Print
راسم المدهون

"منزل الذكريات": نوفيلا الحياة والحب

29 سبتمبر 2024
آراء
يختار محمود شقير الزمن الفائض من العمر كي ينبش مغاوره وغاباته ليأتينا من هناك بهذه الـ"نوفيلا" البديعة والتي تقارب عقدا من الماس نتأمله طويلا ونغرق في تفاصيله وأبعادها وقتا أطول كثيرا من ذلك الذي أنفقناه في قراءة السطور وتقليب صفحاتها بحثا عن سطور أخرى. محمود شقير في روايته أو نوفيلا "منزل الذكريات" يجعلنا نتقاسم معه "جائزة نهاية الخدمة" التي تأتي بعد زمن من احتفاله بالثمانين من العمر لنكتشف أنها ببساطة بداية جديدة لها ضوء يلمع وينير ولها إبداع يتواصل ونتواصل معه.
في "منزل الذكريات" سنرى بطلي ياسوناري كاواباتا وغابرييل غارسيا ماركيز في روايتيهما "الجميلات النائمات" و"ذكريات عن عاهراتي الحزينات" لا بوصفهما أيقونتين تلمعان في الذاكرة والمخيلة وحسب ولكن بحضورهما كشخصيتين رئيستين في "نوفيلا" محمود شقير، وهما يأتيان كل مرّة باعتبارهما حقيقيين ولهما ما لباقي شخصيات الرواية من مكانة أدبية متوحدة في نسيج السرد الروائي. هي لعبة فنية حقا، ولكنها في الأهم والأشد ضرورة للتنويه والإشارة إلى استلهام فني يخلق تواصلا مع زمن الشيخوخة ذاته وسطوعه على ذلك النحو الذي لا ينسى كما عشناه مع الأديبين العالميين الياباني والكولومبي.
هذه الرواية الجديدة أخذتني (قليلا ومؤقتا) من رواية الكاتب الأخرى (والأهم بين كل أعماله) "مديح لنساء العائلة" وهي – إلى كونها رواية قصيرة- منحتني مساحة كبرى من تأمل العمر بوصفه حياة ملونة في كل مرّة ببريق مختلف أراه عند محمود شقير ينتصر على "كوابح" لا تحصى، تبدأ من العيش تحت الاحتلال، هو الذي أسميته يوما وباقتناع "حارس القدس الجميل"، ثم العيش في قيود الشيخوخة التي لم تنجح في إغرائه بالخلود إلى السكينة وهو الذي ظل على مدار نصف قرن ويزيد نجما أدبيا منذ قرأت قصته الشهيرة "خبز الآخرين" قبل أن التقيه ذات يوم من عام 1975 في برلين وكان عائدا من زيارة خاطفة لفنلندا بعد خروجه مبعدا على أيدي المحتلين من القدس ليواصل الكفاح على المستويين الإبداعي والسياسي ويحقق هذا الكثير الذي حققه لنا في أجناس كتابية مختلفة بين القصة القصيرة والرواية وأدب الأطفال وغير ذلك من الأعمال الجادة والمبدعة.





شخصيات "منزل الذكريات" يمكن رؤيتهم جميعا في مستويين واقعي ورمزي معا، أما أنا فسأقول إنني عشت معهم باعتبارهم حقيقيين ومن الواقع واحتفظ لنفسي بحق رؤيتهم رموزا يشيرون إلى شواهد لها حضورها السياسي في حياتنا مثلما لها تأثيرها العميق – بل والمصيري – على راهننا ومستقبلنا، وأزيد فأقول إن هؤلاء الرجال والنساء ومنهم الراوية ذاته هم نسخة حديثة من صورة مجتمعنا الفلسطيني في فلسطين اليوم، وهم يحملون بحسب أدوارهم ومواقعهم ولعهم بالحياة على النحو الذي تمنحه لهم ظروفهم العامة والشخصية وهم في "منزل الذكريات" يتحركون ويلعبون أدوارهم بأقصى قدراتهم وطاقاتهم، بل أقول إن الروائي ذاته ترك لهم كامل حريتهم لأن يفعلوا ذلك وهو يفعل ذلك كي يبسط لنا مشهده العاصف بدراما اجتماعية تتوغل عميقا في السياسة والشأن العام ولكنها تفعل ذلك كله بوعي لعله يحضر لأول مرّة بهذا السطوع في الرواية الفلسطينية الجديدة، فكل الشخصيات في "منزل الذكريات" والتي هي بالطبع تقليدية بحكم وجود أمثالها في الواقع، تقدم رؤاها ومفاهيمها وتصوغ حضورها بما يليق بانتباهات شقير العميقة للتحولات الكبرى التي أعادت تشكيل المجتمع الفلسطيني، والتي جعلت الرواية تذهب في اتجاه ملامسة عميقة لمرحلة الشيخوخة على هذا النحو غير المسبوق، والذي يحفر في المستويين الفكري- السياسي وأيضا الفني الأدبي ويجعل الرواية تعثر على "أقاليم زمنها ومكانها" بجدارة تنتسب إلى ولع بتحقيق ما هو جديد وما هو قادر على تحفيز وعي القارئ واستقطاب مخيلته للمشاركة في التفاعل مع الرواية وسرديتها.
هنا بطل روائي نراه مزيجا من روح "زوربا" وتوثبه وعشقه اللامتناهي للحياة وبين رجل فلسطيني عاش دهرا طويلا من آلام وعذابات شعبه في مواجهة الاحتلال والتغييب، وهو قد حضر لنا طيلة الرواية في سيرورة عيش تتلكأ بين الحلم والصحو بل بين الجموح والتوق للمغامرة وبين الاستغراق في التأمل واستعادة الماضي باعتباره حاضرا متواصلا. هكذا نفهم حضور العشق للزوجة الأولى التي غيبها الموت والتي تبرع الرواية في استعادة حضورها في صورة حيوية وسنرى أن استعادتها في حياة بطل الرواية وتصرفاته اليومية شكلت في الرواية معادلا لخلود فكرة الحب العميق الذي يفتح لصاحبه أبواب الحياة على مشاهد وأحداث أخرى نرى فيها الفوارق الكبرى بين صورة الحب وصور المتعة: في بيوت اللذة التي ارتادها بطل الرواية هناك دائما فاتنات "نائمات" أو لنقل بدقة أكثر منومات أو يدعين النوم، أي أننا أمام لوحة فيها خطوط لعبثية الحياة في مقام العشق العابر، السريع والمصطنع، ولكن الذي يحضر باعتباره يرمز أيضا إلى الولع بالحياة ولو من أبواب أخرى. العوالم الإنسانية في رواية "منزل الذكريات" هي أيضا مزيج التناقضات التي تجمع البسطاء والعاديين إلى الظواهر الشاذة التي نبتت كالفطر السام بفعل ظروف الاحتلال وما يتعرض له المجتمع الفلسطيني من اضطهاد وقمع.
لافت في الرواية "لعبة استضافة" رواية فلسطينية لكاتبين عالميين هما كما أشرنا كاواباتا وماركيز وهما شكلا بحضورهما وزخمه المستمر طيلة الرواية سبيلا إبداعيا حمل الكثير من براعة التواصل مع العالم على نحو إبداعي خصوصا وقد شكلا بحضورهما ككاتبين وبحضور أدبهما كعلامتين فارقتين مساحة لوعي العلاقة الأبدية بين الأدب الروائي وبين الحياة ذاتها، وأعتقد أن هذه الرواية بالذات فتحت أمام القارىء كتاب صفحات فلسطين ليس من خلال الحروب وملحقاتها من قهر واحتلال وظلم وجرائم حرب تتواصل هذه الأيام، ولكن أيضا من خلال إضاءة فردية لأولئك الذين يقبعون تحت ظلم الإحتلال، وإضاءة ذواتهم وأحلامهم الشخصية باعتبارهم بشرا قبل أي اعتبار آخر، ولعل محمود شقير بهذا ينتصر للأدب بمعناه الشامل، العميق والمخلص للحياة ذاتها، والذي يعلي قامة الفن ومقامه فوق الأيديولوجيا والشعارات السياسية في زمن فلسطيني وعربي عاصف اختلطت فيه المفاهيم وكادت سطوة "الجدانوفية" تطبع النقد بطابعها وتهدد الإبداع ذاته.
"منزل الذكريات" رواية تشبه اللهاث الحميم في برية أزهار نتبع ألوانها بمتعة ونتأمل مشاهدها بالكثير من التفاؤل.