Print
علي العائد

المقاومة لا تستسلم كما تفعل الجيوش

28 سبتمبر 2024
آراء
لا يستطيع أحد أن يدعي أن ثورة شعبية، أو مسلحة، قامت في وجه نظام، أو احتلال، وكانت موازين القوى بينهما متكافئة، أو حتى متقاربة؛ إذ دائمًا ما تكون الأنظمة، أو الاحتلالات، متفوقة، تنظيميًا، وفي التسليح، وفي السياسة، على القوى التي ثارت عليها. ولا توجد استثناءات في ذلك، حتى في الثورات البرتقالية لدول الاتحاد السوفياتي السابقة.
حسابات التكافؤ هذه لو كانت منظورة من الضعيف الذي ثار على جلاده لما نهض الثائر برأسه، ولما قامت ثورة في كل التاريخ المكتوب وغير المكتوب. هذا مع إدراك الضعيف لهذه الحقيقة بوضوح. ولا توجد استثناءات هنا أيضًا.
الضعيف في القوة يعرف مسبقًا أن بطش القوي في جبروته سيكون غير محتمل، وغير مسبوق، ومع ذلك كان يقدم في كل أمثلة الثورات على ما يجب أن يقوم به، وفي السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أقدمت المقاومة الفلسطينية، ممثلة في حماس، وفي الجهاد الإسلامي، على عملية "طوفان الأقصى".
ورغم ما تثيره هذه الملحوظة من جدال، واجترار أمثلة، وأن معرفة الضعيف باختلال موازين القوى يجب أن تبقيه ساكنًا، أو كامنًا، فإن عقيدة الجهاد، في نسخها الدينية، والعلمانية، لا تقر بمثل هذه المعرفة، خاصة أن منطق الحرب المديدة مع قوة مثل إسرائيل ترجح أن المعارك ستكون سجالًا، ليس بالمعنى المباشر الذي يجعل المقاومة تنتصر مرة، وإسرائيل تنتصر مرة، ولكن بمعنى أن لا تستسلم المقاومة حتى ولو خسرت مرات كثيرة، ولتكون كل حرب مجرد معركة في حرب ممتدة عدَّت 76 سنة من دون أن تنتهي.
أما أحد الحسابات الخاطئة للمقاومة في غزة فيمكن أن يكون أنها عولت على هبَّة عربية بعد "طوفان الأقصى"، لو كانت عولت على ذلك. الواقع أظهر أن شفاه الزعماء العرب ارتخت وعجزت حتى عن قول كلمة في مواجهة التجبر الإسرائيلي، حتى أن الدولة الصهيونية بدت مطمئنة إلى ذلك، وبصريح الكلام، حين رأى نتنياهو في غير مرة أن حربه هي حرب بالنيابة عن العالم وعن العرب ضد حماس، وسكوت الزعماء العرب تصديق على كلام زعيم إسرائيل القلق.
قلق نتنياهو خف كثيرًا مع رخاوة عقول وألسنة الزعماء العرب، حتى أنه سيدخل بعد أيام في عام كامل من الحرب ضد غزة، وبشهية لانهائية للقتل، بعد فتحه جبهة الحرب على لبنان قبل أكثر من أسبوع، من دون خشية حتى من اجتياح بري للبنان.
قلة خشية نتنياهو من تعميق الحرب في المنطقة العربية ليس مصدرها فقط استناده إلى الدعم الأميركي والغربي، وإنما إعلان أن حربه موجهة إلى حماس "الإرهابية"، وحزب الله، وليس إلى فلسطين والفلسطينيين، التي لا يعترف بوجودها ووجودهم، ولا إلى لبنان الذي لا يزال يعتقد مع أسلافه الصهاينة أن يمكن أن يحتله بفرقة موسيقى الجيش العبري، وبالتالي لا يخشى من طول أمد الحرب، في الجبهتين الشمالية والجنوبية، مع ملاحظة أن الطيران الإسرائيلي عينه على مزرعة بشار الأسد دائمًا، فلا يمر أسبوع من دون أن يبصم فيها هنا، أو هناك، من دون أي رد من "زعيم الممانعة العربية".
وإسرائيل المشهورة بحروبها الخاطفة، وبتفوق في سلاح الجو أتاح لها ذلك، لا تخشى اليوم من الحروب الطويلة، فدول الطوق التقليدية لم تعد موجودة حتى إعلاميًا، بينما حلت محلها قوى طوق أخرى: حماس في غزة، وفي بعض الضفة الغربية حين يتاح لها ذلك، والحوثيون في اليمن، وحزب الله في لبنان، وما يدعى بالمقاومة الإسلامية في العراق، ومن وراء كل هؤلاء دولة إيران التي تريد الحرب ولا تريدها، فتسخو بالمال وبالكلام، لكنها لا تدخل حربًا صريحة ضد إسرائيل، وضد أميركا، من ورائها.




المقاومة التي تعلم أن ميزن القوة مختل بشدة في اتجاه إسرائيل وحلفائها، من الأميركيين والأوروبيين والعرب، لم تكن تنتظر صدور قرار الحرب من السلطة الفلسطينية، أو من دولة لبنان، أو من سورية، أو أية دولة عربية من دول ما كان يدعى "دول الطوق". مع ذلك، لم تشن حربًا ضد إسرائيل قبل عملية "طوفان الأقصى"، وإن كانت إسرائيل تتخذ من أدنى فعل أو قول من المقاومة ذريعة لشن ضربات أو حروبًا مديدة على غزة خاصة، وكانت آخر حرب لها ذريعة ضد لبنان عام 2006. ثم تورط حزب الله في التفاهم الضمني مع إسرائيل على عدم استهداف المدنيين، وتم التوافق على مصطلح "قواعد الاشتباك" بعد القرار الأممي 1701.
قبل كل شيء، لم يعرف حزب الله أن الحرب على غزة ستطول عامًا كاملًا، مثله مثل حماس، ومثل إسرائيل. جميعنا لم يتوقع ذلك. دون ذلك يمكن الحديث عن خطأ حزب الله الاستراتيجي في درجة "تورطه" في الدخول في المناوشات ضد إسرائيل منذ الثامن من أكتوبر الماضي. لو كان يعلم أن الحرب ستطول كل تلك الأشهر، لكان أولى بمساندته لحماس أن تكون حربًا تخرق قواعد الاشتباك الثابتة منذ عام 2006، وعندها كان سيضغط فعليًا على إسرائيل، وستتقاطع صواريخ حماس وصواريخ حزب الله فوق تل أبيب، وستكون القبة الحديدية أقل فاعلية، وربما سيرتبك مقلاع داوود أمام الصواريخ فرط الصوتية الموجهة من الحوثيين في اليمن.
ولأن حزب الله لم يتخذ هذه الخطوة مبكرًا، فقدَ خلال الأسبوعين الماضيين عنصر المبادأة، وتفاجأ بتفجير أجهزة البيجر وأجهزة اللاسلكي، وفقد بذلك أيضًا شيئًا من من منظومة التوجيه والسيطرة، في حين تراجعت القدرة الصاروخية لحماس إلى أدنى مستوياتها بعد عام من استنزاف قدراته المحدودة أصلًا.
مع ذلك كله، لا شيء يُرجح أن تتراجع حماس، حتى لو كانت ندمت على القيام بعملية "طوفان الأقصى، فما حدث قد حدث. ولا شيء يغفر لحزب الله تراجعه الآن، والقبول بوقف منفرد لإطلاق النار على شمال فلسطين.
والشيء الوحيد الذي يحفظ ماء الوجه هو التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم، أو مديد، على الجبهتين، لتنتهي الحرب، على المستوى السياسي، وفق صيغة لا غالب ولا مغلوب، ويتم تبادل للأسرى بصيغة ما بين حماس وإسرائيل.
المقاومة ليس لديها ترف التفكير في الاستسلام، كما لم يكن لديها من قبل أي ميل للتسليم بالأمر الواقع، وقبول الاحتلال والحصار، ونقصد هنا حماس التي لديها قضية بالأصالة عن شعبها الفلسطيني، حتى في ظل الانقسام، والتناقض مع سلطة فتح في رام الله، على عكس حزب الله المختلف على أهدافه ومدى حرية قراره بالتقاطع مع إيمانه المطلق بعصمة الولي الفقيه في طهران.
أما البديل مما قامت حماس في "طوفان الأقصى" فلا أحد يمكنه تحديده. العرب ليسوا بديلًا، ولا الضمانات الأميركية، ولا سياسة غاندية، ولا شرعة دولية. هنالك بديل وحيد هو المقاومة، ما دام الاستسلام رابع المستحيلات.
أكثر من ذلك، ونتيجة الكلفة الباهظة في الأرواح لحرب إسرائيل على غزة، عدا عن تدمير معظم عمران القطاع، وفقدان القليل الذي كان يملكه من مقومات اقتصادية، سيتكرر السؤال: هل ستقدم المقاومة على عمل شبيه بـ"طوفان الأقصى" في المستقبل، حتى لو كان في المستقبل البعيد؟
قد يكون الجواب بالنفي معادلًا لفكرة أن المقاومة قد انتهت، أو ماتت، وهذا هو المستحيل الفلسطيني، لأن ذلك يعني ضياع فلسطين إلى الأبد.