Print
عزيز تبسي

"حمام البلقان": في قيمة وضرورة التصالح الديمقراطي بين الهويات

4 سبتمبر 2024
آراء

رغم عودتها البعيدة إلى ماضي السلطنة العثمانية والشعوب التي كانت تحت حكمها، إلا أن رواية "حمام البلقان" للروائي الصربي فلاديسلاف باياس (باجاك)- ترجمة: تسبيح عادل عبد السميع- كتبت في سياق تاريخي معاصر، تحت ضغط تداعيات انهيار تجربة الدولة اليوغوسلافية المتعددة القوميات والأديان، وانزلاق شعوبها إلى حروب أهلية، لازمتها تعبئة عنصرية وتحريض على الكراهية أكملا نيران عشرات المعارك والمذابح، التي أنهكت أبناء البلد الواحد، وسممت عيشهم، هؤلاء الذين جمعهم الكفاح المشترك للتحرر من الاحتلال العثماني، ومن ثم الاحتلال النازي، دعموها بألوف من الزيجات المختلطة وصلت إلى 20%، والآمال ببناء وطن الأخوة والمساواة والاشتراكية.
تمظهر الصراع السياسي بتعبئة هُويّاتية، ما عزز دافع الروائي للانتقال إلى أرض العدو لإنجاز بحث واسع تمحور حول الُهوية بوصفها سببًا للصراع، لا كونها شكلًا مزيفًا له، وعنصرًا تعبويًا بسمات شعبوية، لا تصمد أمام نقد جسور، يستند على وثائق التاريخ وحقائق الحياة اليومية.
الرواية روايتان منفصلتان في فصولهما، أولاهما تحدثت عن سيرة صقللي محمد المتداخلة مع تاريخ السلطنة العثمانية في فترة حكم السلاطين سليمان القانوني (1520 ــ 1566)، وسليم الثاني (1566 ــ 1574)، ومراد الثالث (1574 ــ 1595)، الذي عاصرهم وشغل منصب الصدر الأعظم بزمن من عهودهم. وأخرى معاصرة تجري أحداثها في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، أي بعد تفكك الدولة اليوغوسلافية.
جال خلالها الروائي في جغرافيا البر الأوروبي، وانتقل منها إلى أقاصي الشرق (اليابان والهند)، والغرب (أميركا وكندا)، متحريًا تداخل الثقافات في الشعر والموسيقى والأديان، ودورهم في إنتاج مساحات مشتركة بين الشعوب التي أفضت بالضرورة إلى إنتاج هُويّات جديدة معاصرة.
أسس الروائي قواعد روايته على مسيرة الشاب الصربي صقللي محمد باشا المعروف بـ"محمد باشا سوكولوفيتش"، أو "باجيكا سوكولوفيتش"، عمل احتاج منه بحثًا في سيرة الرجل والأمكنة التي تنقل بها، والإنجازات التي حققها. وحضر إلى جانبه "خوجه سنان معمار باشي" الذي اختطفته الدفشرمة من ماضيه اليوناني ــ الأرثوذكسي في إحدى القرى التابعة لولاية قيصرية، ونقلته إلى قلب الدولة العثمانية.
بدايتهما متشابهة من "نظام الدفشرمة" ضريبة الطفل، أو ضريبة الدم، قانون منح السلطة العثمانية الحق بانتزاع الأطفال من أهلهم وتربيتهم وفق قواعد عسكرية صارمة وإعداد ديني إسلامي ليكونوا مقاتلين في جيوش السلطنة. ولحاجة السلطنة للمقاتلين، أخذ الشاب باجيكا سوكولوفيتش، وهو في عمر الثامنة عشرة، حينها كان يدرس اللاهوت في دير أرثوذكسي.
بدأت حياته الجديدة مع مائة طفل في أدرنة، العاصمة القديمة والمقر الشتوي للسلطان الأعظم، استبدل اسمه إلى "صقللي محمد"، الذي دوّن على دفتر التعداد، وأُمر أن يستجيب لهذا الاسم حين النداء عليه، وبوشر بتعليمهم اللغة التركية، ومن ثم الفنون القتالية، وأجري لهم الختان، وانتقلوا لتعلم دروس الدين الإسلامي وطقوس ممارسته اليومية، ليحصل بعدها باجيكا مع عشرة من زملائه المتفوقين على مواقع مميزة في إدارات السلطنة.




اقترح الصدر الأعظم إبراهيم باشا المنحدر من أصول يونانية على السلطان سليمان القانوني في أثناء الإعداد لحملة عسكرية على المجر عام 1526 إحضار الفتيان البالغين، لإخضاعهم لتجربة عملية تضاف الى علومهم النظرية التي تلقوها خلال السنوات الخمس التي قضوها في أدرنة. هناك رأوا القتل والدم من دون أن يساهموا فيه، إذ جرى وضعهم في الصفوف الخلفية للحفاظ على حياتهم. التقى خلالها بسنان يوسف، الذي بدأت تظهر إبداعاته في الهندسة العسكرية، كتشييد الجسور، وشق الطرقات، وبناء التحصينات.
منح اللقاء باجيكا فسحة للتأمل في النقائض التدميرية التي تصنعها الحرب، والتعمير والترميم الذي يأتي بعدها.
كما في سبر أسباب الحملة على بلاد المجر، بكونها تحويل تمرد جنود السلطان في القسطنطينية بعد تخفيض منحهم المالية وامتيازاتهم المتعددة، إلى حرب خارجية، منحوا خلالها الحق بالنهب، والاحتفاظ بحصص كبيرة من الغنائم.
أتيح لباجيكا بعد ثلاث سنوات من تجربته العسكرية الأولى مرافقة الصدر الأعظم الذي أمسى كبير باشاوات الروملي، والقائد العام للجيش العثماني، في حملته لحصار فيينا.
وفرت له فرصة جديدة للقاء سنان يوسف، الذي بات يلقب بالمعمار. شاهدا معًا الجسر الذي خطط له ونفذه على نهر ماريكا، حيث أمن من خلاله للجيش العثماني العبور الآمن إلى الضفة الأخرى، حمى بها أرواح آلاف الجنود الذين كادوا يفقدون حياتهم قبل أن يصلوا إلى أرض المعركة، والآلاف الذين كانوا يفقدونها في أثناء أوامر الانسحاب منها.
أشار المعمار سنان إلى أهمية إدراك المشكلة، ومن ثم البحث عن حل لها، وعدم إدراك المشكلة لا يعني عدم وجودها، وأكد على أهمية دور الجسر في تسهيل الربط بين الشعوب في سنوات السلم، ومنحها فرصة التواصل.
عينه السلطان في عام 1546 أدميرالًا للإمبراطورية العثمانية، خلفًا للأسطورة البحرية خير الدين بربروسا، اليوناني الأصل، الذي تحول من قرصان يثير الرعب في البحر المتوسط إلى قائد الأسطول العثماني.
علم صقللي محمد أن كثيرين سيتفوقون عليه في الحرب، لهذا وظف طاقاته على شؤون التخطيط والتنظيم، التفاوض وصياغة الاتفاقيات. وترسخت في قناعاته أن المهارة ليست في إنتاج الأفكار، بل بتحويلها إلى واقع ملموس، وترسيخها كنجاح. اتخذ قرارته بتوسيع الأسطول وتجديده، وزيادة عدد قطعه البحرية، ليكون في جهوزية لتنفيذ أي قرار عسكري يتخذه السلطان العظيم. هذا ما سيحقق انتصارًا مبهرًا على الجيش الصفوي بفضل السفن والقوارب السريعة التي وفرها للجيش العثماني لعبور بحيرة "وان".
عين بعدها في منصب الصدر الأعظم، وتزوج، رغم فارق السن الكبير، أسمهان، ابنة السلطان سليم الثاني، وحفيدة السلطان سليمان القانوني.
لاحقه قدر تمازج الهويات، وكان يعلم أن جدة زوجته روكسيلانا، ابنة قسيس أرثوذكسي روسي، عرفها التاريخ العثماني باسم هاسكي خُرم. جلبت عليه المراتب العليا، الحسد والأعمال الكيدية، وحاولت التسلل مما رأته نقطة الضعف في سيرته، ماضيه المسيحي، وكان يتغلب عليها دون عناء. حج إلى بيت الله أكثر من أربع مرات، وشيد من ماله عددًا من الأوقاف الخيرية، كما دعم الكنيسة الصربية.



صارح مرة أحد هؤلاء (لاله مصطفى باشا)، وهو مثله من أصول صربية، ليعرف منه سبب كرهه وكيده له: لأنني أراك دومًا "باجيكا"، لا أخشى ازدواجيتك، أو خيانتك الإسلام، لكنني لا أطيق السهولة التي تنحاز بها إلى جانب الصربي والعثماني، المسيحيين والمسلمين في الوقت نفسه. أنا غير قادر، كصربي الأصل مثلك، على فهم كيف يمكنك أن تكون مسيحيًا لله، مؤمنًا بإله المسلمين، فأنت إما هذا وإما ذاك!
أجابه صقللي باشا: ولكنني لا أتمنى أن أكون إما هذا وإما ذاك، أتمنى أن أكون نفسي.
قتل صقللي محمد باشا وهو في عامه الرابع والسبعين على يد أحد أتباع طائفة حمزة المتعصبين، التي ينحدر مؤسسها ومعظم أتباعها من البوسنة، كما أنهم جميعًا من المنتقلين من المسيحية الأرثوذكسية إلى الإسلام.
سعى الروائي إلى إيجاد مخارج للعنة الهويات، والتطهر من آثامها، تارة بالاستحمام بالمياه المعدنية المتدفقة من أعالي الجبال قبل وصولها إلى حمام البلقان، بعدما حملها خصائص خيالية وقدرات استشفائية تصل الى إخصاب الأرحام الجافة، وتارة بالعودة الى الأبيقوريين، وإعادة إحياء مذهبهم في السعادة.
ولأنه يعرف بخبرة الباحث أن الحوارات لا تأتي بنتائجها ولا معارفها المضافة إلا بحوارات تحترم العقل والتاريخ، وإلا تحولت الى حوارات طرشان... ذهب إلى حوارات عميقة مع صديقه الروائي التركي أورهان باموق، الذي انشغل مثله بموضوع الهويات، وقدمها في روايات "القلعة البيضاء"، و"اسمي أحمر"، وكتابه عن إسطنبول... وعبر إلى الروائي أمين معلوف، الذي اشتغل على الموضوعة ذاتها في عدد من الروايات، وكتاب مستقل "الهويات القاتلة"، وانتقل إلى مصر ليستكمل الحوار مع الروائي جمال الغيطاني، ليتعرف من خلاله على قراءة أخرى للاحتلال العثماني لبلد جمعته معه العقيدة الدينية الواحدة، التي لم تحل دون نهبه واستغلال موارده وترحيل معظم حرفييه إلى إسطنبول، ونتائج كل ذلك على تراجع الصناعات في مصر، وزوال كثير منها.
ولكون الهُويّة عنصرًا متحولًا، يتضمن مجموعة عناصر: الانتماء العرقي والديني واللغة، وسردية تاريخية للجماعة ــ الشعب، بتقاليده ورموزه وأنماط حياته، ومنعكساتها الثقافية في الأزياء والطعام والأدب والموسيقى.
تظهر الهوية هنا عاجزة عن تفسير ذاتها، ولهذا تحتاج إلى وسائط معرفية من خارجها، كما هو المستوى الثقافي ــ الأيديولوجي في عمارة السلطة.
احتضنت الرواية باقة مزهرة من الأمنيات، لتؤكد على ضرورة العيش المشترك بسلام وجداني، واحتفال كبير بعالم الأشياء التي تحيط بالبشر، ورغبة في هزيمة العالم الذي يحاول ترسيخه الأشرار.