفرده؛ إذ الطعام ليس أن تجوع وتملأ بطنك، الأكل عندهم أن يحلّ موعد الطعام ويلتفّوا حوله في ترحيب، ويتعازموا ويهزروا ويحسّوا أنهم يقومون باحتفال إنساني صغير. إنهم يفعلون هذا دون إدراك ولكنهم بهذه الأشياء الصغيرة الكثيرة المتناثرة في طريق حياتهم يمتلئ كلّ منهم بإحساس يومي متجدّد: أنه حيّ وأنّ الحياة مهما صعبت حلوة (123) في الثقافة الشعبية، بل قل في النمط الذي يتوق إليه الحديدي حياة متجدّدة، ما دامت مرتبطة بالجذور وتستقي باستمرار من النبع الأصلي. لكنّ النبع الطارئ يجعل أقلّ الإشارات وأدقّ الاعتبارات تبعث على التوتّر والتوجّس، وها هو الحديدي، بكلّ ما حقّقه من إنجاز ومكانة، يصيبه الذعر لأمر صغير: أن يشكّ بوّاب أو ساعٍ أنّ فهمي أخ أو قريب له. إنه إحساس برجوازي بامتياز: ألّا يُخدش الوضع الاجتماعي "المكتسب" حتى لو من أقلّ الناس شأنًا اجتماعيًّا بطبيعة الحال. ومن هنا جاء انخلاعه عن جذوره بل عن ثقافته الأولى حرصًا منه على خصوصيته الفردية، وهي الفردية التي طالما اتّسم بها النمط البرجوازي الذي يجعل الواحد منّا لا يعرف اسم صاحب الشقة المقابلة لشقته حتى لو تجاور الطرفان عشرات السنين: كان قد اتّخذ قراره منذ زمن بعيد وكفّ عن مساعدتهم وتوظيفهم والتدخّل في شؤونهم لقضاء المصالح. إنّ أهل بلده هؤلاء لا يكاد يبرز بينهم واحد حتى يتسابقوا إلى جذبه إلى أسفل وإغراقه في حلّ مشاكلهم. مشاكل لو تفرّغ لها لاحتاج لأضعاف عمره، فلا يوجد إنسان إلا وله مشكلة حادّة ملحّة تتطلّب الحلّ وتستحثّه، ومائة ألف نسمة في "زينين" وما حولها بمائة ألف مشكلة. بقرار حاسم باتر منه [قرّر] أن تبقى له حياته الخاصة ومشاريعه وطموحه وأن ينفض عن نفسه هذه الأيدي الكثيرة التي تريد إنزاله وجرّه إلى حيث هم (112) وهكذا بتعالي الثقافة البرجوازية، في وجهها الأناني؛ يتّهم الثقافة الشعبية بأنها لا تطيق رؤية البارز العالي، ولا يستريح أهلها حتى "يبرك" مثلهم ويعجز.
وكان ليوسف إدريس في تخطّي بطله مأزقه القيمي هذا، أدواتُه، ولعلّ الأبرز الأنجع فيها: اللغة، ولغة الحوار بخاصّة.
اللغة والانتماء
ثمّة مؤشّرات دلاليّة متعدّدة للغة الحوار في هذه القصّة؛ إنسانيّ عامّ في صرخات الآي أي والمفردات غير المفهومة التي نحتها إدريس لمحاكاة حالة الألم، ومستوى بمحمول برجوازي، كما الأمر في حوار الحديدي مع غير فهمي، ومستوى ينطلق من موقف أرستقراطي بدا متوحّشًا – حسب تعبير السّارد – وهو خاصّ بالزوجة صاحبة الاسم ذي الصيغة غير العربية (عفت) ومستوى محلّي نابع من ثقافة شعبيّة وجذور تضرب في أعماق الأرض المصريّة: ما ينطق به فهمي: "يا بوي... موجوعة تأتي للحديدي بالضبط على الوجع، يا بوي... إنّها ليست من لغة الحياة، ولكنّها من لغة الأعماق والأي أي... إنّه يحسب أنّها تعبّر عن وجعه هو" (121).
وبالإضافة إلى اللغة؛ فإنّ تشكيل المنظومة الفنّيّة والفكريّة للقصّة إنّما يرتكز على إبراز أزمة هويّة الانتماء هذه؛ بل قل التوزّع بين الجذور الشعبيّة والسطح البرجوازي. ومن المناسب هنا أن نستبعد من سياقنا هنا على الأقلّ تلك المعالجة النقديّة التي تلخّص مرتكزات القراءة التي تقوم على ثنائيّة مسطّحة بالمقابلة بين الألم الجسمي لدى فهمي، والألم النفسي لدى الحديدي؛ فإنّ الدلالات والإشعاعات تصل إلى آفاق أبعد كثيرًا.
إنّ أزمة الحديدي إذا افترضنا أنّها قامت على ثنائيّة؛ فهي الثنائيّة الثقافيّة؛ أزمة اغتراب حضاري داخل الوطن إن شئت. وقد وجد الحديدي الحلّ بالعودة إلى الينبوع الأوّل: القرية؛ صحيح أنّه حلّ بائس يائس، بمعنى أنّ فهمي الذي اختار أن يمضي معه بقيّة عمره أنّى حلّ، على وشك الموت، ولكنّه الحلّ الوحيد الذي يستعيد أهمّ أمر في الوجود بالنسبة لأيّ شخص، أي حياته: وأحسّ براحة باهتة وبالأصوات تصل إلى مكان سحيق داخلي فيه وتنعشه في رقّة وعذوبة... ...وتشبّثت عفت بزوجها سائلة إيّاه عمّا يفعله بنفسه وإلى أين هو ذاهب، وابتسم لها وأضاء وجهه لم تتعوّد بالابتسامة وقال: رائح في طريق تأتي صعب شديد... تيجي معايا؟ - أنا ما رحت ويّاك بالشكل ده... أنت أحسنت؟... لقد عاش في الحيّ سنين مرعوبًا أن يكتشف أحد أصله وفصله، وتبدو للأعين النائمة شعرة واحدة تكشف عن الجذور والسيقان التي يمتّ إليها... ولا ريب في أنّ كثيرين من سكّان الحيّ كانوا يفعلون مثله.
والمداخل حافلة بكثير من الجثث... وهو الآن يستعجل اللحظات التي يغادر فيها الحيّ... وقد أصبحت الرائحة لا تطاق. (128)
ومرّة أخرى تستيقظ نوازع الجذور الأصليّة لتنهش في أعماق شخصيّة مثقّفة أخرى في أدب يوسف إدريس، شخصيّة العميد في قصّة "حالة تلبّس" ومرّة أخرى تصوغ هذه الجذور رؤية إدريس بل تشكّل بناء عمله ضمن مواجهة ساخنة، وتكاد تكون مصيريّة بين ما هو شعبيّ إنسانيّ لا يعترف، وما هو نخبويّ لا يتعاطى إلّا بالعقل البارد والمشاعر المقنّنة بقوانين هذا العقل وبالدور الذي يرسمه لها.
"حينما ضبط المنظر لم يكن عميد الكلّيّة هو الذي غضب والتهبت الدماء في عروقه، ولكنّه الطفل الذي وُلد وتربّى في سوهاج. ومنذ أن بدأ يعي فهم أنّه [التدخين] قد يكون مباحًا للرجل وعيبًا للشباب، ومحرّمًا تحريمًا قاطعًا على الأطفال، ولكنّه للنساء جريمة" (129).
ليست الثقافة الشعبيّة هنا غريزة بدائيّة بل موقف قيمي. هنا في هذه الواقعة تحديدًا يضع إدريس مفردات هذه الثقافة بمواجهة الثقافة البرجوازيّة، أو ثقافة النخبة التي تقف، زمن أحداث القصّة في الستّينيّات من القرن الماضي، موقفًا أقلّ تشدّدًا من قضيّة المرأة والتدخين مثلًا، ولو أنّه الموقف ذاته، من الناحية الجوهريّة، فالاختلاف اختلاف درجة وليس اختلافًا في النوع.
ولكنّ هذا الاختلاف في الدرجة إيجابيّات يسهل معها جعل الحياة أكثر اتّساقًا في القيمة البرجوازيّة هنا. وهذه القيمة هي التي تدرك أهمّيّة "قشرة العقل المكتسبة" التي تعيد الأمور إلى سياقها الحضاري السليم. وفي "حالة تلبّس" يغوص بنا إدريس إلى أوضاع متشابكة تجعل المسألة إشكاليّة لا حلّ نهائيًّا لها إلّا بالجور على هذا الجانب أو ذاك من التكوين الوجداني للشخصيّة التي يتوزّعها أكثر من واقع، ويتجاذبها أكثر من قيمة اجتماعيّة. لذا؛ فإنّ إدريس يضع شخصيّته (ولا أقول بطله فهذا أنسب لأناس الرواية) ضمن منظومة من التجاذبات.
التجاذب الأوّل حين يجد العميد نفسه عالقًا بوعيه وكامل إدراكه في مستنقع ازدواجيّة المعايير لا تجاه واقعة تدخين الفتاة فحسب بل تجاه ما هو أكبر منها: التعامل مع المرأة؛ فالتدخين مثلًا مباح للشابّ ولكنّه جريمة للفتاة، وهو معيار مطبّق حتّى في الحرم الجامعي، قدس أقداس الحرّيّة والمساواة في بلد كان يعيش أزهى مراحل التنوير. وضمن مراجعة أشبه بعمليّة الإجهاض النفسي والعاطفي يتوصّل العميد إلى تصوّر، ولكن ليس إلى حلّ يركن إليه؛ لأنّ الحلّ يأتي متّسقًا مع هذا التحالف الجائر – تجاه المرأة – بين معطيات الثقافتين الشعبيّة والبرجوازيّة.
أمّا التجاذب الثاني فيأخذ تجلّياته من خلال ما بات يُدعى بقضيّة الدور الاجتماعي في علم النفس الاجتماعي. معنى أنّ للعميد وضعه الاجتماعي المستمدّ من دوره الوظيفي، وهو وضع يقتضي منه الالتزام باستحقاقات دوره عميدًا، إنّها معارك "الدور" التي نضطرّ لخوضها. وغالبًا ما تكون النتيجة التنازل عن جزء من قناعاتنا، بل من اندماجنا وإحساسنا بالحياة على النمط الذي يتمتّع به من هم متحرّرون من سلطة هذا الدور. ويقول علم النفس الاجتماعي إنّ هذه السلطة تتعاظم مع المبتدئين في تقمّص هذا الدور حرصًا على المكاسب أو المكانة التي يحقّقها؛ فطبيب الامتياز مثلًا يحرص على أن تكون سمّاعته ظاهرة واضحة لكلّ ذي عينين إعلانًا مشروعًا منه عن دوره المستحدث. لكنّ المفروض إن مضت عليه فترة أطول أن يتخفّف من علامة الدور ومظهره مع الأيّام... بيد أنّ الحديدي حرص على التمسّك بمقتضيات الدور إلى أن قاده هذا التمسّك إلى الطور الثالث من التجاذبات التي عاشها، وفي هذا التجاذب بالتحديد تكمن أزمته، بل ربّما مأساته.
في هذا الطور عانى العميد – كالحديدي في لغة الآي أي – من مآزق الوقوع بين الرتابة والنمط المتكرّر للحياة والسعي إلى نمط من العيش أكثر انفعالًا مع معطيات الحياة ومباهجها الحسّيّة تحديدًا. إنّ ثمن هذا يتطلّب بكلّ بساطة التخلّي عن ثقافته النخبويّة وأدبيّاتها التي تجمع، للمفارقة، بين الثقافة التقليديّة المتوارثة من جهة، والثقافة النخبويّة، لما فيها مقتضيات دوره عميدًا:
"ولماذا الحرس والساعي والتأنيب والفصل؟ ألا أنّها تدخّن وسنّها سبعة عشر عامًا ولكنّها طالبة؟ وما الفرق بين أن تدخّن وهي طالبة وتدخّن وهي خرّيجة وكلّه تدخين في تدخين؟ ولماذا نحرّمه على جسد شابّ فائر ونحلّله لسيّدة أو عجوز تسعل وتكحّ كلّما جذبت نفسًا؟ أليس هو قائل نفس المبادئ وهو في العشرين والثلاثين حين كان في بعثته يرى أنّ مشكلة مجتمعه الأساسيّة أنّ أفراده يحيون في عصر بتقاليد قرون مظلمة مضت، وأنّ بلاده لا يمكن أن تصل إلى أيّ تقدّم علمي أو صناعي أو حضاري إلّا إذا تمّ التحرّر وعاش الناس بتقاليد عصرهم نفسه وقيمه وأنواع حرّيّاته...؟ بإعطاء أفراده حتّى حرّيّة الخطأ وألّا نمنعهم بالنصح والزجر عن خوض التجارب ونورّثهم صوابنا نحن وخطأنا بل نتركهم لكي يستخلصوا هم من تجاربهم ما يرون أنّه الصواب وما يرون أنّه الخطأ" (34).
وكأنّ يوسف إدريس يدين تواطؤ الثقافات المجتمعيّة كلّها: الشعبيّة، والبرجوازيّة، وربّما الأرستقراطيّة ضمنًا على حقوق الجيل الصاعد؛ فكلّها، في مجتمعنا الشرقي تصادر حقوقه الطبيعيّة في المساواة وحرّيّة الاختيار حسب قناعاته، بل يسعى الجيل الأكبر لأن يقولب هذا الجيل، بحيث يأخذ الكبار حقّه هو وحقوق من يأتي بعدهم.
وهكذا فإنّ الرؤية في "حالة تلبّس" تتشكّل بمنظومة فنّيّة وفكريّة بما يختلف قليلًا عن منظومة "لغة الآي أي". ففي هذه القصّة تنتصر الرؤية للثقافة الشعبيّة وتجد في أحضانها الملاذ الآمن والخلاص النهائي، في حين تنتهي الرؤية في "حالة تلبّس" إلى واقع إشكالي يمزّق قناعات الشخصيّة وينتهي بها إلى الاستسلام لهذا "الكوكتيل الثقافي" – إن جاز القول – يفرض على العميد متطلّباته، بدون قناعة من هذا الأخير، وبدون رفض، أو بكلمة أدقّ، بدون قدرة على الرفض؛ فتأتي النهاية بمنطق كلاسيكي بائس يملي على العميد استحقاقات الدور، ولا شيء غيرها، حتّى لو كان إنسانيّته نفسها التي لا تملك سوى أن تتشيّأ: "وبأصبع عادت إليها كلّ عصبيّتها، وكأنّها تمتدّ من صدر ضاق الدنيا ضغط على الجرس [لضبط الطالبة التي تدخّن]... ولكنّ إصبعه كانت لا تزال بها بقيّة من ارتعاش، ارتعاش ليس الكبر أو الضغط سببه" (136).
في هذه القصّة تحديدًا ينجز إدريس حدثًا صغيرًا (ضبط الفتاة وهي تدخّن) يستطيع أن يجعله أساسًا لكلّ عناصر القصّة؛ فيضبط من خلاله "الأحداث" وردود الفعل بينه وبين الطالبة، ويجعله إطارًا زمنيًّا يستحضر من خلاله حاضر العميد وماضيه، ومستقبله أيضًا، ناهيك عن واقعه النفسي والوجداني والعائلي والقيمي بطبيعة الحال. بضع دقائق هي الزمن الأساسي للقصّة يحكمها تناول السيجارة يكشف فيها إدريس آفاقًا اجتماعيّة يستحضر فيها، سواء بالحدث، أم بالرؤية، كلّ ما يتجاذب المجتمع من قيم ثقافيّة واتّجاهات فكريّة ونوازع نفسيّة وبضبط إيقاع الحياة في هذا المجتمع من أنساق اجتماعيّة وأطر محلّيّة وآفاق إنسانيّة.
مؤشرات دالة
وبعد؛ لعلّ من الأوفق أن نقف الآن عند بعض المؤشّرات الدالّة:
أوّلًا: بات من المعروف أنّ أدب يوسف إدريس ينشغل، في المقام الأوّل، بالقضايا الكبرى للوجود الإنسانيّ. ما يهمّنا في هذه المقالة هو هذا الاشتباك المركّب والنبيل بين معطيات القيم البرجوازيّة وما يتجذّر في أعماق أبطاله من ترسّبات تستمدّ مادّتها من طين مرجعيّته الوجدانيّة في الينبوع الأوّل، أي من الريف المصري، أي المكوّن الثقافي الشعبي والأصيل إن شئت. ولهذا المكوّن عروقه التي تمور بدم الحياة في كلّ ما قرأت من أعماله، بل إنّ تجذّر هذا المكوّن في بيئة شخصيّاته أنّى حلّوا هو الذي يطرح الأزمة ويصنع من ثمّ الحدث القصصي، سواء كانت البيئة الريفيّة الأصليّة كما في "حادثة شرف" مثلًا أو في بيئة المجتمع البرجوازي المدنيّة (كما في الفصلين موضع التناول في هذه المقالة)، أو حتّى يكون أبطاله في بيئة الآخر، جغرافيًّا وحضاريًّا، حين تعيش شخصيّاته، أو تعاني من غربتها واغترابها.
ثانيًا: إنّ الصراع هو الأساس الدرامي لأيّ عمل سردي؛ والمعروف أنّ الصراع النفسي (الداخلي) يُبهظ الشخصيّة بأشدّ ممّا يُبهظها أيّ شكل آخر للصراع، وبخاصّة إذا ما ارتكز هذا الصراع على القيم. والصراع في العملين موضع التناول صراع قيم بامتياز؛ قيم الثقافة الشعبيّة بمواجهة الثقافة الفرديّة، أو البرجوازيّة، أو إن شئت الثقافة النخبويّة. هذا الصراع يتّسم بضخامة "الحدث النفسي" مقارنة بالفعل الخارجي، بل إنّ قصّة حالة تلبّس، هي حكاية حدث نفسي أوّلًا وأخيرًا، بحيث جاءت خالية تمامًا من أيّ شكل من أشكال الحوار الخارجي (الديالوج).
ثالثًا: جاءت المواجهة بين الثقافتين في كلّ من العملين جدليّة إشكاليّة. فلم نتبيّن انحيازًا سافرًا بل قل خالصًا – بدون قيد أو شرط – لواقع ما تمليه إحدى المنظومتين، ولكن في قصّة أخرى: "حادثة شرف" مثلًا تطالعنا إدانة كاملة للثقافة التقليديّة ضدّ المرأة، في حين تتلقّى الإدانة الثقافيّة المقابلة ولا سيّما حين يغدو الفرد فيها مجرّد ترس في طاحونة تسلبه الجزء الأكبر من إحساسه الإنساني، وتأتي على كلّ مباهج الحياة وتحرمه من الانفعال الإيجابي بالشعور بأنّ العيش الحقّ لا يتحقّق إلّا بالانخراط مع الجماعة البشريّة مع ما يستتبعها من موجودات ملحقة بالوجود الإنساني.
رابعًا: إنّ اختيارنا لهذين النموذجين القصصيّين لا يعني في حال من الأحوال أنّ "الصدام القيمي" عند يوسف إدريس يقتصر على فنّ القصّة القصيرة فحسب، فها هو هذا الصدام يحضر في رواية "العيب" مثلًا حين تنهار المنظومة الثقافيّة الشعبيّة القيميّة بأجمعها إذا ما استسلم عنصر فيها لمغريات الكسب المادّي على حساب المبدأ الذي ينشأ عليه عضو الجماعة، ولا سيّما إذا كان امرأة لا تلتزم بجزء من المنظومة وتترك آخر فإمّا الالتزام بكلّ معاني الشرف وإمّا الطلاق البائن معها كلّها. أمّا الفلّاح في مسرحيّة "ملك القطن" فإنّ القيمة الأوسع في الثقافة الشعبيّة هي الانتماء للأرض، وهو انتماء يتعالى حتّى على حقّ الملكيّة؛ فليس شرطًا أن تمتلك القطن حتّى تنتمي إليه، يكفي أن تزرعه وتعتني به حتّى لو جناه غيرك.
خامسًا: لقد استقرّ مفهومنا للثقافة الشعبيّة على أنّها من مكوّنين رئيسين؛ الفولكلور الشعبي وتجلّياته الشفاهيّة في المقام الأوّل، والعادات والتقاليد والقيم الكامنة في أعماق النفس البشريّة، وواضح هنا أنّ المكوّن الأساسي الثاني لثقافة الينبوع الأوّل في أدب يوسف إدريس يمكن أن يفتح آفاقًا للدرس النقدي والتحليل الاجتماعي للأدب، وضمن أكثر من منهج، وما هذه المقالة سوى تحليل وصفي يطرق طرقًا خفيفًا هذا الباب في أدب هذا الرائد الكبير.
*أكاديمي أردني.