Print
راسم المدهون

ذكرى إبراهيم طوقان.. شاعر الوطنية الفلسطينية والحياة

29 أبريل 2020
استعادات
في الذاكرة والوجدان الثقافي الفلسطيني يحضر اسم إبراهيم طوقان بوصفه "شاعر فلسطين" وفتاها النجيب الذي مرَ بالحياة على عجل، ورحل في أوج شبابه وتألقه الإبداعي في مرحلة حرجة بل عسيرة من تاريخنا وتاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني الذي كان يتأسس برعاية مباشرة من سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين.

إبراهيم طوقان ابن مدينة "جبل النار" نابلس هو أيضا سليل عائلة علم وأدب، فشقيقته "أم الشعراء" الفلسطينيين فدوى طوقان، وعمُه قدري حافظ طوقان، أحد أبرز وألمع رجالات التعليم، وهم إلى هذا وذاك عائلة امتلكت واحدة من أهم وأكبر المكتبات في فلسطين.
هو في الذاكرة أيضا أحد ثلاثة أعمدة الشعر الفلسطيني إلى جانب صديقي حياته وشعره، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وشهيد معركة "الشجرة" الشاعر عبد الرحيم محمود. ثلاثة اجتمعوا على الإبداع والوطنية معا فظلوا حاضرين ومتوهجين بما قدموه، ومن ثالثهم الكبير "أبو سلمى" سمعت ما لا يحصى من حكايات وأخبار عنهم وعن بداياتهم ومسيرتهم في سني حياتهم وحياة وطنهم العاصفة وباهظة التكاليف.


درس إبراهيم طوقان في "الجامعة الأميركية" في بيروت وكان أيضا واحدا من ثلاثة شعراء عرب، أولهم الشاعر السوري وجيه البارودي فيما ثانيهم هو الشاعر العراقي حافظ جميل، وللثلاثة تنسب بعض الروايات قصيدة "يا تين يا توت يا رمان يا عنب" فيما تكتفي رواية أخرى بنسبتها لطوقان والبارودي وحسب، فيما نسبها حافظ جميل لنفسه، وغناها العراقي الشهير ناظم الغزالي.
اسم إبراهيم طوقان يعرفه ملايين العرب من خلال قصيدته الأشهر "موطني" والتي رافقت أجيالا عربية متعاقبة في كفاحها من أجل الاستقلال وأصبحت قبل سنوات قليلة النشيد الوطني العراقي ولحنها اللبنانيان "الأخوان فليفل"، كما من خلال قصيدته "الفدائي" التي كتبها في تمجيد الفدائي الذي أطلق الرصاص على "أندروز" الحاكم العسكري البريطاني للواء الجليل، وأيضا قصيدته "الثلاثاء الحمراء" التي رثا فيها شهداء ثورة البراق الثلاثة محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي.
طوقان إلى ذلك كله هو صاحب التجربة الشعرية الأعلى فنيا في فلسطين قبل النكبة الكبرى، إذ حقق تحديثا في لغة الشعر وبنائيته خصوصا في اتكائه على الصورة الشعرية النابضة بالحياة، وفي ولعه باقتناص موضوعات جذابة كان يطرقها بمخيلة غنية ولغة رشيقة. سيذكر مؤرخو الشعر طويلا "معارضاته" الشعرية الشهيرة مع أمير الشعراء أحمد شوقي مرَة، ومع "الأخطل الصغير" الشاعر اللبناني بشارة الخوري مرَة أخرى. هو أيضا حاضر في تنوع اهتماماته الشعرية وفي تجاور تجربته مع تجارب شعرية كبرى كتجربة الأردني الأشهر مصطفى وهبي التل "عرار".

من الجامعة الأميركية في بيروت إلى مدينته نابلس عاد طوقان معلما في "مدرسة النجاح" (جامعة النجاح لاحقا)، ومدرسا في "دار المعلمين العليا" في بغداد، ومديرا للإذاعة الفلسطينية في القدس، حيث سارعت سلطات الانتداب البريطاني إلى إقالته بسبب دوره الوطني دون أن ننسى عمله مدرسا للغة العربية في الجامعة الأميركية التي تخرج منها.
تلك سنوات الكد الدؤوب في الشعر والعمل، لكنها أيضا سنوات مرضه الذي لازمه طويلا حتى وفاته في عمر الشباب عام 1941:

"عبس الخطب فابتسم

وطغى الهول فاقتحم

رابط النفس والنهي

ثابت القلب والقدم"

هي براعة تكثيف الموقف العاصف للفدائي في مشهد شعري سيظل عصيا على الذبول، فالشاعر في هذه القصيدة استحضر عبقرية الرَسم وفرادة التصوير الآسر بل هو – إذ يواصل قصيدته – يقدم صورة مشهد أكثر حدَة في جماليته حين يضيف:

"هو بالباب واقفُ

والرَدى منه خائفُ"

هذا الشعر المؤتلق مع "حادثة" بطولية نراه بعد ذلك يموج بعذوبة تقارب السحر حين يتحدث عن "بنات كفر كنَة" وحين يكتب عن ممرضات المستشفى، ولعلَ هذا التنوع هو أكثر ما ميز إبراهيم طوقان عن شعراء جيله من الفلسطينيين قبل النكبة إلى الحد الذي جعل من جاؤوا بعده ينتسبون إليه وإلى تجربته الشعرية الكبرى، واعتبروه إلى اليوم المعلم الذي يعودون إليه وينسبون له فضل الريادة.


في لقاءات كثيرة مع الراحل عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى" كان إبراهيم طوقان حاضرا دائما، وكان أبو سلمى يصر بفرح ظاهر على الحديث عنه باعتباره "أشعرنا" و"أعلانا قامة شعرية"، كما كان يقول، وهو قول لا يعبر عن وفاء لصديق عمره وحسب، لكنه يؤشر إلى أهمية طوقان وعظمة تجربته الشعرية، ويأتي من شاعر بارز وكبير حفظ له الفلسطينيون والعرب الكثير من القصائد خصوصا قصيدته الباقية "لهب القصيد" التي كتبها "أبو سلمى" في ذروة ثورة 1936.
هو بمعنى مؤكد شاعر المغامرات الشعرية التي استجابت – غالبا – لشغفه بتحقيق شعر ينتمي للحياة أكثر من انتمائه للأفكار المجرَدة أو المعنى، فنحن نراه في تجربته كلها ملتصقا برؤى ذات صلة عميقة بروحه ومشاعره الشخصية إلى الحد الذي يدفعنا للقول إنه استدرج الواقع إلى حدقة مخيلته، فاستعاد صورة الواقع بملامح أكثر صدقا وأبلغ شفافية، وهي "لعبة" تأسست على مزج الفن والصور الفنية بوعي الواقع ورؤية الأحداث بعمق شديد فطوقان أمير البيان الشعري الناصع والمفعم بحيوية خاصة وبنائية سلسة جعلته قريبا إلى روح قارئ الشعر ومتذوقه.

إبراهيم طوقان.. عصف شعري خاطف مرَ ورحل كبرق لكنه لم يغب فقد ظل ولم يزل يلمع في أيامنا 

















بهذا المعنى أصبح إبراهيم طوقان شاعر الوطنية الفلسطينية التي كان عنوانها البارز تحقيق الاستقلال عن الانتداب البريطاني وحماية فلسطين من المشروع الصهيوني، ويمكن أن نضيف لذلك الدور الكبير سعة ثقافته واتصاله بعدد من أبرز مثقفي عصره وعلى رأسهم العلامة عمر فروخ وأيضا تنوع اهتماماته وحضوره اليومي في النشاط الثقافي الفلسطيني. أما حياته العائلية فكانت حافلة بأشكال حضور مميزة خصوصا في اهتمامه بشقيقته الشاعرة الكبيرة فدوى والتي كان لرعايته لها الدور الأبرز في التخفيف من معاناتها من سطوة التقاليد في مجتمع محافظ كذلك الذي عاشته نابلس وفلسطين كلها في تلك المرحلة، وسنرى شقيقته فدوى تتحدث عن بعض ذلك في كتاب سيرتها الآسر "رحلة جبلية.. رحلة صعبة".

هو أيضا شاعر النساء والغزل الجميل الرقيق والذي يرى الجمال في كل الموجودات من حوله، ولعله أبرز من رأى الحب جزءا حيويا من كينونة الشعر وجماله، بل من دوره وعلاقته بالحياة ذاتها حتى في تلك المراحل الصعبة التي عاشتها فلسطين في العشرينيات والثلاثينيات وما فيها من مواجهات مع الاحتلال البريطاني والخطر الصهيوني.
إبراهيم طوقان عصف شعري خاطف مرَ ورحل كبرق لكنه لم يغب فقد ظل ولم يزل يلمع في أيامنا من خلال ديوان شعره الكامل الذي نعود إليه بين وقت وآخر ونعيش معه متعة لا تنتهي بل تتجدد كتجدد الحياة ذاتها، الحياة التي لم تمهله طويلا بل قصمت تجربته في أوج صعودها وتألقها.

 

 # زبدة ديوان إبراهيم طوقان بصوت الكاتب عارف حجاوي: