Print
فارس اشتي

السياسة في كتاب "الأخلاق في الفكر العربي والإسلامي"

8 سبتمبر 2024
آراء
أتناول هنا كتاب الدكتور محمد علي العريبي من الباب الأثير لدي، أي باب السياسة، لا من الباب الفلسفي الذي ولجه المؤلف. وقد تناول كتاب "الأخلاق في الفكر العربي والإسلامي" (جدة: دار المنهاج، وبيروت: دار طوق النجاة، 2024) موضوعاته ضمن ستة فصول: نهوض علماء المسلمين لاحتواء تراث السابقين في مكارم الأخلاق سواء في القرآن والسنة أو الموروث العربي، أو الفكر اليوناني؛ تأصيل علم الأخلاق في الفكر العربي والإسلامي؛ التنظير العقلي الأخلاقي عند أعلام الفلسفة العربيّة والإسلاميّة؛ تصويب مسارات الفكر الكلامي والفلسفي؛ الأخلاق التطبيقية؛ الفكر الأخلاقي في الكتابات العربية المعاصرة.
اعتمد المؤلّف عرض ما ورد عند الفلاسفة ضمن كل عنوان، معرفًا بالفيلسوف وإنتاجه ورأيه بالأخلاق، بدءًا من شعراء ما قبل الإسلام (لا أستسيغ مصطلح الجاهلية) ثم القرآن والسنة النبوية، معرجًا على المدارس الفلسفية اليونانية (الفيثاغورية، الأبيقورية، الرواقية، الأفلاطونية، والأرسطية) التي تأثر بها الفلاسفة العرب، ليكمل العرض، عربيًا، عبر مرحلة تقوم على معيار فلسفي فكان تأصيل الفكر (المعتزلة والأشعرية) مرحلة أولى، والتنظير العقلي (الكندي والفارابي وابن مسكويه) مرحلة ثانية، وتصويب مساراته (الغزالي، الرازي، ابن باجه، ابن رشد، وابن خلدون) مرحلة ثالثة، وكان مفكرون معاصرون (العوا، الجابري، إمام عبد الفتاح إمام، طه عبد الرحمن) مرحلة أخيرة، وخص الفصل ما قبل الأخير للأخلاق التطبيقية عند أصحاب المهن، وبينهم رجال السياسة.
ويمكن القول إنّ ما عُرض عن الأخلاق في الموروث العربي والقول القرآني والنبوي لم يقدما قولًا سياسيًا واضحًا في الاجتماع السياسي، وإنما قول يدرج الفرد في التعاون وحسن التصرف مع الآخرين، ويستثنى من ذلك حكمة سياسية "لا جماعة لمن اختلف"، وآيات قرآنية تحضّ على الشورى وطاعة أولي الأمر والعدل يمكن البناء عليها، ولم يتطرّق المؤلف، وله عذره، إلى تجربة دولة المدينة.
وبخلاف ذلك كان ما وصل إلى العريبي في مرحلة لاحقة من الفكر اليوناني، فقد عرض المؤلف بناء الفيثاغورية منظمة وقول الأبيقورية بضرورة الدولة (ص 86) واعتبار السيطرة والمال والمديح، وهي مسار السياسيين، ليست من اللذات (ص 88). وكان زينون الرواقي واضحًا في القول بالجمهوريّة المشاعيّة (ص 93)، مفضلًا سلطة الملوك على تحكم الغوغاء (ص 99) وتبلورت السياسة مع أفلاطون في "الجمهورية" والقوانين.
ويمكن القول إنّ الأشعرية، ممثلة بالماوردي، أوّل من تطرق إلى الاجتماع السياسي، وإن كان بصيغة ما يجب أن يكون، لا ما هو كائن، والنصيحة، رابطًا السياسة بالأخلاق، في كتبه: نصيحة الملوك، الأحكام السلطانية، قوانين الوزارة، سياسة الملك، خلافا لمعاصريهم ومنافسيهم المعتزلة، الذين لم يظهر العرض اهتمام أي منهم بالسياسة.
كما كان الفارابي أول فيلسوف عربي اهتم بالكتابة السياسية وغلبت على إنتاجه السياسة كما يجب أن تكون، وكانت له: آراء أهل المدينة الفاضلة، السياسات المدنية، رسالة في السياسة، وكان المعيار الأخلاقي أساسًا في تصنيف المجتمعات (ص 260) والقول بالمدينة الفاضلة، وغاية الدساتير ليس قهر الناس وإكراههم على الطاعة بل غرس الفضائل والخصال الحميدة (ص 267). ولم يجاره معاصروه في الكتابة السياسية؛ فالكندي والرازي لم يتطرقا إليها وابن مسكويه يلخص دستوره في الحياة، المطل على السياسة، "آمن في سربه، معافى في جسمه، عنده قوت يومه" (ص 290). وابن سينا لم يظهر العرض رأيه في السياسة، رغم إيراد رسالة السياسة ضمن رسائله في الحكمة (ص 314).




واكتفى الغزالي بين المتكلمين المتأخرين بالقول بأنه لم ير فيما قاله الفلاسفة في السياسات ما يخالف الشريعة فجميع كلامهم لا يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية، وإنما أخذوه من كتب الله المنزلة على الأنبياء ومن الحكم المأثورة عن سلف الأنبياء (ص 342).
وكان فلاسفة المغرب العربي في مرحلة تالية أكثر اهتمامًا بالاجتماع السياسي، فمن أصل ثلاثة عرض رأيهم في الأخلاق كان اثنان منهم واضحين في التطرق إلى السياسة: ابن رشد وابن خلدون.
فابن رشد ألف كتاب الضروري في السياسة، وهو تلخيص وشرح ونقد كتاب الجمهورية لأفلاطون، ويتلخص نقده باستحالة الكمالات الإنسانية العقلية والفكرية والخلقية في  شخص واحد، لذا الحاجة إلى التعاون؛  فالإنسان مدني بالطبع، وطريق تحصيل الفضائل بالاقتناع أو بالإكراه، ويشترط تربية ما لحراس المدينة تجنبهم الرذائل وتوفر الوقار والصدق والبعد عن الملذات، وأول شروط الرئاسة الثبات على الرأي، والمدن يمكن أن تكون حكيمة ومضادة للحكمة وفضائل مدينة الحكمة: العلم، الشجاعة، العفة والعدل (ص 393- 409).
وقد يكون ابن خلدون أول من كتب في السياسة انطلاقا من ما هو كائن، لا مما يجب أن يكون، فتناول دور العصبية في العمران في طوري البداوة والحضارة وطبيعة الانفراد بالملك، ووضع شروطًا للحاكم هي الخلال الحميدة، وهي سر قوته واعتبر العدالة أساس العمران (ص 413- 430).
وخلص الدكتور عريبي في فصل الأخلاق التطبيقية إلى الأخلاق في المهن، وخص بالذكر الفارابي وابن خلدون والماوردي والجاحظ والغزالي، وعرض رأي  الفارابي في أخلاق المدينة الفاضلة ومضاداتها، ورأي ابن خلدون بمنازع الملك، ورأي الماوردي والجاحظ بأخلاق الملك، ورأي الغزالي بآداب الملك مع الرعية، وآداب الرعية مع الملك.
واختار في الفصل الأخير أربعة مفكرين معاصرين خصّوا الأخلاق بحيز من كتاباتهم، اثنان منهم لم يتطرقا للسياسة؛ عادل العوا الذي ألف وكتب وترجم بكثرة عن الأخلاق، نلحظ سياسة في العرض مثل قوله "الأخلاق ثمرة الاجتماع وهدف الحياة الاجتماعية" (ص 529)، وطه عبد الرحمن كتب "سؤال في الأخلاق"، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، وكان تركيزه على علاقة الدين بالأخلاق، ناقدا الفهمين الغربي والتقليدي لها وداعيا إلى نظرية أخلاقية إسلامية حديثة (ص 617-645).
وثالث المعاصرين، محمد عابد الجابري، خص الاجتماع السياسي بغالبية كتبه، وأبرزها، تصريحًا: العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، العقل السياسي العربي، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، المشروع النهضوي العربي، الديموقراطية وحقوق الإنسان، ولم يظهر العرض العلاقة بين الأخلاق والسياسة في كتابه الأخلاقي الوحيد "العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظام القيم في الثقافة العربية" (ص 553- 579).
وكان إمام عبد الفتاح إمام أكثر المعاصرين تعرضًا مباشرًا للعلاقة بين الأخلاق والسياسة فخصّها بكتاب "الأخلاق والسياسة"، وكان بمعنى ما تتمة لكتابه "الطاغية"، ويدعو في كتابه الى ضرورة الفصل التام بين السياسة والأخلاق، فالسياسة مجالها سلوك الجماعة الذي يفترض السعي لبناء الشخصية الإنسانية المتكاملة عبر نظام حكم ينتجه الشعب ويصنع القرار فيه، ويكون هدفه رعاية مصالح الناس عبر الممارسة الديموقراطية الذي تتطلب وعيًا سياسيًا وتعالج أخطاء الديموقراطية بمزيد منها والالتزام بالقوانين وطاعتها. أما الأخلاق فمجالها سلوك الفرد وهي مطلقة وثابة ومصدرها شعور الفرد (581- 616).
ويثير عرض العلاقة بين السياسة والأخلاق في الكتاب قولان:
  1. إنّ الإنتاج الفكري عامة، وبالأخص في الفلسفة والسياسة، شديد الارتباط بتطور أطر الاجتماع السياسي، فمن الطبيعي، والعربي في إطار الاجتماع القبلي، أن لا تحضر كتابات عن الدولة، ومن الطبيعي حضورها مع تشكل الدول.
  2. إنّ إدراج ما كتبته الغالبية المطلقة من الفلاسفة والمفكرين عن الشروط المثلى للاجتماع السياسي وللملك وللمدينة ضمن الكتابة غير الواقعية  والتمنيات يجانب الدقة من ناحيتين؛ ناحية ظروف الإنتاج التي لا تتيح حرية الكتابة وناحية أخرى، وهي الأهم، إن المواصفات المثلى التي ننشدها تعني ضمنًا  أنها غير موجودة عن الحكام.

ويمكن القول إنّ تناولي الكتاب من موقع سياسي وتتبع العلاقة بين الأخلاق والسياسة عند من عرض من الفلاسفة لا تغني عن قراءته من موقع فلسفي يغني الكتاب ويظهر جدارة المحاولة التي أقدم عليها.