Print
ميسون شقير

ذكرى ميلاد سنية صالح ورحيلها.. شعر من ماء ونار

21 أبريل 2020
استعادات
سنية صالح، الشاعرة السورية التي لم تأخذ حقها من الحياة، مبدعة تحفر عميقاً في كل من يقرأها، وتدهشه بأنوثة مطعونة في صميمها، طافحة بالشعر والتفرد والسبق والهوية والأمومة.
ولدت في 14 نيسان/ أبريل 1935 ورحلت في نيسان عام 1985، بفارق "غابات تعاني آلام الولادة"، وأم تخبئ مفتاح قلبها في البحر، هي سنية المثقفة الثائرة العاشقة للشاعر السوري محمد الماغوط، والمظلومة شعرياً وإنسانياً بسبب عشقها، والمقهورة بسبب سرطان عشش فيها مثله مثل الظلم والخذلان.


نيسان لا ينتهي
حين بدأتُ بقراءة سنيّة صالح، بفضول امرأةٍ تقرأ امرأةً، عرفت أنها، بكل ما فيها، متميزة، لكنني لم أتوقع أن تستطيع سنية سجني داخل نصها بعد كل هذه السنوات من رحيلها المر، وأن تقدر بذكائها وصدقها أن تخترقني كسهم. بحزنها المغري الشهي، وشاعريتها الصادمة، أدخلتني بين كلماتها، محدثةً فيّ خراباً جميلاً حاداً مؤلماً، لكنه خرابٌ عميقٌ وخلاق، هذه المرأة التي ولدها وأخذها نيسان، تحدث في من يقرأها نيساناً لا ينتهي.
سأحاول، هنا، أن أدخل مفارق اللغة والأسلوب والشاعرية والخصوصية لشاعرة أعطت الشعر جسداً من ماء ونار، وماتت من البرد والعطش، وأيضاً لامرأة راهنت على الثقافة، وعلى

الشعر الحقيقي، لكن الحب والشعر خذلاها مثلما خذلتها الحياة نفسها. وسأحاول أن أحلل أهم مراجع ومنابع روح سنية الشاعرة، وتأثير كل من هذه المنابع على لغتها ورؤاها.
المنبع الأول، وهو أكثر المنابع تأثيراً على نتاج سنية، ماضي سنية الذي تمثل في طفولة معطوبة وناقصةِ الدمى، كما تقول أختها خالدة سعيد في مقدمة كتاب الأعمال الكاملة لسنية صالح الصادر عن وزارة الثقافة السورية، هذه الطفولة الناقصة جعلت شعرها معجوناً بالحزن والصدمة، إلّا أنه عكس وبصدقٍ مذهل تاريخ حزن بشري كامل. في يوم ولادتها، دُفن أخوها الذكر الوحيد، وبدأت أمها تفقد السمع نهائياً، ثم أخذت حالتها الصحية والنفسية تسوء حتى ماتت تاركة خلفها طفلة بطفولة معطوبة، طفلة لا تحاكي العالم، بل تخزن أوجاعها، طفلة لن تستطيع حين تكبر أن تكون، أو تكتب، إلا مع ذاتها، طفلة بقيت حاضرة في كل أعمال سنية مثلما بقيت هذه الأم ــ الشجرة الأولى ــ حاضرةً.

تقول سنية:

الليالي المظلمة
خلقت للألم والذكرى
بين الثياب والعطور
تبكي حمامة مذعورة
حمامة يُقال لها
أمي

 

شاعرية فطرية
أما المنبع الثاني الذي نهلت منه تجربة سنية فهو شاعريتها الفطرية، وحساسيتها التي جعلتها قادرة على كشف ما وراء قشرة العالم، وعلى الدخول إلى النفس البشرية، ما جعلها قادرة على تقديم نص شعري صادم أصيل، وعير متكلف، نص يأتينا من كل الجهات، وهذا ما جعلها

مبكراً جداً تفوز بمسابقة جريدة "النهار" لأفضل قصيدة، بوجود كل من أدونيس، وأنسي الحاج، كأعضاء في لجنة التحكيم، حيث ذكر أنسي الحاج أن هذه الشاعرة تعرف كيف تقدم العالم عارياً.

عاجزة أن أعيدك إلى مخيلتي أيتها الغابة
فأية عبارة حكيت للأشياء المنسية لحظة الغروب
وأية ورقة صمّمت لحظة البرودة
وبأي حوار فاجأتك الفصول..

شاعرية سنية القادمة من موهبتها في الدخول إلى الطبيعة وأنسنتها، جعلت نصها نصاً نابضاً دفاقاً ومؤثراً ينتمي إلى الحداثة، من دون أن يفقد توازنه وتماسكه، ودون أن يضيع في إنتاج الغرابة لأجل الغرابة، بل هو نص يعرف تماماً ما يريد أن يقول:

سلافة
تهز شجرة الغيوم
فتسقط الدموع كلها
كنت أخاف أن أنام
فينام قلبي
وحين أصحو أتفقد أحلامي دائماً لتبقى حادة كرأس الرمح
ومنعشة كالأقحوان

المنبع الثالث المؤثر في أعمال سنية هو شخصية الإنسانة المتعلمة الجادة، المتعاملة مع مشروعها الفكري والأدبي بمنتهى المسؤولية، وبقناعة عميقة بضرورة الثقافة لإنتاج ما يستحق أن يبقى. وتوضّحت هذه الشخصية من خلال رؤيتها الخاصة للحداثة الشعرية، وتعريفها لها بأنها "وليد أصيل للإنتاج الشعري البشري، ولكنه متغير دائم"، ومن خلال قبولها الآخر، واحترام الإبداع الحقيقي بأي شكل كان، وكذلك من خلال مفرداتها ورموزها التي استخدمتها

في قصائدها، وثقتها بذاتها الشاعرة المبدعة، وفخرها بالشعر. تقولالقصيدة تقف على بعد أميال من النار الشعرية، وهي تقرر مصير العالم، ونحن نستطيع أن نتجاوزها فقط بخفقة قلب. ولعل دراستها للأدب الإنكليزي، وتفوقها فيه، جعلاها تطلب الثقافة من الشعر: الشعر بجوهره عمل فطري، لكني أؤكد على ضرورة الثقافة كرافد لهذه الفطرة، الثقافة التي يعرف بها الشاعر نفسه أكثر.
لكن لا بُدّ من القول إن إصرار سنية على إدخال كل مفرداتها الثقافية والمعرفية في نصوصها يجعلنا أحياناً نحسّ حين نقرأها بأننا نقرأ أدباً جافا قليلاً، أو أدباً مترجماً.


الارتباط بالماغوط
المنبع الرابع الذي حكم إنتاج سنية الشعري هو ارتباطها العاطفي والعقلي والفكري والشعري بالشاعر محمد الماغوط. ولعل هذا المنبع هو الأعمق في روح سنية، والأكثر تأثيراً في روح النص الذي قدمته.
لقد جمعت بيروت سنية والماغوط مثلما جمعتهما القصيدة، وجمعهما هروب الماغوط من الأمن السوري، وتخفيه الطويل في دمشق. في البداية، كانت العلاقة بين سنية والماغوط هي سبب وهجها الداخلي. وقد كتب فيها الماغوط عدة قصائد، ومسرحية "الأرجوحة"، التي بقيت زادها وهي المرأة المولعة بالكلمة الحارة. وقد وصفته سنية حين قالت إن للماغوط روحاً بريةً محمية من التحجر والتكلس.
لكنها أرادت من الشعر أن يكون حصانها الخشبي، مثلما أرادت من الحب أن يكون عصاها في البقاء، لكن المشكلة الموجعة أنه يوجد للماغوط ثاراته الخاصة مع هذا العالم، ولم تكن عادلة معه كي يكون عادلاً مع نفسه ومع سنية، بل لم تبق الحياة بينهما شعراً أبداً بعد الزواج، إنما

انقلبت تعقيداً ومأساة، وراح ينتقم بها من العالم والظلم، ومن الخيبة والفشل. مع ذلك، ظل الماغوط شاعرها الأول. وفي ديوانها الأول، ينهض الحب كنيسان، فتقول سنية:

إنك نسر من الفرح
ونسر من الشعر
وغدائر الحزن
تفقد ذاكرتها

لكنها، بعد الفجيعة، تعود لتقول:

لكن الغابة بيضاء
والعصافير ثلج
شخص ما سيطلق الرصاص على ذاكرتي المعلقة في الهواء..

المنبع الخامس هو هاجس سنية الشاعرة العميق بدفاعها عن الأنوثة المطعونة فيها، والمسحوقة على مر التاريخ العربي، وإصرارها على ما تحمله هذه الأنوثة من خصبٍ قادرٍ على إنقاذ العالم. إنه هاجس الشاعر بتأنيث هذا العالم:

من الحروب
أم من دموع امرأة حقيقية
يتكون هذا النهر العظيم الذي يسمونه الحياة؟

تقول أيضاً:

دائماً ينهض البحر
بكل ذكورية الملح
بوجه الغابات المنهكة
من فعل الولادة..

ولعل قصيدة "مليون امرأة هي أمك" من أوضح أعمال سنية التي تنتصر فيها للنسوية المقهورة، والتي تحاور فيها أماً تتلو وصيتها الشعرية والفكرية والثورية على ابنتها:

شدي جذعك إلى جذعي
يا ابنتي
ثم اسحبي ما تبقى من جسدك في جسدي واعبري
ستكون أمامك ممرات طويلة وضيقة
والحقيقة تكمن في أشدها ضيقاً
حذارِ أن تنسي
أنك ذاهبة لتصرخي وترفضي
لا لتنحني..

 

الأمومة
الآن نصل إلى المنبع السادس، وهو أهم ما حدث لسنية ولشعرها، إنه أمومتها التي لم تكن يوماً

مجرد غريزة بالنسبة لهذه الشاعرة، بل إن أمومتها تحديداً كانت دفاعها الوحيد عن الحياة، عن الشعر، وعن الأنوثة المفجوعة فيها. لقد كانت أمومة سنية الملجأ الأول لطفولتها المسروقة والمعادل الوحيد لحبها العميق، ولأنوثتها العطشى على مر العصور. إن هذا التوحّد الأسطوري بينها وبين ابنتيها، الذي ورد بوضوح في أعمالها، أعطى لكتابة سنية طعماً إنسانياً لاذعاً حاداً لا ينسى، أعطاها طعماً سيدوم ما دامت الحياة. فأنا لم أقرأ أصدق مما كتبته سنية في هذه العلاقة الأزلية التي غاصت فيها بكل العري والحب، والتي شدت قلبي من قلبه:

قبل أن يدركني اليأس
أقفلي يا صغيرتي ذراعيك الخائفتين حولي
وارمي مفتاحهما في البحر أيتها اللؤلؤة
نمت في جوفي عصوراً
استمعت إلى ضجيج الأحشاء
وهدير الدماء
حجبتك طويلاً
ريثما ينهي التاريخ حزنه
والمحاربون حروبهم
والجلادون جلد ضحاياهم
ريثما يأتي عصر آخر
فيخرج واحدنا
من جوف الآخر..

أخيراً، نصل إلى آخر وأوجع منابع إنتاج سنية الشعري، إنه إصابتها بالسرطان، ومعرفتها بقدوم موتها المبكر، تلك الإصابة والمعاناة القاتلة التي حرمتنا من شاعرة في الخمسين من عمرها، وتلك المعرفة المؤلمة والمرعبة التي جعلت كتابتها الأخيرة موجعة، وملذوعة بطعم النار، فقد كان ديوانها الأخير ديواناً للموت. لكنها خاطبت هذا الموت بمنتهى الندّية والعنفوان، وبمنتهى الحب أيضاً. لم تكن تخاف الموت، لكنها كانت لا تقوى على فراق ابنتيها شام وسلاف. تقول الأم الشاعرة التي تحتضر:

خذيني يا روح شام وسلاف
يا وطن
الزرقة
في رأسي غربة ثقيلة
وأيضاً في المفاصل والعظام

صغيرتي
تأبطيني كلحم ذراعك
فلن أقوى على الفراق..

برغم منابع سنية الكثيرة والوفيرة، فقد قادتنا بكل منابعها إلى العطش، عطشٌ لذواتنا، لحقيقتها، لنارها ومائها، عطش لقراءتها أكثر من مرة، عطش للتعرف على شاعرة لم تأخذ حقها من

الضوء أثناء حياتها، فقد كان مكتوباً عليها أن تعيش في الظل، لأنها لم تقبل أن تنتسب إلى أي سلالة شعرية، ولم ترض أن تؤطر صدقها بالتسميات، ومتعففة عن السعي المحموم إلى النجومية، ولأنها زوجةٌ لاسمٍ كبيرٍ لا مكان حوله لها، لا مكان لها إلا في ظله، لم تأخذ حقها الشعري والنقدي. لكنها تركت لنا ما لا يموت، تركت شعراً ينتمي لنفسه، لها، للشعر بكل جدارة، وكانت وما زلت امرأة رائدة قدّمت أدباً جاداً حاداً مملوءاً بهموم الإنسان، أدباً قادماً من كهوفنا المخبأة فينا، أدباً لم يزل حيّاً، وسيبقى طالما بقيت الأنوثة والأمومة قادرة على الخلق، طالما بقيت الغابات قادرة على مواجهة ذكورة الملح والقيام بفعل الولادة.
في الذكرى الخامسة والثمانين لولادتك، والخامسة والثلاثين لرحيلك، شكراً لهذا الخراب الذي عمّرتهِ في داخلنا. شكراً لأنك قلتِ لنا كم ينقصنا من الحزن والحرية.