Print
جورج كعدي

قراءة في "الطوفان" لعزمي بشارة: التحدّي الأخلاقيّ (2)

28 سبتمبر 2024
آراء
نكمل هذه القراءة التي بدأنا جزءًا أوّلَ منها ("ضفة ثالثة"- 17 أيلول/ سبتمبر الحالي) في كتاب "الطوفان – الحرب على فلسطين في غزة" للدكتور عزمي بشارة، الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فندخل إلى الفصل الثاني الذي يحمل عنوان "قضايا أخلاقية في أزمنة صعبة"، ويرى فيه الدكتور عزمي أنّ توحّش الحرب والقتل بالجملة يثير تأملات وجودية، مشيرًا إلى أنّ هذا الفصل "غير موجّه إلى مجرمي الحرب ولا إلى ضحاياهم الذين تكفيهم همومهم" (ص 83) بل يهدف – في تعبير الباحث – إلى "تمييز القضايا الأخلاقية التي أثارتها، وتثيرها، الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومعالجتها على حدة (...) وذلك بسبب طمس حدود الأخلاق، أي ما يميّزها، في غمرة التجييش والاستقطاب السياسي وحتى الاستقطاب الهويّاتي في زمن الحرب. إنّها المعضلات الأخلاقية التي تواجه الإنسانية، نتيجة للأعمال الوحشية التي تُرتكب خلال العدوان، والوسائل التي استخدمها لتحييد الحكم الأخلاقي على ما يُرتكب من جرائم" (ص 83 - 84).
لا يكتمل بحثٌ ذو طابع فكريّ، سياسيّ، من دون نظرة فلسفية، وهذا ما يفعله الدكتور عزمي بشارة انطلاقًا من الخلفية الأكاديمية الفلسفية التي تميّزه عن معظم الباحثين والمحلّلين العرب عند تفكيك الحدث، أو الأيديولوجيا، أو النصّ. القراءة الفلسفية التي أسماها تأملًا وجوديًا ضرورة حتمية في معالجة طوفان الأقصى وتداعياته على طرفي الصراع، وبخاصة على غزة التي تتحمّل نتائج الإبادة الرهيبة وتفرض الأسئلة الفلسفية والأخلاقيّة على المتأمّل في فظاعاتها ومآسيها غير المسبوقة. يقول الدكتور عزمي: "لا تكون القيم الأخلاقية محرّكًا للفعل البشري أصلًا، لا في الحروب ولا في غيرها، إلّا في حالتين: 1. إذا أثّرت هذه القيم في بنية الإنسان الشعورية الانفعالية، بحيث تحمله على الفعل أو الامتناع عن فعل، أو الشعور بالذنب إذا فعل العكس (...) 2. إذا صيغت القيم الأخلاقية في معايير يمكن التنشئة عليها (أو أصبحت أعرافًا أو قوانين) ويحترمها الفرد لذاتها، أي التزامًا بها، أو إحساسًا بالواجب، لا خوفًا من العقاب" (ص 84). "أما ما يسمّى الضمير الإنساني الفردي (ولا يوجد ضمير جماعي إلّا في الاستعارة) فهو جمع بين استدخال (Internalization) المعايير الأخلاقية وتذويتها في البنية الشعورية للإنسان" (ص 84 - 85). يريد المفكر والباحث القول إنّه لا يمكن التعويل على "الضمير الجماعيّ"، لأنّه غير موجود، فبالكاد يوجد الضمير الفردي الذي تحرّكه دوافع قد لا تكون من النوع الأخلاقي (يعدّد بعضها). حتى سعي الفرد إلى تحصيل السعادة مثلًا يتمّ بوسائل يمكن محاكمتها أخلاقيًا، وبالتالي لا يكون هذا السعي في حد ذاته قيمة أخلاقية (ص 85). ويصحّ الأمر نفسه بالنسبة إلى قيم الحياة والكرامة الإنسانية والحرية. يعطي الكاتب مثلًا "قيمة الكرامة، فإنّها تتقاطع مع المشاعر القوية ضد الإذلال إلى درجة الانتفاض على من يمارسه (...) والأهمّ أنها قد تؤدي إلى الشعور بالذنب عند ممارسة الإذلال ضدّ الآخرين، إذا كانت قيمة أخلاقية فعلًا لا مجرّد مشاعر ذاتية بالكبرياء" (ص 86). وكأنّي بالدكتور عزمي بشارة، مستندًا إلى تيار فكري من روسو إلى فرويد، يؤمن بأنّ "الحياة الأخلاقية ممكنة" (لا أقاسمه هذا التفاؤل) لأنّ الاجتماع الإنساني يقوم، بالنسبة إليه، على ترويض الغرائز (وسبقته إلى ذلك الديانات التوحيدية من منظور معاكس)... فتنجم عنه معايير وأعراف اجتماعية وتركيبات نفسية فردية مختلفة (ص 86). ويعبّر الدكتور عزمي عن رأيه الشخصي، موضحًا في الهامش (ص 86) أن رأيه يشمل مجموعة فرضيات لا إثبات عليها سوى قدرتها التفسيرية، فيقول: "ليست المعطيات الطبيعية أخلاقية ولا غير أخلاقية. ولكن، من ناحية أخرى، ثمة في رأيي المتواضع، فضلًا عن الغرائز التي يروّضها الاجتماع البشري، معطيات إنسانية طبيعية، لا تحتمل تسمية قيم بالطبع، ولكنها تشكل استعدادات طبيعية لنشوء الأخلاق. فمن ناحية، لا تنشأ الأخلاق عن قانون أخلاقي مفترض قبْليًّا، كما عند إيمانويل كانط (1724 - 1804)، ومن ناحية أخرى، ليس جميع ما يُفطر عليه الإنسان مجرّد غرائز يجب ترويضها، أو قمعها، من أجل تمكين الاجتماع البشري من التحقق. وكما نوازع إنسانية طبيعية تتعارض مع الاجتماع البشري، توجد أخرى تدفع إليه" (ص 86 - 87).
يقترب الباحث في تؤدة وتأنٍّ من صلب موضوع بحثه، أي غزة والإبادة التي تعرّضت ولا تزال تتعرّض لها، ممهّدًا الطريق بقناعاته الفلسفية قبل إسقاطها على الموضوع الأساس. يمرّ على مسألة "الدفاع عن الذات" (التي قد تتوسع لتشمل الجماعة) فدفاع الإنسان عن حياته أمرٌ طبيعي مدفوع بغريزة البقاء لا بالأخلاق، ويُفترض أنّه حق في نظر الآخرين (ص 87) ثم مسألة النفور من التسبّب في الألم للجسد البشري "وقد يكون هذا إسقاطًا من نفور الإنسان من شعوره بالألم على فعل التسبب بالألم الجسدي للبشر الآخرين، كما قد يكون نفورًا غريزيًا عند الإنسان الطبيعي من مرأى إيذاء الجسد الإنساني"، بينما ثمة في المقابل جماعات ومجتمعات تتغلّب على النفور الغريزي من إيذاء الجسد الإنساني "برفع حق الدفاع عن النفس فوقه، وبالمنظومات العقابية، وشيطنة الآخر وتنمية مشاعر الاحتقار أو الحقد تجاهه، بحيث تقمع مشاعر النفور من العنف، أو تجعل تحمّلها ممكنًا" (ص 87). الكيان الصهيوني مثل حيّ على الفكرة الأخيرة، فهو ينمي مشاعر الاحتقار والحقد تجاه الآخر، ويقمع مشاعر النفور من العنف فيدفع إليه و"يقدّسه" ويجعل تحمّله ممكنًا.
من الفرد والجماعة في مبحث الأخلاق، إلى الدولة والأخلاق، حيث "لا تكفي الأحكام الأخلاقية على الدول لإقناعها بتغيير سياساتها، لأنّها ليست مدفوعة أصلًا بالأخلاق" (ص 89). يا لبلاغة القول: الدول، تاريخيًّا واليوم والأرجح إلى أخر الأزمنة، لن تكون يومًا مدفوعة بالأخلاق. لا تعني المسألة الأخلاقية الدول التي لا تقتنع إلّا بلغة المصالح (الاستراتيجية والاقتصادية) ذاتها. فالأخلاق تتطور مع نمو الوعي الذاتي (الفردي)، بينما لا تطوّر الدول "أخلاقها" الخاصة بها، على ما يرى الدكتور عزمي بشارة بفكر ثاقب. كما لا استعدادات طبيعية لدى الدول، ولا دوافع غريزية، ولا وعي ذاتي فردي. وتصوغ الدول المعايير بلغة الأخلاق والقوانين الوضعية، بيد أنّها جميعها غير ملزمة في غياب من ينفّذها! وبالتالي "أصبح النقاش الأخلاقي الدائر بشأن الصراعات الدولية، بما في ذلك الاحتلال، غير متعلق بالفضيلة، بل بانطباق المعايير المتفق عليها على الأفعال التي ترتكبها الدول، والعجز عن تنفيذها بسبب تصرّف الدول الكبرى بموجب التحيّزات المختلفة والاصطفافات والمصالح الاستراتيجية وغيرها من المصالح، وليس بموجب المعايير" (ص 91).
أيّ معيار أخلاقي تعطّله إذًا مصالح الدول الكبرى وصراعاتها التي تعزّز شريعة الغاب بين الدول. ومع ذلك لا يقفل الباحث باب الأمل فالحكم الأخلاقي على الدول جائز، في رأيه، ويمكن تبرير ذلك "أولًا بأنّها مؤلفة من بشر أفراد ذوي عقول وإرادات، ويمكنهم التمييز بين الخير والشر، كما أن موضوع فعلها، أو على الأقل المتأثرين به، هم بشر، أفراد وجماعات، وثانيًا لأن غاياتها وأساليبها ونتائج فعلها قابلة للحكم الأخلاقي الفردي المنطلق من قيم، وأيضًا من معايير أخلاقية متفق عليها" (ص 92). مرة أخرى، لا أدري إن كنت أستطيع مشاركة الباحث تفاؤله.
يستدعي المؤلف ذكر المحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت عام 1998 في أعقاب جرائم الإبادة المرتكبة بعد نهاية الحرب الباردة (في رواندا والبلقان) و"لم تتمكن منذ تأسيسها من معاقبة مسؤولين أو ضباط من قوى عظمى وأيّ أفراد شاركوا في ارتكاب جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم إبادة جماعية، في الحالات التي خرجت فيها دولهم منتصرة من الحرب، وظلّت كذلك. تخصصت المحكمة في معاقبة المهزومين، فحيث تتدخل الدول، تدخل اعتبارات لا علاقة لها بالأخلاق" (ص 93). ليست الحقيقة ضحية الحرب الأولى كما يقال، بل تسقط الاعتبارات الأخلاقية قبلها عند خوض الحرب. هنا نندفع في التهام كلمات مقطع فائق البلاغة فلسفيًا ووجدانيًا للدكتور عزمي: "يُسوَّغ السقوط بانفصال منطق الدولة وأسبابها (Raison d'états) عن الأخلاق بحجة المصالح، أو بحجة اضطرار الدولة إلى القيام بأعمال غير أخلاقية في خدمة غايات تعدّها مستحقة لذلك، مثل الحرب نفسها. وما دامت هذه تسمح بخرق القيمة الأولى، أي الحق في الحياة، بتشجيعها على قتل أفراد العدو، ولا يسري فيها على العدو ما يسري على الصديق، فماذا يكون مصير القيم الأخرى الأقل شأنًا؟ حين تنطلق حملات الدعاية والكذب الأولى، تكون الأخلاق قد وُضعت جانبًا، وطلب منها أن تلتزم الصمت، وأُخرست الأصوات التي تتكلم باسمها، فالخيط الرفيع الفاصل بين الحياة والموت لا يتحمّل إلحاحها. وهنا تحديدًا، تصبح إثارتها مسألة مصيرية بالنسبة إلى الضحايا. ويتجاوز واجب إثارتها النقاش بشأن "عدالة" الحرب: أهي حرب عادلة (يُقصد بها في عصرنا حروب التحرير والدفاع عن النفس أو الحروب التي تندلع بعد استنفاد السبل غير العنيفة)، أم حرب عدوانية غير عادلة؟ البشر كيانات أخلاقية بفعل الاستعدادات الطبيعية المذكورة، وبفعل الوعي والإدراك والاجتماع البشري، وربما تكون الاصطفافات في زمن الحرب من أعظم التحديات التي تتعرض لها كيانيتهم الأخلاقية" (ص 93).





عن العلاقة بين الأخلاق والهوية، يرى الباحث أنّ الأخلاق الخاصة (أي الفردية) "تتطابق مع الأخلاق العمومية، بحيث يصعب التمييز بينهما في إطار الجماعات الوشائجية (...) ولا يقلّل التفرد، وإدراك الفرد فرديته من خلال التمايز بين الأخلاق الفردية الخاصة والأخلاق العمومية، وازدياد احتمال القرارات الأخلاقية فرديًا، من أهمية الجماعة المرجعية، حتى لو أصبحت جماعة هوية متخيلة مثل القومية والأمة. وفي حالة نشوب العداوة والخصومة، ولا سيما الحرب، تزداد وشائجية الجماعية المتخيّلة، أي قبليّتها، أو طابعها العصبوي. وتزداد الفجوة بين الأخلاقيات داخلها والأخلاقيات خارجها، وتصل إلى حدّ التناقض" (ص 94). ويدلّ الباحث بقوّة على "نفاق الدول الغربية" خلال العدوان على غزة، أي مؤسساتها الحاكمة، في موقفها الداعم للحرب واستمرارها، حتى بعد أن اتضح حجم الجرائم الكبرى، مستثنيًا حكومات إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا، ومقدمًا أمثلة على استخدام الأفعال المبنية على المجهول (أي تجهيل الفاعل) مثل "قُتِل" و"أُصيب" فلسطينيون أو "وقع انفجار في مستشفى" بدلًا من قصفت إسرائيل مستشفى، أو اعتماد جملة "لم يتمّ التأكد أو التحقق من الرواية" حين ترد شهادة من فلسطينيّ بشأن مجزرة ما! فضلًا عن صمت المؤسسات الحاكمة إزاء القصف الشامل على الأحياء المكتظة بالسكان، وإزاء التجويع وقطع الماء والكهرباء عنهم وقصف المستشفيات والمدارس (ص 95)، للخلوص إلى القول "إنّ فلسطين لوضوح قضيتها" (كأنّما المقصود أيضًا: لوضوح هوية شعبها) "تشكل حلبة مميزة لفعل النفاق (...) الذي لا يقتصر على الغرب، بل تمارسه دول عربية وإسلامية" (ص 95). ويطرح الباحث السؤال: كيف نلجأ إلى الصياغات العالمية لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية بشأن الاحتلال وغيره لكشف النفاق وننكرها في الوقت ذاته؟ مجيبًا: "لا تكمن المهمة في إنكارها وفضح زيفها، بل في فضح التشدّق بها، والتنكر لها، وعدم الالتزام بها أو بالقانون الدولي، وتفريغه من مضمونه في منظومة دولية تخضع فيها القيم المصوغة في معاهدات وتفسيراتها للمصالح وعلاقات القوة" (ص 96).
التساؤل الأهمّ في مسألة الأخلاق والهوية يطرحه الدكتور عزمي على النحو الآتي: "أتنجم دوافع من يحتجّون على الحرب بألم وحرقة أخلاقيين عن بنية أخلاقية إنسانية لا تتحمّل شعوريًّا ما يُقترف من جرائم في حق الشعب الفلسطيني، وترفض السكوت عنه، أم تنجم عن الهوية القومية أو الدينية التي تجمعهم بالضحايا؟" ليجيب عن عمق هذا التساؤل بأنّ "الدافعين شرعيان، ويمكن أن يُصاغا بلغة العدالة، لأن الشعب الفلسطيني يتعرّض للظلم وقضيته عادلة. وهؤلاء الذين يتظاهرون في دول أوروبا وأميركا، مطالبين بوقف إطلاق النار، ربما تحرّك بعضهم الأخلاق الكونية الناجمة عن شعور بالانتماء المشترك إلى هوية واحدة، لا قومية ولا دينية، بل إنسانية تجعلهم قادرين على تخيّل أنفسهم في مكان الضحايا. وهذا أرقى أنواع الانتماء المشترك، فالإنسانية بوصفها جماعة مرجعية كبرى يُفترض أن تسود فيها القيم الكونية" (ص 97). وكم بليغ لي قارئًا، ابتكار الباحث والمفكر القدير معادلة "الإنسانية جماعة مرجعية كبرى" التي يمكن أن تكون عنوانًا لأطروحة فلسفية كبيرة. ويشير الدكتور عزمي في ختام هذا المحور عن الأخلاق والهوية إلى تقديم الشباب اليهود الأميركيين خدمة كبيرة في تضامنهم مع الشعب في غزة وفي رفضهم الممارسات الإسرائيلية "إمّا من منطلق القيم الكونية، وإمّا من منطلق فهمهم للقيم اليهودية بالتوفيق بينها وبين القيم الإنسانية، أو حتى من منطلق الهوية اليهودية المشتركة مع إسرائيل. وفي هذه الحالة، تكون الهوية المشتركة دافعًا لرفض احتكار إسرائيل الحديث باسمها وتشويهها بجرائمها وممارساتها في حق الشعب الفلسطيني. وهو منطلق هوياتي، ولكنه مناقض للعصبية الهوياتية، إذ يذكر هويته لا للتباهي بها، بل لكي يرفض نصرة من يدعي تمثيل الهوية إذا كان ظالمًا" (ص 97).
إلى مبدأ "الدفاع عن النفس" الذي اختزلت به الولايات المتحدة (وبعض حلفائها الغربيين ضمنًا) وأعداد كبيرة من الصحافيين والمثقفين جميع القضايا الأخلاقية المترتبة على شن الحرب على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ثم تحييدها باستخدام العبارة الواحدة "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، علمًا بأن محكمة العدل الدولية قررت أنه ليس للدولة التي تحتل أراضي الآخرين حق في الدفاع عن النفس، "فهي تدافع عن احتلالها لا عن نفسها". وثمة في المقابل مواثيق دولية تبرر الحق في مقاومة الاحتلال، وبالتالي و"من ناحية منطقية، فإنّ حق الدفاع عن النفس منسوب إلى الشعب الرازح تحت الاحتلال، ويسمّى حق المقاومة (...) والمقاومة تتجاوز في نظر حركات التحرير مجرد حق في الدفاع عن النفس إلى الواجب الأخلاقي أيضًا"، يقول المؤلف الذي يصف الطريقة التي تمارس بها إسرائيل "الحق" في الدفاع عن النفس، وتكرار بعض الدول هذه العبارة في تبرير العدوان وقتل آلاف المدنيين الأبرياء والأعداد المهولة من الأطفال، بأنهما أمران "يتجاوزان النفاق إلى الانحطاط الأخلاقي" (ص 100). هذان النفاق والانحطاط الأخلاقي يكتملان بإطلاق صفة "الشرّ المطلق" على كتائب عز الدين القسام، والشرّ مستحضر هنا لأجل شيطنة الآخر. ويعرّج الباحث بأدواته الفلسفية على مفهومي الشرّ لدى نيتشه وكانط (ص 101) للقول إن "غاية أبواق الدعاية الإسرائيلية هو نعت حماس بوصفها شرًا مطلقًا، أي شيطنتها، وهذا يعني شرًّا أنطولوجيًا قائمًا بذاته، لا أول له ولا آخر، لا بداية له ولا نهاية (...) ولا علاج له سوى محاربته والقضاء عليه" (ص 101).

 يقدم بشارة ردّا بليغًا مفحمًا لا أفضل منه على الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هبرماس (Getty)

"ليس قتل المدنيين الفلسطينيين عارضًا جانبيًا للحرب" عنوان المحور الرابع في هذا الفصل، إذ يرصد الباحث "أسف قادة الدول على قتل المدنيين نتيجة العمليات الحربية، حتى لو سيقت لذلك مبررات مثل حصول خطأ، أو وقوع "أضرار جانبية" (collateral damage) ناجمة عن قصف أو مواجهات" أما "إسرائيل، فلا تعتذر ولا تقدم تبريرات من شأنها تحييد الحكم الأخلاقي على قتلها المدنيين بادعاء حصول أخطاء، بل تعلن أنّها تقصف المباني والأحياء السكنية وحتى المستشفيات، بغض النظر عن وجود مدنيين" (104)، مؤكدًا أنّ تاريخ الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، ككل استعمار استيطاني، عرف استهدافًا مقصودًا للمدنيين، وذلك منذ ما قبل نشوء إسرائيل وحتى جريمة التهجير الكبرى عام 1948، بارتكاب مجازر منظمة ضد قرى بكاملها (105). إسرائيل تستهدف المدنيين لأسباب مختلفة في رأي الدكتور عزمي بشارة:  "1. تلقين المدنيين درسًا بحيث "لا يكررون مثل هذه الأفعال"، 2. التسبب في معاناة متواصلة تفوق قدرة البشر على الاحتمال، لدفع السكان نحو توجيه نقمتهم إلى حركات المقاومة والانقلاب على فكرة المقاومة، 3. تلقين الجنود الإسرائيليين كراهية العرب تلقينًا، والعنصرية كموقف و"نظرية" في الوقت ذاته، البُعْدُ الأول فيها مدان أخلاقيًا، والبُعْد الآخر علم زائف (pseudo - science) يقود إلى حماقات بسبب سوء التشخيص وسوء التقدير لضحايا التمييز العنصري" (ص 105 - 106).
وفي بحث موضوع "أخلاقية حق المقاومة وأخلاقية الأفعال التي قد تُرتكب باسم هذا الحق" يردّنا الباحث إلى اعتراف الأمم المتحدة بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال باستخدام جميع الوسائل المتاحة وفق مبادئ الأمم المتحدة وميثاقها (هنا في الهامش تذكير بقرار الجمعية العام رقم 2649 الذي يعود إلى عام 1970 والذي يؤكد حرفيًا على "شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية، والمعترف بحقها في تقرير المصير، لكي تستعيد ذلك الحق بأية وسيلة في متناولها") (ص 107). ولكن مع التسليم بحق الشعب في مقاومة الاحتلال، وحق الشعب الواقع تحت الاحتلال بممارسة العنف في مقاومة الاحتلال، كنوع من الدفاع عن النفس (مقاومة) وسعي لممارسة حق تقرير المصير (تحرّر)، ولا سيما بعد وصول الوسائل الأخرى إلى طريق مسدود، يسأل الدكتور عزمي بشارة: "هل يُستنتج من ذلك عدم جواز الحكم على أخلاقية أفعال مقاومة الاحتلال؟" ليجيب: "بل هو جائز، وربما ضروري (...) فجواز مقاومة الاحتلال بالقوة لا يعني فقدان القدرة على التمييز بين الخير والشر في أفعال المقاومة ذاتها، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالتسبب في الضرر الجسدي للأبرياء (...) وغالبًا ما يكون الضرر أكبر من الفائدة السياسية، حين توحّد مثل هذه العمليات الرأي العام خلف تشديد قبضة الاحتلال" (ص 108 - 109). ويخرج الدكتور عزمي بقول حاسم في هذا الصدد: "إن استهداف المدنيين بالقتل أو التنكيل عمل غير أخلاقي لا يبرره حق المقاومة"، غير غافل عن "أن عمليات المقاومة تستحق الإشادة من منظور نضالي، في حين أن أعمال استهداف المدنيين والتنكيل بهم أعمال غير أخلاقية، إضافة إلى أنها تلحق الضرر بالمقاومة"، حتى مع ملاحظة الباحث أن بعض الأعمال قام بها "جمهور" لا ينتمي إلى حركة المقاومة، وأنّ الجيش الإسرائيلي قتل العديد من الرهائن الإسرائيليين (في لجة الارتباك ورد الفعل الفوضوي) بالقصف من المروحيات. ومع ذلك، "يصبح من واجب حركة المقاومة أن توضح ما حصل، وهذا لا يمس بها، بل يزيدها صدقية" (ص 109).





معضلة أخلاقية حقيقية تمثّلت، بالنسبة إلى الدكتور عزمي، في قصف المستشفيات والمدارس، وسط  صمت "العالم" إزاء هذا الخرق الشنيع للقيم الأخلاقية والأعراف، بحيث يشكل الصمت نفسه انتكاسة للأعراف المقبولة دوليًا ومراجعة لحصيلة تجارب بشرية مريرة وطويلة، ويطرح سؤالًا مثيرًا للذعر: إلى أين يتجه هذا العالم؟ عادًّا "أنّ قصف المستشفيات، بوصفها الأماكن التي يُعالج فيها الجرحى والمرضى هو جريمة حرب. يُضاف إلى ذلك في حالة غزة لجوء آلاف المدنيين للاحتماء فيها، لأنهم كانوا يستبعدون قصفها، إذ لا تُقصف المستشفيات في الحروب، ويُفترض أن يكون قصف المستشفيات والمدارس شرًّا من أيّ زاوية نظر (سواء أسميناه شرًا مطلقًا أم لا)، ولذلك يشعر الإنسان بالغرابة والحرج لمجرّد مناقشته وطرحه، فمن الصعب الإقناع بالبديهيات الأخلاقية (وليس يصحّ في الأذهان شيء... إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ)" (ص 111 - 112).
إلى المحور السابع من هذا الفصل الثاني تحت عنوان "نقاش مع هبرماس حول الأحكام الأخلاقية والمصطلحات القانونية"، وفيه ردّ بليغ مفحم لا أفضل منه على هذا الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر الذي وقّع في الثالث عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2023 مع ثلاثة آخرين بيان "مبادئ التضامن" ضد منتقدي إسرائيل، مثيرًا زوبعة انتقادات لموقفه المستغرب كفيلسوف فكرة "التواصل" وتأييده للكيان الصهيوني في فعله الإباديّ الوحشيّ الذي بدأ غداة "الطوفان". هنا يقول الدكتور عزمي إنّ بيان يورغن هبرماس "لا يستحق أي مناقشة حوارية، فالحديث عن بيان سياسي مقتضب يتركز أساسًا على تبرير تحديد حرية نقاد إسرائيل في ألمانيا في التعبير، ورفض ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة من إبادة جماعية، لأسباب متعلقة بألمانيا ذاتها وتاريخها، وأيضًا لسبب يبدو له بديهيًا، وهو أن الحرب الإسرائيلية على غزة، التي سمّاها "الانتقام بهجوم مضاد"، لا يجوز أن تكون محلّ خلاف. وبدلًا من توجيه النقد إلى الحرب الفعلية الجارية في الواقع، فضّل هبرماس التشديد على حرب افتراضية تجري بموجب "مبادئ توجيهية للحرب"، كما سمّاها، وهي "تجنّب سقوط ضحايا من المدنيين"، وأن يكون الهدف "إحلال السلام في المستقبل" (...)" (ص 112 - 113). هنا يوجّه الدكتور عزمي بشارة أولى ضرباته الفكرية لهبرماس بقوله: "لا أعتقد أن هبرماس يمتلك الغرور الكافي لكي يحسب إسرائيل منصاعة لمبادئه التوجيهية، لكنه وضعها على كل حال بوصفها شروطًا بلاغية لأغراض الصياغة، بحيث يبدو دعمه الحرب التي تخوضها إسرائيل مشروطًا، مع أنه غير مشروط. فليس للفرد الذي يدعم حربًا أن يضع شروطًا على الدولة التي لا تستشيره في كيفية دعم الحرب. إن دعم المثقف الفرد العلني للحرب هو دعم غير مشروط بطبيعته" (113). أمّا قول هبرماس "على الرغم من القلق على مصير السكان الفلسطينيين، فإن معايير الحكم تزيغ عن الطريق تمامًا عندما تُعزى نيّات الإبادة الجماعية (Genocide) إلى التصرّفات الإسرائيلية". هذا النفي الوقح لحصول الإبادة يردّ عليه الدكتور عزمي بالقول: "إنّ همّ هبرماس منصبّ على ألّا يُسمّى ما يتعرض له السكان الفلسطينيون إبادة جماعية، فالأمر – بالنسبة إليه – يتعلق بحسن استخدام المصطلحات (...) إذا لم يكن قتل عشرات الآلاف، غالبيتهم من النساء والأطفال على وقع التهديد بمعاقبة سكان غزة الذين لا يُعدّون مدنيين والتلويح بتهجيرهم والتسبّب في نزوح الملايين فعلًا، إبادة جماعية، فما هو؟ يمتنع الفيلسوف الألماني عن التحديد، بل حتى عن الإدانة" (ص 113).
أمّا مسألة "معاداة السامية" التي أقلقت هبرماس أيضًا، وخصوصًا في ألمانيا، فيعلّق عليها مساجله بالقول: "لا يُشغِل هبرماس ما يجري للسكان الفلسطينيين، ولا تصرّفات إسرائيل، بل ردود الفعل المعادية للسامية في بلده. ولا تعنيه أغلبية ردود الفعل الناقدة لإسرائيل وغير المعادية للسامية، وهو لا يكلّف نفسه عناء ذكرها" (ص 114)، مقدمًا مثل السياسيين والمثقفين والإعلاميين الذين تظاهروا في فرنسا ضدّ اللا سامية في الوقت الذي ترتكب فيه إسرائيل المجازر في غزة "والحقيقة أنهم لم يتظاهروا ضد أي شيء محدد يحصل لليهود لكونهم يهودًا، بل احتجاجًا ضدّ من يتكلّم على ما يجري في غزة ويحاولون فتح معركة أخرى لتمويه المجازر التي ترتكبها إسرائيل، ولإعادة رسم حدود حرية التعبير بالمناسبة لتنتهي حيث يبدأ نقد إسرائيل" (ص 116). ويوضح الباحث السبب الحقيقي لاستمرار اللا سامية والعنصرية العرقية في أوروبا في أوساط اليمين واليمين المتطرّف وهم حاليًا أشدّ المؤيدين لإسرائيل (ص 116). ويصف الدكتور عزمي بيان هبرماس ورفاقه بـ"المعيب والمنافق أخلاقيًا" عادًّا أن هبرماس صدق في أمر واحد فقط، وهو أن حرب إسرائيل "هجوم انتقامي" وفق تعبيره. كما يخص الباحث، في ختام هذا المحور، موقف أستاذة الفلسفة التركية المقيمة في أميركا شيلا بن حبيب المنتقد لحماس، بردّ مختصر، ليخلص إلى وصف "سقوط هؤلاء المفكرين في الامتحان الأخلاقي حين برروا حربًا شاملة تشنها دولة محتلة على الشعب الخاضع لسلطتها، ولم يضعوا حدودًا واضحة لما يمكن أن تقوم به دولة الاحتلال ضد المدنيين العزّل، حتى لو افترضوا أن الشعب رهينة حركة إرهابية، وليس رهينة الحصار والاحتلال" (119).
لا تكتمل مساجلة هبرماس إلّا بتوقّف الدكتور عزمي عند النقطة الثانية المتعلقة بالهولوكوست والعداء للسامية، مقرًّا بوجود علاقة فعلية بين المحرقة ضد يهود أوروبا واللا سامية  "وإن كانت اللا سامية لا تفسّر الأمر برمته، فلا لتفسير ظاهرة بحجم المحرقة من دون أخذ عوامل مثل نشوء الدولة الشمولية" (ص 119)، وطارحًا السؤال: "ما علاقة قضية فلسطين بالأمر؟"، مجيبًا: "لا توجد أي علاقة للفلسطينيين والعرب والمسلمين بهذه الجريمة التي ارتُكبت في أوروبا ولا بخلفياتها الفكرية والأيديولوجية. ويُعتبر الشعب الفلسطيني متضرّرًا منها، وإن كان ضحية ثانوية لها بالنسبة إلى الأوروبيين، فقبل الهولوكوست لم تحظَ الصهيونية بنجاح في إقناع اليهود بالهجرة إلى فلسطين، وأسهمت الجريمة الكبرى التي ارتُكبت ضد يهود أوروبا في زيادة معدلات الهجرة، وأيضًا في تعاطف الدول الأوروبية مع المشروع الصهيوني (...) الفلسطينيون هم بالنسبة إلى الأوروبيين أضرار جانبية في سياق حلّ المسألة اليهودية في أوروبا بإقامة دولة يهودية خارجها، في فلسطين تحديدًا" (ص 120)، مشيرًا إلى أنّ "التعامل الإسرائيلي الأداتي في استخدام المحرقة هو بالطبع إساءة إلى ضحايا النازية، وتقليل من شأن المحرقة ذاتها، لا يقترب من درجة إنكار المحرقة، ولكنّه من النوع نفسه (...) ما تقوم به إسرائيل باستخدام الهولوكوست هو فعل لا أخلاقي"  (ص 121)، مع التأكيد على أنّه لا ينبغي في الجهة الفلسطينية المقابلة "التقليل من شأن الهولوكوست، فهذا استخفاف لا مبرّر له بحياة بشر مضطهدين بسبب دينهم (عرقهم بالمفاهيم النازية)، ولا حاجة للفلسطيني إلى التقليل من شأن الهولوكوست لمناقضة الصهيونية، فهي لم تحصل في بلادنا، ويُفترض أنّ أوروبا وحدها تتحمّل وزرها" (ص 121) لافتًا الأنظار إلى أن ثمة "تواطؤ غير أخلاقي إسرائيلي – أوروبي يستفيد منه الطرفان، الأول، بتقمّص دور الضحية خارج أوروبا وإلقاء الذنب على الفلسطينيين أو العرب، في حين أنّ التخلّص من عقدة الذنب يُفترض أن يكون في محاربة العنصرية في أوروبا ذاتها" (ص 122).
حول "الكيل بمكيالين والسؤال عمّا جرى للقيم الكونية" يردنا الدكتور عزمي بشارة في كتابه القيّم والفلسفي بامتياز إلى جوهر السؤال الأخلاقي والقيميّ، مؤكدًا على أنّ "في العلاقات الدولية، لم يفرض القانون نفسه يومًا، ولا القيم الكونية. وظلت قيم الحرية والمساواة مواضيع للنضال من أجل تحقيق العدالة في إطار الدولة الوطنية" (ص 125). ليختم هذا الفصل بنظرة تفاؤلية: "إنّ القضية الفلسطينية قضية عادلة، وكذلك الحق في مقاومة الاحتلال، ويمكن، بل يجب، الدفاع عنها أخلاقيًا. وما انتشار ظاهرة الشباب المؤيد للقضية والمتضامن مع سكان غزة ضد همجية العدوان الإسرائيلي إلّا دليل على ذلك، فالحديث هو عن جيل أخلاقي ينفر من الأيديولوجيات الشمولية والعصبيات على أنواعها، ويحرّكه التعاطف مع ضحايا الظلم" (ص 127).

(يتبع)

٭ ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.