Print
فيصل خرتش

علي الجندي الذئب الأغبر.. عاش الحياة في الشعر

1 مايو 2020
استعادات

يقول عنه الشاعر شوقي بغدادي: "لم يتبق أحد يا علي سواي ليرثيك، من سيرثيني بعدك؟".
إنه علي الجندي، شاب وسيم أنيق، كانوا يلقبونه بالشاعر الظريف، يضحك باستمرار، وهو موظف في دولة البعث، مديراً للدعاية والأنباء، وقد اجتمعوا في مكتبه، وتم تأسيس اتحاد الكتاب العرب، وانتخبوا الأستاذ سليمان الخش، وزير التربية آنذاك، وعلي الجندي نائباً له.  سمّى ابنه من زوجته الأولى، دلال حاتم، "لهب"، وله مجموعة من البنات، كلهن تزوجن، ورحلن في بلاد الله الواسعة.
قال له ممدوح عدوان، الشاعر الذي مات مبكراً: "مت الآن يا أبا لهب، وأقسم أنني سأرثيك بقصيدة جميلة"، فقال له الذئب الأغبر، كما كانوا يسمونه: "مت قبلي يا ممدوح، وسوف أكتب عنك ديواناً كاملاً، أعلم فيه الناس كيف يكتبون الرثاء".
وُلِدَ الشاعر علي الجندي في مدينة سلمية في حماة عام 1928، ثم غادرها إلى مدينة حلب، فدرس الابتدائية والإعدادية، وإلى حماة، ليتابع دراسته الثانوية، وينضم لاحقاً إلى جامعة دمشق ليدرس الفلسفة، ويتخرج فيها ويعمل في التدريس في مصياف، ودمشق، ولبنان ما بين 1960 – 1963.
يعدُّ الجندي واحداً من روّاد حركة تجديد القصيدة العربية. اختار شعر التفعيلة لمعالجة موضوعات الوجود والعدم، وكان يعيش بين العناد والتمرّد، يتكئ على ثقافته وموهبته، وحضور شخصيته الطاغية التي جمعت بين الصمت والانفلات والمغامرة.
ربطته علاقة جيدة مع بدر شاكر السياب، أثناء تواجده في بيروت، وقد نشر في مجلة "شعر"

بعضاً من قصائد ديوان "الراية المنكسة". يقول في إحدى قصائده: وإلى أين المفر؟ كلّ بحار الموت قدامك/ والماضي وراءك/ أنت لا تهرب من ماض ولا من مستقبل أسود/ بل تهرب من أعماقك المشتعلة/ حاملاً آنى حللت... الخوف والموت معك/ وعذابات البلاد المعوله... حاملاً أحزانك المكتملة.
هذا المتروك وحيداً لم يكن أحد يراه، أو يزوره، في اللاذقية، فمات من الإهمال. لقد عاش الحياة في الشعر مثلما عاش الشعر في الحياة، وسوف يتنافس اتحاد الكتاب العرب مع وزارة الثقافة في إصدار كلمات الرثاء لشاعر ظل مهملاً طيلة سنوات في منفاه الاختياري، ومن عادة سلمية أنها ترسل الشعراء، وهم صغار السن، وتستقبلهم في نعوش، فقد رحل الشاعر في الساعة الثانية من فجر الجمعة 7/8/2009، وأودع في المستشفى الوطني في اللاذقية، ثم رحّل إلى بلدته سلمية، ودفن فيها قرب محمّد الماغوط.
لقد ملأ الدنيا صخباً وضجيجاً وتمرداً، لم يقيده قيد، ولم تجد فلسفته حداً، وقد انطلق في قلقه الوجودي وعاطفته التي تتفجر في ذاته إلى اختراق كلّ مألوف في الحياة والشعر، ويعتبر من الشعراء الذين أسسوا لتجديد القصيدة العربية.
إنه عاشق للمتعة، مما جعل القصيدة عنده ميداناً للممارسة الوجودية، ويعدّ ديوانه "طرفة في ميدان السرطان" من أكثر دواوينه إثارة، وعبر فيه عن آلامه النازفة.
ومن أشهر قصائده تلك التي كتبها يوم استشهد الأديب غسان كنفاني، يقول:
هو ما استسلم للموت ولا لليأس.. لكن أسلموه
من ترى أسلمه للموت؟
من فجَره في الأمن؟
لا أمن لإنسان يحبّ!
من بعثره عضواً هنا وعضواً هناك؟

لقد حاول أن يكون ممثلاً وصحافياً، لكنه فشل إلا في أن يكون شاعراً، عاش متسكعاً على هواه، وقد تعرض أيضاً لمضايقات بسبب عمه، خالد الجندي، الذي كان رئيساً لاتحاد العمال،

ثم ترك هارباً، وانضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية، إلى أن مات في غزة.
عمل محرراً للنصوص الإذاعية والتلفزيونية، وبعد ذلك مديراً للأنباء، ثم انتهى به المطاف محرراً في جريدة البعث. وأن يكون مديراً للأنباء يعني أنه كان في الرقابة على الكتب والمنشورات والمطبوعات الداخلة إلى القطر، وقد قال في حينه إن مجلة الآداب نشرت له قصيدة في تلك الفترة، ومنع العدد من التداول في السوق، فما كان منه إلا وأمر بتمزيق كلّ الصفحات، ما عدا صفحات قصيدته، وأنزل العدد ممزقاً إلى السوق.
شعر علي الجندي هو صورة منطبقة على حياته وتمرّده وانفعالاته ومواقفه، سواء غنى للوطن، أم في لغته الجميلة، كتب للصحافة في دمشق وبيروت، وعمل في الترجمة، وكرمته مدينة "بواتييه" الفرنسية في تسعينيات القرن العشرين بوصفه واحداً من شعراء العالم.
له من الأعمال: طرفة في مدار السرطان، في البدء كان الصمت، الراية المنكسة، الشمس وأصابع الموتى، النزف تحت الجلد، بعيداً في الصمت، قريباً من النسيان، صار رماداً، الحمى الترابية، قصائد موقوتة، الرباعيات، سنونوة الضياء الأخير.