Print
أمجد ناصر

عناقيد الغضب: دمٌ متوَّجٌ على عرش الأمان في "قانا"

20 أبريل 2018
استعادات

لم أنعم سوى بيومين من السلم في بيروت، في هذه العودة المتعثرة.  في اليوم الثالث عادت الى المدينة أسوأ ذكرياتها: اجتياح عام 1982. كأنني على موعد مع هدير الطائرات الحربية الاسرائيلية الذي لم تشهده سماء بيروت منذ الخروج الفلسطيني الى بحر مخفور بالمارينز. ومع أن الجنوب اللبناني لم يهدأ يوماً إلا أن بيروت تـُركت لترفع فيها الدولة اللبنانية العائدة من منفاها الداخلي الطويل قواعدها وتبسط قوتها.

بيروت حدُّ الدولة الأكثر وضوحاً فلم تمسَّها الطائرات. كفّت الطائرات الاسرائيلية هديرها عنها أربعة عشر عاماً استهلك خلالها لبنان خمسة رؤساء: اثنان قتلا واثنان نفيا وواحد باق جددت ولايته خلافاً لاحكام الدستور.

الجنوب عالم له مواضعاته الخاصة. فهو حقل رماية مسوّر بالنسيان. الموت فيه عادي لا يثير شغف كاميرا ولا يجتلب فضول صحافي. وفي زمن سلام "ربّ الجنود" صار الجنوب أكثر من أي وقت مضى منصة لاطلاق الرسائل الاقليمية. فلما سمعنا بالقصف والقصف المتبادل في الجنوب عرضاً في راديو سيارة أجرة أو قرأناه خبراً جانبيا في الصحيفة اعتبرناه حدثاً من "حواضر البيت"، أو في تقدير آخر، رسالة في طريق البريد السوري ـ الاسرائيلي الذي ليس من الضروري أن يمر، دائماً، في دمشق أو تل أبيب، بل لم يمر بهما، على هذا النحو، منذ صمتت المدافع السورية على الجبهات عام 1973. اشتد تبادل النار في الجنوب ولكن بيروت ظلت تنام، مطمئنة، الى فكرة أنها لم تعد ممراً للطائرات الحربية الاسرائيلية. هناك اتفاق اقليمي ودولي، غير مكتوب، لتحرير بيروت من صورتها القديمة. ومن مصلحة الاسرائيليين، قبل غيرهم، أن يعززوا هذا الميل المشحون، هذه المرة، برغبة أهلية خالصة. فاللبنانيون، عموماً، لا يفهمون اليوم لماذا تبقى جراحهم مفتوحة دون سائر الجوار ولماذا لا يصيح الصائح العربي أو الاقليمي صيحته ضد اسرائيل و "الاستكبار العالمي" إلا في الفضاء اللبناني؟

مطمئنين الى أن مدينتهم لن تبلغها الرسائل المبتغاة من الاشتباك بين اسرائيل و "حزب الله" في الجنوب نام أهالي بيروت ثلاث ليال فقط. وستبرهن السماء التي ترعى فيها بضع غيوم بيضاء أنها صالحة لـ "نزهة" مريحة للطائرات الإسرائيلية. اللامفكر فيه حصل.

***

بعد جولة لا هدف لها إلا تفقد الأمكنة في محيط الحمرا ذهبت الى جريدة "السفير" التي تراجع شعارها القديم "صوت الذين لا صوت لهم" الى الصفحة الأخيرة ليحل محله على الصفحة الأولى شعار جديد يقول: "جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان". لم يتغير موقع "السفير" في نزلة البريستول ولا تغير محيطها. الأمر الوحيد الملحوظ هو وجود حراسة من قوى الأمن العام اللبناني عند مدخلها. سابقا كان هناك مقاتلون من التحالف الوطني اللبناني ـ الفلسطيني الذي كانت الصحيفة تعبر عن خطه السياسي العريض. ولم يكن وجود مسلحين، يومذاك، مجرد شارة وجاهة لرئيس تحريرها بل ضرورة أمنية. فطلال سلمان الصحافي اللبناني ذو المنشأ القومي العربي خاض الحرب على رأس صحيفته قريباً من التيار الوطني وردائفه العربية. وقد تعرض للاغتيال أكثر من مرة كما تعرض مبنى الجريدة، هو أيضاً، لاطلاق صواريخ. كانت بيروت الغربية، بحكم التعدد الفصائلي الذي وصل الى حد التشرذم، أكثر عرضة للاختراق من نظيرتها بيروت الشرقية التي أحكم فيها القائد الكتائبي الراحل بشير الجميل قبضته وصهر تعددها الفصائلي بمرجل دموي، تحت رايته. فصارت هناك مرجعية أمنية واحدة بينما ظلت المرجعية الأمنية في بيروت الغربية متعددة وأحيانا متنابذة.

لم يبق في صحيفة "السفير" سوى قلة من الذين أعرفهم. فقد شهد الوسط الصحافي اللبناني هجرة وتبدلات جذرية. فهناك من استقطبتهم الصحافة العربية المهاجرة وهناك من امتصتهم الصحافة الخليجية، ومن بقي منهم تداولتهم الصحافة المحلية التي تكاد تنعدم بينها الفوارق السياسية هذه الأيام.

هكذا لم يبق أحد في القسم الثقافي في "السفير" ممن عرفت سابقا. فالياس خوري الذي أدار هذا القسم نحو عشر سنوات انتقل الى صحيفة "النهار" ليصدر ملحقا ثقافيا اسبوعيا وهاجر محمد علي فرحات الى كندا أول الأمر ثم استقر في صحيفة "الحياة" في لندن، أما عباس بيضون الذي كان كاتبا مشاركا فانتقل الى ملحق "النهار" الثقافي ولم يعد محمد العبد الله يظهر بجرمه الضخم في مبنى الصحيفة. بينما تسلم القسم الثقافي في "السفير" الشاعر بول شاؤول الذي كان من كتاب "النهار".

فعمن سأسأل في "السفير"؟

سألت عن الشاعرة والصحافية عناية جابر التي التقيتها قبل نحو عامين في مهرجان جرش في الأردن وقرأت لها، لاحقا، مجموعة من القصائد اللافتة.

فوجئت عناية جابر بوجودي في بيروت وهي التي تعرف صلتي القديمة بالمدينة وكذلك فوجيء عبيدو باشا، الكاتب والصحافي والمسرحي النشط. فمعرفتي به ترقى الى أواخر السبعينات عندما كان شاباً صغيراً يتلمس مواقع خطاه في الساحة الفنية وليس في الوسط الصحافي.

أظن أن مكتب القسم الثقافي في "السفير" في الطبقة الرابعة لا يزال هو نفسه لكن أحدا من الحرس القديم لم يعد هناك.

وجدت إلى جانب عناية وعبيدو أربعة من الشعراء الجدد: اسكندر حبش وبلال خبيز وعلي مطر وحسان الزين. كانوا يشربون الشاي أو القهوة ودخان سجائرهم يضبب المكان. سررت لرؤية هذا التقليد القديم لا يزال سارياً. فدور الصحف العربية في المهجر لا تحض على الزيارة. بل انه لا يمكن دخول بعضها دون موعد مسبق و "كارت" الكتروني تفتح به الأبواب، هذا إن لم يخضع الزائر الى التفتيش أيضا!

ليس هناك، لحسن الحظ، شيء من تكنولوجيا القهر هذه في بيروت. فلا يزال الشاعر الناشىء يمضي بقصيدته الى الصحيفة مباشرة والكاتب يحمل نسخة من كتابه الجديد ويقدمه الى المحرر الثقافي. ولا يزال المثقفون يجدون متسعاً من الوقت ورحابة في الصحيفة ليشربوا شاياً في مكاتبها ويتجاذبوا أطراف الحديث. ليس الصحافي أو الكاتب موظفاً تمتص الجريدة روحه على مدار ساعات العمل الرسمي وتلفظه في آخر النهار خائر القوى لا يكاد يتبين موضع خطاه في قطار الأنفاق أو في الحافلات المكتظة بالخليقة البائسة مثله.

لا. ليس الصحافي في بيروت كذلك. مع ان المدينة وناسها يلهثون وراء عيش يزداد عسراً كل يوم. رغم كل شيء لمـّا تزل هناك فسحة للزيارة وشرب الشاي والتدخين والحديث الذين يتناول أعمالا أدبية منشورة هنا وهناك.

فشكراً لعالمنا الثالث، لا تزال نعمة وقته سابغة!

 

غواية بيروت

 

في مكتب القسم الثقافي في "السفير" كنا نحو سبعة أشخاص، سمعت حسان الزين يتحدث بالهاتف مع شخص في قسم آخر في الصحيفة. وورد اسم "حسين بن حمزة" عرضاً. فسألت حسان الزين عنه فقال إنه يزور زميلاً في مبنى الجريدة فطلبت منه أن يسأله الحضور. قال هل أخبره أنك موجود هنا فقلت له لا. فقط دعه يأتي. وفعلا وصل بعد دقائق. كان وجهه يبدو أنحف مما كان عليه في الصورة التي أرسلها الي من حلب قبل بضع سنين. هنيهة تطلع خلالها حسين بن حمزة الى الزائر الغريب الجالس بين مثقفين ينفثون دخان سجائرهم في الهواء. ثم أقبل عليّ يضحك. لم التق بن حمزة من قبل. ولكنه ترك عندي احساسا بالصداقة التي تصنعها، لوحدها، الكلمات. لعله الشاعر الوحيد الذي أهدى إليّ واحدة من قصائده دون أن يكون بيننا أي تماس. كانت تلك لفتة جعلتني أتأمل في حياة الكلمات. ليس أمراً هينا أن تنقل كلماتك حياتها الى شخص آخر. أن تنبض فيه. أن تنسج الكلمة بينك وبين الآخرين خيوط حياة غير مفكر بها من قبل. بهذا الاحساس الذي لا يتكرر كثيرا التقيت الشاعر السوري حسين بن حمزة الذي جاء الى بيروت مهتدياً، كما قال، بخريطة ذهابي اليها أول مرة. كان بن حمزة قد قرأ فصلا من سيرة شخصية لي عن بيروت نشرته في أحد أعداد مجلة "نزوى" الثقافية.

فقال لي ضاحكاً: كان معي من النقود أكثر بكثير مما كان معك عندما جئت الى بيروت.

ثم أضاف: من "مطعم الأندلس" إلى "نزلة أبو طالب" مشيت مهتديا بالخريطة التي رسمتها لبيروت يوم وصلتها أول مرة. مثلك لم أكن أعرف أحداً ولكنني جئت. وها أناذا في بيروت منذ سبعة أشهر.

أدهشني أن تكون المجلة التي يصدرها سيف الرحبي في مسقط قد وصلت الى حلب وصار صدى خطوتي الأولى في بيروت حافزاً لشاعر آخر سيأتي من الأطراف بعد عشرين سنة.

إذن فصورة بيروت، رغم الرصاص الذي خردقها، لا تزال تهتف لشعراء بالغواية نفسها التي هتفت بها إلينا أول مرة.

الى بيروت يحمل شاعر الداخل العربي قلبه ومخطوطته ويمضي. تغويه صورة المدينة كما رسمها عشاقها وحاملو وشمها المتشظون في الافاق، فيأتي. يصنع أصدقاء في المقهى واسماً في الجريدة. لبيروت في الذاكرة العربية مجدٌ أعلى من عُرف نهارٍ متغطرس.

هيا يا حسين بن حمزة. فمن قبلك جاء شعراء الى بيروت لمجرد رؤية سعيد عقل أو نزار قباني، يوسف الخال أو أدونيس، أنسي الحاج أو خليل حاوي، محمود درويش أو معين بسيسو.

من "السفير" الى "النهار" ذهبنا حسين بن حمزة وأنا. كنت أرغب في رؤية الياس خوري وبسام حجار. كان الياس مسافراً الى أمريكا لمناسبة ترجمة إحدى رواياته الى الانكليزية. وجدنا في مكتب ملحق "النهار" الثقافي بسام حجار الصديق الذي لم أره منذ أربعة عشر عاماً. لم يبق من سمته القديم ما يدل عليه: لا لحيته الجيفارية، ولا جسده النحيل. لكن عينيه الهادئتين اللتين تعكسان توتر أعماقه لا تزالان تملكان الايحاءات نفسها.

وها نحن نلتقي يا بسام بعد أن جزنا الأربعين. أقول له. أنا دارت بي الدنيا دورة كاملة وأنت لا تزال تواظب على سفرك اليومي من صيدا الى بيروت ومن بيروت الى صيدا. الرحلة نفسها التي كنت ألقاك، أحيانا، في منتصفها عند "كافيتيريا الجندول" في كورنيش المزرعة تحت ثقل الظهيرات، تتدلى من كتفك المائلة حقيبة جلدية ومن لحيتك الجيفارية الخفيفة تفوح رائحة السجائر الفرنسية. تكون قد غادرت صحيفة "النداء" وأكون خارجاً، للتو، من مجلة "الهدف". نلتقي عند المفترق الذي يؤدي الى "جسر الكولا". أنت تذهب الى كراجات صيدا وأنا الى "فوييه الدومنيكان" مشيا على الاقدام للقاء "هند".

لا أتذكر بسام حجار إلا على هذه الهيئة. وفي هذا المكان بالذات. لا أذكر أننا التقينا في مقهى فهو لم يكن يطيق البقاء في بيروت. يأتي إليها لأداء عمله فقط. كنا في السن نفسها. كان هادئاً يحرك أطرافه ببطء، وكنت متفجراً أخضُّ الهواء بيدي، كان يكتب قصيدة نثر وكنت أكتب قصيدة موزونة، كان في صحيفة الحزب الشيوعي، وكنت في مجلة الجبهة الشعبية . معا أصدرنا أولى أعمالنا الشعرية هو عن "دار الفارابي" وأنا عن "دار ابن رشد" (تأملوا هذين الاسمين المستعادين لاستئناف جانب تقدمي من التراث لم يؤسس مشروعاً).

يضحك بسام حجار بشيء من الصعوبة، مبعثها الألم على الأغلب، عندما أبسط له جانبا من صفحة الماضي.

كان هناك أمل، كانت لنا أحلام. فماذا تبقى من كل ذلك؟ وقعنا من أعلى جيادنا. الضوء الذي لمحناه في صخب فتوتنا طلع خُلْباً. نمشي الى الأمام مدفوعين بقوة العصف ورؤوسنا الى الوراء. أي صورة من صور بلادنا تمثلنا الآن. عماذا تعبر كتابتنا وأي قراء لها، كيف نفهم ما يكتبه اللاحقون علينا الذين لم يروا إلا حطام المدن والأحلام والأفكار الكبيرة؟

على هذا النحو الرثائي المختلط تداعى حديثي مع "بسام" تقطعه، بين حين وآخر، نظرة خاطفة مني الى يديه اللتين كانتا ترتجفان. لفتت نظري هذه الظاهرة التي رأيتها تغزو أبناء جيلي في المهجر والأوطان سواء بسواء.

انتقل بحديثي مع بسام حجار الى راهن بيروت فأجده متشائماً. الوضع المعيشي يرخي سدولا ثقيلة على مشهد المدينة. يقول لي "بسام" إن اللبناني يحتاج الى ثلاثة أعمال كيما يتمكن من العيش يوماً بيوم.

يلاحظ، أيضا، أن الطبقة الوسطى حاملة الوعي والأفكار تنسحق تحت وطأة العيش. سيكون مآلها مآل نظيرتها في مصر.

أسأله: أهذا ما يراد للبنان؟

فيجيب: ربما يكون الأمر مقصوداً. فلا شيء يبرر هذا العيش المكلف والبائس في آن. سحق الطبقة الوسطى، كما تتبدى مقدماته الآن، سيسلم البلد، دون ضجة، الى أمراء المال اللبنانيين والخليجيين بعد أن قلبته ذات اليمين وذات الشمال أيدي أمراء الحرب. فمن سيملك القدرة على الاعتراض، بل قل من سيجد وقتاً ومنبراً ليعترض؟ بفضل الحريري، يضيف "بسام" سيصير لبنان سعودياً، وهو بدأ بالفعل. تحت يافطة مشاريع إعادة الإعمار الى الثقافة. الصحافة والتلفزة ودور النشر كلها ستقع تحت طائلة البترودولار، لقد استمالوا، على هذا الصعيد، أعرق المؤسسات الصحافية اللبنانية مباشرة أو من طريق مشاريع جانبية.

وماذا عن السوريين؟ هل يرضيهم هذا التغلغل ولبنان جزء من "مجالهم الحيوي"؟ لا أظن. يجيب "بسام"، فالمشروع السعودي يتصادم، في جوانب عدة، مع الرؤية السورية، لكن السوريين مضطرون إلى غض الطرف عن هذا التغلغل لحاجتهم الى الدعم السعودي على الصعيد الاقليمي بعد انفرادات السلام العربية الاسرائيلية.

ليس ما يقوله "بسام" مختلفا لرأي عام في أوساط المثقفين اللبنانيين بصدد التحولات التي يشهدها بلدهم، فقبله كان رياض نجيب الريس قد أفصح عن هذا الأمر، بل لعله أن يكون أول ضحايا النفوذ السعودي المتزايد في لبنان. لم يتمكن رياض الريس من مواصلة الكتابة في أعرق منبر صحافي لبناني بسبب "الفيتو" السعودي ضده. البترودولار أعطة أكله على الصعيد الثقافي في مصر، خصوصا بعد حرب الخليج، ها هو يفعل الأمر ذاته في لبنان. لن ينسى سدنته أن الوعي المضاد لهم استجمع قواه، ذات يوم، في هذا المكان بالذات.

لا يحتاج المرء عناء ليكتشف ذلك. فالأمثلة تطفو على السطح. فقد تصادف وجودي هناك مع زيارة قام بها الى بيروت رجل الأعمال الكويتي عبد العزيز البابطين الذي دعا الى حفل عشاء في مطعم "السمرلاند" لمناسبة صدور "معجمه الشعري" فتدافع اليه عدد كبير من المثقفين والاعلاميين. أما مكاتب الصحافة الخليجية في بيروت فهي منتشرة بكثرة. وتحت ضغط الضائقة الاقتصادية فالكل يتعامل معها. هذا عدا عن النفوذ المباشر داخل المؤسسات الاعلامية والتشريعات الحكومية التي تضع خطوطاً حمراً لحرية التعبير.

لقد ضيقت الرقابة المتزايدة على المصنفات الأدبية والفنية هامش الحرية الذي ساهم، بين عناصر أخرى، في صنع سمعة بيروت كمنبر للاختلاف والتعدد في الرأي والفكرة. فصارت تُصادِرُ أو تمنَعُ، من التوزيع، كتباً أو صحفاً لتخطيها الحد الذي رسمته الدولة للاخلاق والعقيدة ولمصالح لبنان على المستوى الاقليمي.

واليوم تستعد الدولة الى طرح مشروع لتنظيم الإعلام مثير للجدل. فمن أصل أكثر من خمسين محطة تلفزيون خاصة سيرخص لنحو ست محطات وكذلك الأمر في ما يتعلق بالاذاعات الخاصة التي تزيد عن المئة وخمسين! ومن الصعب التكهن، الآن، بما ستسفر عنه معركة ارادة الدولة المتصادمة، لا محال، مع إرادات لاعبين ومتنفذين اقليميين في "الساحة اللبنانية".

الثابت، في معظم التقديرات، أن إرادتين لهما الغلبة الآن: إرادة البترودولار وإرادة المجال الحيوي. التاريخ، أيضاً، إرادة مغيبة لم يحسب لها المقتدرون حساباً.

 

بيتي في "الطريق الجديدة"

 

تهيبت الذهاب الى "بيتي" في محلة أبو شاكر بل والى منطقة "الطريق الجديدة" كلها. كنت كمن يقدم رِجلاً ويؤخر أخرى في حملة فتح لقلاع غامضة. لن أجد شيئا من أطياف الذاكرة في الأزقة التي تتكالب عليها الرطوبة وخطى العابرين. الكائنات التي كانت تَهِبُ ذلك الكوكب الصغير الضوء والعتمة والصخب هجرته الى الأبد. تفرَّغ المكان من أثقاله. من ساكني نهاراته ومطولي لياليه.

نحو الحادية عشرة كنت استقل "السرفيس" الى "الطريق الجديدة". مرت سيارة الأجرة من الطريق المعهودة: الروشة، كلية التربية، مستديرة اليونسكو حيث تمثال حبيب أبو شهلا أحد رموز الاستقلال في لبنان. لكن التمثال لم يعد موجوداً. شلع من أساسه إبان تبادل شلع الهالات والرموز. نصنع من الحجر رمزاً ثم تصير له حياة نقتصُّ منها في ما بعد. كأننا نريد أن نريق دم الحجر. أن نراه يسيل من الكتلة الصلدة التي احتملت، بصبر الطبيعة العجيب، خبط أجنحة الليل والنهار وتعاقب الفصول المضني. تذكرت أنوف التماثيل الرومانية التي جدعها العرب في بلاد الفتح. نبهني الى ذلك، حسن خضر الذي قادني قبل سنوات في جولة في المتحف التونسي. جدع الأنف تحطيم نهائي للكبرياء، حتى لو كانت من حجر!

لم تكن سيارة الأجرة تجاوزت "مستديرة اليونسكو" كثيراً عندما سمعنا، فجأة، صوت انفجارات قوية. تمهلت السيارة قليلاً. كان بعض السابلة يتطلعون الى السماء. يتابعون نقطة بعينها. نظرت من النافذة الى حيث يشخصون. كانت هناك طائرات. تساءل ركاب السيارة عن الأمر. إنها طائرات عمودية على ما يبدو. غير أن علوها والبالونات التي كانت تتركها في ذيلها ترجح أن تكون اسرائيلية.

منذ حصار بيروت عام 1982 لم تشاهد في سماء بيروت طائرات اسرائيلية على هذا النحو. لم أطق البقاء في السيارة التي تورطت في زحمة استثنائية. أصوات المكابح والأبواق تشتبك بأصوات البشر الماشين أو الواقفين على أرصفة محتها خطاهم. بشر يطلعون من أزقة "مار الياس" الضيقة الرطبة. من بيوت أعلاها بحجم قامة رجل. متاهة أخرى تفور في هذا الضحى المنذر بما لا تحمد عقباه. رائحة الشواء تنبعث من عربات ومطاعم مرتجلة وتتداخل في ثياب فضفاضة لرجال ريفيين لا بد أنهم قدموا من حوران السورية. نزلت واشتبكت في هذه المتاهة المثقلة بالروائح والأصوات والألوان، كوفيات ترد أصحابها إلى منابتهم الأولى بين السبخات وقطعان الماشية، عسكريون تعطيهم قبعاتهم وشاراتهم حصانة مزيفة مثل الساعات الذهبية التي يتفحصونها على مفرش بائع يزين لهم دقتها ونوعها، نساء يرفلن بروائح مطابخهن وقسوة رجالهن، ثياب داخلية رخيصة، عربات خضار تعرض اكواماً من الفول الأخضر النازل في أول موسمه، ثياب مستخدمة يتفحصها شراةٌ مُتربون.

كأن أزمنة تعاقبت علي وانا اعبر جانباً من هذه المتاهة. عبرت "جسر الكولا" الذي لم يكن جاهزاً للاستخدام يوم كنا في هذه المدينة. تحت هذا الجسر رأيت "عماد الرحايمة" أكثر من مرة الى جانب راجمة للصواريخ أثناء الحصار.

هذه "بناية النصر" التي كان في دورها الأرضي مقر الاتحاد العام لطلاب الأردن. هنا كان حاجز لـ "الكفاح المسلح الفلسطيني" يمعن النظر في العابر الى "جمهورية الفاكهاني" وهنا كانت "مكتبة الطليعة" .. وهذا هو "مطعم الأندلس". ظل الاسم فقط ولكن لا شيء فيه بقي كما كان. لا نادله "أبو خليل" بقامته الطويلة وسمته المحبب ولا طاولاته الخشب وكراسيه القش الواطئة ولا رواده الذين كانوا خليطاً من طلاب جامعة بيروت العربية والمقاتلين وسائقي سيارات الأجرة على خط بيروت ـ دمشق ـ عمان ولا كبايات شايه الكبيرة ولا صحون فوله الفخارية البنية اللون ولا صور الشهداء الفلسطينيين الملصقة على واجهته. لا شيء. لا شيء. بل لا أحد. كنت الزبون الوحيد الجالس على طاولة بلاستيكية بيضاء في ركنه الذي يطل على "شارع فليفل". طلبت قهوة وأخذت أجيل النظر في الأركان. عائلة بيروتية تتكون من رجل وامرأته وابنهما تدير المطعم. صار مطعم طلبات للمحال والمصالح التجارية الصغيرة المجاورة أكثر منه مطعماً للجلوس.

مرة أخرى دوت الانفجارات. هرعت عائلة المطعم الى الشارع، كذلك تدفق على الأرصفة خلق كثيرون يرون بالعين المجردة الطائرات وهي تتمترس في نقطة في السماء ومن ذيلها تنطلق بالونات حرارية. عادت العائلة الى المطعم. أدار الرجل مفتاح الراديو. جاء شخص ليتصل بهاتف المطعم فوجده بلا حرارة. كانت الانفجارات قريبة جداً. لكنني لم أبرح مطرحي. قالت المرأة للرجل: ما دخلنا نحن بحزب الله. حزب الله يضربهم في الجنوب، وهم يضربون بيروت. يا خيي شوها القصة . شو هيدا.. شو هيدا ما بدنا نخلص بقى! صوت الانفجارات التي دوت في الضاحية الجنوبية أعادت الى ذهني ذكرى انفجارات أخرى حصلت هنا بالضبط في ذلك الصيف الدامي. كأنها البارحة. صوت الطائرات لا يزال يئز في أذني. الموت دان دنو حبل الوريد والرحمة عالية علو الكواسر المعدنية التي تتسلط على السماء بصلف. الطائرات. الطائرات. من يستطيع أن ينسى الطائرات التي يمشي في ركابها الرعب والموت. في انقضاضها العمودي. في الغبار المنبعث من العمائر والمصائر المنهارة. أكاد أسمع أصوات القذائف التي كانت ترسلها البوارج وهي تندفع من فوهات مدافعها في عرض البحر وتظل تعوي الى أن تصل الى أهدافها.

يومها لم تكن هناك سماء. ولم تكن هناك شمس. كانت الطائرات فقط تجيء من الشرق والغرب وتنقض على الأرض التي ترتعش يسبقها هدير يمزق الأحشاء. كان الفتيان المسمرون الى مدافعهم المضادة يوجهون الرصاص الغزير الى الكواسر المعدنية. لا شيء يحدث سوى المزيد من الانقضاض والبالونات الحرارية التي تخلفها الطائرات وراءها كفقاعات من الصابون. كسخرية جارحة. ولم يحدث شيء في الفضاء العربي. فيالق "يشوع بن نون" الميكانيكية تمشى إلى أريحا أخرى. تحاصرها من كل جانب فيما الكهنة المسلحون يدكون أسوار المدينة بالليزر بدلا من الأبواق. وأسوار بيروت كانت من لحم ودم.

كثيرون تحدثوا بعد ذلك عن البطولة وأنا العائد الى مسرح الموت لا أتذكر الآن سوى الخوف. أتذكر اللحظات التي تأرجحت فيها الروح بين القذيفة والصاروخ، بين انقضاضتين للكواسر المعدنية. تعود إليّ تلك اللحظة التي أفرغ فيها القلب من الخفقان عندما اندفع الينا في قبو "المجلس الثوري لحركة فتح" غبار "بناية أبو إياد" المجاورة. رغم ماركسيتي وجدتني انطق بالشهادتين. سيأخذ الرب وديعته عما قليل. لكنه امتحن معدنها المهزوز، رازها وتركها الى حين.

طلعنا بعد أن خف القصف قليلا لنجد البناية متقوضة كعلبة من الورق المقوى. كان ذلك أول استخدام للقنبلة الفراغية.

ها هي البناية التي كان فيها مكتب القائد الفلسطيني "أبو إياد" كما تركتها الطائرات الاسرائيلية قبل أربع عشرة سنة. طبقات من الركام المائل يظهر منه العصب الحديدي الذي كان يشبك الاسمنت بعضه ببعض. نسفت حياة كان يسترها هذا الاسمنت: دمى الأطفال، مخادع الزوجية، رفوف الكتب، أدوات الزينة، الرسائل المتبادلة بين حبيبين، المطابخ، الثياب التي كانت تخفق بحياة خاصة بها في الخزائن. ها هي كلها تثوي في مقبرة كونكريتيه شاخصة أمام أعين الرائحين والغادين. ليس بمقدور أحد أن يفكك تشابك هذه المصائر. اتحادها في المصير النهائي. وها هو قبالتها ركام البناية التي كان يقع في دورها الأرضي "مقهى أم نبيل" المقر الدائم لعلي فوده ورسمي أبو علي ورفاقهما الرصيفيين. هنا كان للقهوة طعم صباحات تبشر بأخوة تغمر هذا العالم.

أين كانت إذن المجلات ومحترفات الرسم، حضانات الأطفال ودور النشر، المدارس والأعلام، المشاغل وكاميرات السينما، قصائد الشعراء وخطابات تأبين الشهداء والشعارات المسكونة بالعدل والحرية؟

إن لم يوجد كل ذلك ذات يوم هنا فأين كان إذن؟ لكن أين الفراغ والفجوات والشقوق ومساحات الهجران والآثار التي تدل على الرحيل الجماعي، على الحياة الشاملة التي هجرت المكان؟

كأن انقطاعا لم يحدث في هذه الذبذبة البشرية المتصلة. لا مسامات ولا فجوات ولا فراغ ولا انقطاع. لا آثار سوى في العمائر الضخمة التي فرغتها القنابل من الهواء وتركتها ركاماً ملأت شقوقه وفراغاته الأمطار والغبار وما تحمله الريح من نتف وأجزاء تخلت عنها الحياة في أمكنة أخرى.

لم يكن الخارجون في ذلك الصيف الدامي قلة، كانوا شعباً ظلت الحافلات الكبيرة تنقلهم من الملعب البلدي الى المرفأ أياما. دموع وأرز وأزهار وعناق طويل وتبادل تذكارات، كاميرات تلفزيونية وصحافيون من كل اللغات والسحن، فضوليون ونساء وأطفال يتشبثون بأذيالهن، آلام وشمس أواخر آب، عرق ورطوبة، رصاص غزير ورائحة بارود. أيام حشر خرجت فيها خليقة صغيرة من الأقبية والملاجىء والقبور على أصوات النفير ومضت الى البحر. سرنمة شاملة للأرواح والأشياء، للمهجور والمأهول، للخفة والكثافة.

أين الآثار والعلامات التي تدل على وجودهم في هذا المكان الذي لا فجوة فيه ولا شغور بل اتصال وتراص وتلاحم؟

أزمنة كثيفة عبرتها الى أن وصلت إلى "زقاق أم زكور" مع حسين بن حمزة المتخفف من مقاصد رصد الأثر والعلامة.

تراجعت رغبتي في الصعود الى "بيتي".  أكتفي بالنظر اليه في الطابق السادس من كعب البناية، غسيل الحالّين محلي يتدلى من حبل معلق على الشرفة الصغيرة. النوافذ

بنايات عدة طلعت أمام وبجانب البناية التي كنت أسكن فيها. لم تعد "بقالة وليد" وحيدة في الزقاق. هناك لحام وصائغ و بنشرجي و ميني ماركت ومحمصة للبن اخترقت الحيز الضيق بروائحها وأدواتها وطنينها وبدلت حياة الزقاق المنتسب الى تلك السيدة البيروتية قوية الشكيمة "أم زكور" التي كانت تفض النزاعات بلسان لا يتوانى عن استخدام الشتائم البذيئة فينسحب المتنازعون الى بيوتهم مدركين القوة الخفية التي تظللها. فهي، دون غيرها، من يملك دالة على" ابراهيم قليلات" زعيم حركة "المرابطين" الناصرية منزعاً سياسياً والسنية مذهباً.

فاذا كان الزقاق مسمى باسمها فإن المحلة كلها، مسماة بأسمه: أبو شاكر، أو هكذا يقال.

لم يعد ابراهيم قليلات (ابو شاكر) موجوداً ولا مقاتلوه الشرسون الذين اقتحموا فندق "الهوليداي إن" و "طهروه" من القوات الكتائبية في حرب السنتين. فقد نفي إلى فرنسا بعد أن كسرت شوكته "حركة أمل" الشيعية في إطار انكسار شامل للقوى السنية الفسيفسائية التي ناصرت الفلسطينيين ولم تندرج في الهبوب السوري الكثيف على بيروت.

خرجت هذه القوى التي مثلت الشرائح البيروتية السنية الدنيا من المعادلة السياسية تماما وتمكنت البرجوازية السنيّة التي لم تلجأ الى السلاح يوماً من استعادة زمام المبادرة مرة ثانية.

أعود وحسين بن حمزة القهقرى. ننزل من جانب "الملعب البلدي" الذي طالما شهدت بالقرب منه اشتباكات مسلحة تنشب فجأة بين قوات "المرابطين" ومن تسول له نفسه من القوى الأخرى التغلغل في "المحلة". نصل الى "همبرغر علاء الدين" حيث كان يتمترس سليم بركات في منتصف المسافة بين شقته في "بناية القصر" وعمله في الاعلام الفلسطيني في "شارع الطيبي". يكون بصحبته سعدي يوسف أو جليل حيدر أو نبيل البقيلي. تراه مستنفراً على الدوام، يكاد يهجم على الهواء بقبضته، وبين حين وآخر يتحسس مسدساً كبيراً لا يجهد في اخفائه، بل يشعر الجالسين معه، بشيء من التهديد المضمر، بوجوده تحت الحزام. استخدم سليم بركات قبضته ولكن لم يقيض له استخدام مسدسه.

طبعت الرثاثة المنطقة بطابعها، خصوصا، تلك البنايات الاسمنتية التي أقيمت على عجل. صار لها شكل الهياكل العظمية المهددة بالتداعي في أي لحظة. لكن شيئاً لا يعيق التكاثر والأنفاس والبلوغ والحب المتبادل بين شرفتين والأمل الذي يطلع من بين الشقوق والانكسارات.

الأمل، يا لبروقه وهتافاته المضللة.

***

كان مخططاً أن أذهب الى صيدا برفقة توفيق رمضان، المناضل السابق في "منظمة العمل الشيوعي اللبناني" والذي تربطني به صلة قربي. فلصيدا ومحيطها مطرح خاص في ذاكرتي. هناك تعرفت إلى مقاتلين صاروا حطباً في مواجهات تغير فيها العدو ولم تتغير، ومن نجا منهم مضى به قدره لاجئاً الى حواف الغابات الاسكندنافية. لكن القصف الاسرائيلي اشتد على الجنوب وامتد الى بيروت وبدت موجة من النزوح تلوح في الأفق. فبعد أن أغارت الطائرات الاسرائيلية على الضاحية الجنوبية في بيروت لم يعد الاشتباك محدوداً كما كنا نظن. هناك استهدافات أخرى وراء توسيع نطاق الضربات ودفع الحد الأمني الاسرائيلي الى العاصمة. لم أذهب الى الجنوب، لأن حركة السير صارت معكوسة: من الجنوب الى بيروت. كان عباس بيضون قد ذهب الى صيدا وعاد سريعاً، فأهله لا يزالون يقيمون هناك. اتفقنا على اللقاء في "ملحق النهار الثقافي". وذهبت. وجدت في مكتب الملحق الشاعر بلال خبيز الذي يشغل منصب سكرتير تحرير فيه. كنا قد التقينا، على نحو خاطف، في جريدة "السفير" لكننا لم نتبادل الحديث. ينتمي بلال خبيز الى جيل الثمانينات الذي وجد أن تطلعات النص الأدبي اللبناني السابق عليه عربية. فبيروت يومها كانت عربية، بمعنى انشباكها العضوي في المشترك العربي: القضية الفلسطينية، الصراع العربي ـ الاسرائيلي، بقايا أحلام الوحدة، سؤال الهوية، لكن بيروت تغيرت كما تغيرت عناوين الصراع في لبنان والقوى المنخرطة فيه. صارت شواغل البلد والناس أكثر محلية مما مضى. أسأل بلال عن النص الأدبي لجيله: كيف يشتغل والى أين يتطلع ومما يستمد نسغه ومراجعه؟

فيقول أولا هو نص أدبي لبناني منكفىء الى الداخل. ليس له هموم يستمدها من خارج المحل ولا يتطلع الى لعب دور ما في المسعى الحداثي أو التجديدي العربي. حتى لغته العربية هي لبنانية تنهل من اليومي والدارج ولا تحفل بأي فصاحة. فلا معنى ولا موقع للفصاحة والتماسك في واقع ركيك مفكك.

أسأل خبيز: ولكن أين تلتقي لبنانية هذا النص مع دعاوى لبنانية سابقة؟

فيجيب: ليس هناك وجه شبه، في الجوهر، بين ما يكتب الآن وما دعا إليه أصحاب النزعة اللبنانية في الاربعينات (ميشال شيحا، سعيد عقل، فؤاد مالك). الكتابة الراهنة تعبير عن الشرخ والانكسار ونبذ المزاعم الكبيرة، وهي تقريباً بدون دعاوى أدبية بينما النزعة القديمة كانت أيديولوجية الدوافع وذات محمول خرافي. والغريب أنها استخدمت لغة عربية أكثر فصاحة مما كان سائداً في الكتابة العربية القومية الطابع. لا تنشغل الكتابة الأدبية اللبنانية اليوم بسؤال الهوية. بل بسؤال اليومي والتفصيلي في مكان مشظى. فسؤال العروبة في لبنان لم يعد مطروحاً، أقله، على الكتابة.

كما لا ترثي هذه الكتابة ولا تتفجع على الحلم الذي مضى، فليس لدينا، بعد، أحلام ولا مشاغل كبيرة. وليس لدينا أبطال أو أمثلة. الكبير والجوهري والكوني لا نعرفه. نعرف هذه الحياة التي نباشرها كل يوم في مكان مزقته الحروب والعصبيات. لا النزعة التغريبية الفجة ولا صخب القومية العربية بقادرين على اجتذاب الكتابة الى أي من خندقيهما المتواجهين. فهما ببساطة لم يعودا موجودين.

وعندما أسأل بلال خبيز عن مثال لهذه الكتابة، عن مراجعها الداخلية يجيب: معظم النصوص الشعرية والقصصية التي تكتب الآن هي على النحو الذي وصفته. إنها المثال على ما اسميه بـ "اللبنانية". وهي الجانب الوحيد الذي تتجلى فيه الوحدة في مجتمع متنابذ. لكن إذا شئت أن أسمي لك مرجعا ففي الشعر هناك وديع سعادة وفي السرد هناك حسن داود.

وماذا عن عباس بيضون والياس خوري؟

يجيب: إنهما عربيان . كتابتهما، حتى وإن استمدت من المحل بعض دمها وعصبها، فهي ذات تطلع عربي. منشبكة بالمسعى الكتابي على الصعيد العربي تؤثر وتتأثر به.

ولكن أليس هناك من مؤثر عربي على هذه الكتابة؟ أسأل.

فيقول: لا أكاد المس ذلك. لا أحد من روائيينا يكتب على غرار الرواية المصرية ولا من شعرائنا (الجدد) على غرار أدونيس أو محمود درويش، أو سعدي يوسف أو حتى... جيلكم.

أفهم وصف بلال خبيز بل وأتفهم، أيضاً، لماذا تنكفىء الكتابة في لبنان الى الداخل وتعتصم بالمحلي وتدير ظهرها للمرحلة السابقة. فقد عرف تاريخ الأدب عربياً، وعالمياً، مثل هذه التحولات، المحمول بعضها، على محمل الصدمة ورد الفعل حيال الحروب والكوارث الكبرى.

فما شهده لبنان من تشظ وتفتيت في النسيج الاجتماعي وانهيار في الدعاوى السياسية والفكرية للفرقاء وردائفهم في الخارج سيطبع مستويات عدة من البنية الفوقية بطابعه وفي صميم ذلك الكتابة بصفتها التعبير الأكثر حساسية واستجابة لالتقاط الاهتزازات والتوترات.

مثل هذا الأمر حدث في العراق بعد حربين دمويتين، إذ تنصلت الكتابة من مزاعم الحداثة وصرامة الشكل وصار الشعر، خصوصاً، يستمد مراجعه من متون وهوامش غير شعرية بالمرة.

أذكر أنني التقيت الشاعر العراقي صلاح حسن في عمان قبل أعوام ودار بيننا حديث مماثل لما دار بيني وبلال خبيز، وقتها قال حسن إن قصيدة جيله لا مرجع خارجياً لها ولا هي متأثرة بالشعر العراقي السبعيني او الستيني بل بأهوال الحياة التي عاشها الشعراء جنوداً على جبهات الحروب.

وبدت لي، وقتها، قصيدة الجيل الشعري الثمانيني في العراق مضادة للشعر. قصيدة ضد القصيدة، أو بالأحرى ضد الأشكال والمشاغل التي أنجزها الستينيون والسبعينيون عراقياً وعربياً.

أفهم ما يعرضه بلال خبيز من دعاوى جديدة لـ "الكتابة اللبنانية" ولكنني لم أفهم هذه الكتابة التي قرأت طائفة منها منشورة في الصحف اليومية أو في مجموعات شعرية صادرة حديثاً وجدتها في مكتبه أو تلك التي أخذتها من رشا الأمير مديرة "دار الجديد". وليس مبعث عدم الفهم صعوبتها أو غموضها بل، للمفارقة، سهولتها إن لم أقل ركاكتها. فهي تكاد تتخلى عن المنزع التأليفي الذي لا أعرف، شخصياً، كيف تستقيم الكتابة الأدبية من دونه. كما أنها لا تجد حرجاً في نبذها الأدبي أو الاسلوبي باعتبارهما من مزاعم الابداع. كأن هذه الكتابة ليست سوى تعبير عار يستمد مبرره من قبضه على اللقطة أو الحالة في لحظة تفتتهما. لذلك يحتاج الناقد أو المتفحص هذا النتاج، على ما أظن، الى مقاربة يتضافر فيها النقدي بالسسيولوجي.

 

عناقيد الغضب

 

كثير من الذين التقوني في بيروت قالوا لي ها أنت تعود وفي ركابك اجتياح اسرائيلي جديد!

لا أملك دفعا لهذه المصادفة المظللة بشيء من القدر والمكتوب. فالاشتباكات التي لاحت محدودة أول الأمر تحولت، تحت اسمها الرمزي "عناقيد الغضب"، الى عملية اسرائيلية دموية واسعة النطاق جعلت أطراف العاصمة ومحيط القصر الرئاسي ووزارة الدفاع شريطاً حدودياً جديداً.

من قضاء صور الى النبطية ومحيطها الى القطاع الأوسط و البقاع الغربي وصولاً الى بعلبك وبيروت كانت "الأباتشي" تنقضُّ ( تأملوا هذا التحويل الغادر لاسم الضحية النموذجية إلى رمز للقتل!) تاركة وراءها بقعاً وأشرطة من الدم البرىء. دم المطمئن في بيته والذاهب إلى حقله والحاضنة أطفالها.

لم يتأخر بعض المعلقين الصحافيين اللبنانيين عن رد "عناقيد الغضب" الى التوراة : "هلم يا شعبي ادخل أخاديرك واغلق أبوابك عليك. توار قليلا الى أن يجوز السخط. فإنه هوذا الرب يخرج من مكانه ليتفقد إثم سكان الأرض ضده فتكشف الأرض عن دمائها ولا تستر قتلاها بعد (...) في ذلك اليوم يفتقد الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لاوياثان الحية المقومة ولاوياثان الحية الملتوية ويقتل التنين الذي في البحر. في ذلك اليوم غنوا لها أنت كرمة خمر. أنا الرب حارسها في كل لحظة أسقيها ولئلا يفتقدها مفسد أحرسها ليلاً ونهاراً. إنه ليس فيَّ غضب، فمن قاومني بالقتاد والشوك في القتال فإني أهجم عليهما وأحرقهما جميعا. بل ليتمسك بعزتي. ليعمل معي سلما. ليسالمني . (نبوءة أشعيا).

أكانت هذه النبوءة نصب أعين الجنرالات الذين جردوا حملة الدم؟

دمٌ من أجل السلام.

ليسالمني.

دمٌ في سيارة الاسعاف،

ودمٌ في "سحمر"،

ودمٌ متوَّجٌ على عرش الأمان في "قانا".

لا تكفَُّ الحروب عن تغطية الجريمة بالمقدس.

لا تستقيم دون أن تستر سوأتها بالكلمات والرموز: "سلامة الجليل"، "عناقيد الغضب"، "نبوءة أشعيا"، جون شتاينبك.

السلام.

السلام.

هذا السلام

يا له من مذبحة.

 

 

*عن محلق النهار الثقافي

نيسان (ابريل) 1996