Print
سليمان بختي

شبلي الشميل.. شارح داروين ومن طلائع العلمانيين بالشرق

16 سبتمبر 2020
استعادات

هذه السنة جعلتنا نتذكر الدكتور شبلي إبراهيم الشميل (1850 -1917) بمناسبتين، الأولى: الذكرى الـ 170 لولادته، والثانية زمن الكورونا، وهو الذي كتب "رسالة في الهواء الأصفر والوقاية منه وعلاجه" (1908) عندما قدمها لصاحب الدولة رياض باشا زمن جائحة الكوليرا في مصر.
يكتب بالأمس وكأنه يكتب اليوم في كيفية الوقاية من الوباء وطبيعته وأعراضه وعلاجه وطرق العدوى والمناعة والوقاية الخاصة والبيئية واجتناب المخالطة.
هو من قافلة المفكرين اللبنانيين الذين سبقوا عصرهم وخضوا العالم العربي بالفكر والتأثير الحاسم على الأجيال. طبيب وفيلسوف واجتماعي وعمراني وشاعر وأديب. صنفه مارون عبود رائدًا من رواد النهضة العربية الحديثة، وبأنه إحدى حلقات تلك السلسلة الذهبية التي توهجت في جبين لبنان وغرة العرب.
ولد شبلي إبراهيم الشميل في كفرشيما بضاحية بيروت عام 1850 من أسرة لعبت دورًا في السياسة والفكر والأدب والصحافة. كان أول من درس الطب في الجامعة الأميركية وتخرج منها في  دفعة 1871.                                                                أدرك الشدياق واليازجي وأديب إسحق ومشى مع صروف وزيدان، قال يعقوب صروف عنه: "جاء الشميل إلى المدرسة الكلية الإنجيلية، الجامعة الأميركية اليوم، وله من العمر حوالي سبعة عشر عامًا فتجاوزنا على مقعد المدرسة بسنتين".
توجه إلى باريس متخصصًا ثم إلى القسطنطينية للامتحان النهائي في الطب. تتلمذ على يد فاندايك وجورج بوست ودانيال بلس وناصيف اليازجي، وتأثر بأبو العلاء المعرّي وابن خلدون.
ذهب إلى طنطا ممارسًا للطب ثم انتقل إلى القاهرة عام 1885. وأصدر عام 1886 مجلة "الشفاء" وهي أول مجلة علمية طبية في مصر والعالم العربي وفيها سطع نجمه. كما أسس أول نقابة للأطبّاء في مصر والعالم العربي.  كتب في صحف ومجلات مصر: "المؤيد" و"البصير" و"الأهرام" و"مصر الفتاة" و"الأخبار" و"المقطم" و"المحروسة" و"اللطائف" و"لسان الحال" و"المقتطف" و"المستقبل" و"فتاة الشرق" و"الهلال" و"الزهور" و"الشفاء" و"الطبيب" و"الحسناء". ونشر في بيروت في مجلة "الجنان" لصاحبها بطرس البستاني.
خاض في مصر أعنف المعارك في تاريخ الفكر العربي، وكتب في الفكر والسياسة والاشتراكية والعمران وعلم الاجتماع والتربية والطب والعلوم والأدب والشعر والنقد الأدبي. وانتزع لقب رائد العلم الطبيعي عبر شرحه نظرية النشوء والارتقاء وتكريس أبحاثه للفكر الاشتراكي في العالم العربي. وتتلمذ على يديه طلائع النهضة الحديثة في مصر مثل أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وغيرهم.
من مؤلفاته: شرح بخنر على مذهب داروين (1884)، الأهوية والمياه والبلدان لأبقراط الطبيب (1885)، الحقيقة (1885)، آراء الدكتور شبلي شميل (1912)، رسالة في الهواء الأصفر (صدر في مجلتي الشفاء والهلال 1908)، "الأرجوزة في الطب" لابن سينا، كتاب "حوادث وخواطر" (مذكرات) كتابات سياسية وإصلاحية جمعها كذلك أسعد رزوق (1991)، رسالة المعاطس لابن جلا (القاهرة 1919)، رواية المأساة الكبرى (1915)، كتاب العلامات – رسالة سورية ومستقبلها (المقطم 1919) وعشرات المقالات ومنها في المسألة اللبنانية وقناة السويس والمسألة الصهيونية وغيرها.
كتب كل ذلك بأسلوب صريح وحاسم وبنبرة متحدية. وواجه التحديات وحيدًا في الفكر والعلم والسياسة. وفي كتاباته كان يطلب عقلًا متأملًا حكيمًا ليدخل معه نحو المنافذ والآفاق والحلول.
أعلى شبلي الشميل دائمًا في كتاباته من شأن العلم والعقل، ونادى بحرية الفكر مع التعليم. وهذا الربط بين العلم وحرية التفكير لم يعرف على هذا النحو في بلادنا مثلما عُرف مع شبلي الشميل لأنه كان مع كشف الحقائق مهما تكن النتائج.




وصف مارون عبود أدبه "بالصوفية العلمية... وإذا كان الأدب يغلب على ألوانه جميعًا". ووصفه ألبرت حوراني  بأنه "طليعة العلمانيين في المشرق العربي". وقالت
عنه مي زيادة بأنه "كان فيلسوفًا على الرغم منه وشاعرًا رغم إرادته"



آمن شبلي الشميل بالعلم العملي وقال: "إنه الذي تقوم فيه طباعه وتقل سخافته، ويكثر جده، ويقل رياؤه، وينشط من الذكاء ويرتقي ارتقاءً حقيقيًا، ويحق له حينئذٍ أن يعدّ نفسه إنسانًا". ورأى دائمًا أن المستقبل هو للعلم وللعلم العملي وحده. وبرهن أنه يستخدم العلم ومذهب داروين كوسيلة للإصلاح الاجتماعي لأنه يستحيل قيام العدل بشريعة ثابتة. ولهذا لم يأخذ الشميل بمسألة ضرورة العقاب، ورفع السؤال: لماذا يعاقب المخطئ؟ "فنحن علمنا الإنسان على الكذب. العقاب أثر من آثار الهمجية. والشرائع لا تعاقب ذنوبًا بل تعاقب مذنبين كما الطب لا يداوي أمراضًا بل مرضى".
دخل شبلي الشميل في قلب السجال الدائر حول العلم والدين. وحاول نقل انتباه الإنسان بعيدًا عن الماورائيات والغيبيات وتركيزه في قضايا العالم الحقيقي ووقائعه. وبرأيه "أن الأمم تقوى حين يضعف الدين".
وردًا على اتهامه بالعلمي الملحد، أجاب: "العلم لا يدعونا إلى الإلحاد بل يكشف لنا الحقائق". وشن هجومًا على رجال الدين وصرخ: "يا مقلنسي الجهل ومعممي الضلال، أين رأيتم في أديانكم ما يسمح لكم أن تزرعوا في رؤوس أتباعكم الجاهلين التفريق بين الناس إلى حد التباغض والتقاتل". من يجرؤ أن يقول هذا الكلام بمثل هذه القوة والوضوح في هذه الأيام؟
وذهب إلى أبعد مطالبًا بإلغاء التعليم الديني في المدارس الحكومية.
عاش شبلي الشميل عصره. دعم الإنكليز ضد السياسة التركية. وصدر حكم بإعدامه غيابيًا من قبل جمال باشا السفاح (1915-1916). أيد مد قناة السويس. وكان في مواقفه ضد التيار حتى عيره بعضهم: "دعنا في جهلنا وخذ علمك إلى بلادك". إلا أنه كان يرد: "حقوق الأمم فوق حقوق كل مملكة".
نادى بالاشتراكية باعتبارها حلًّا أفضل وهاجم النظام الرأسمالي. وفي حوار متخيل مع عصام محفوظ في كتابه "رواد النهضة العربية" (2000) يقول: "الرأسماليون لصوص المجتمع. إن الحكومات لا همّ لها إلا أن تضمن لهم أسباب السلب والنهب. يصادرون ويرابون ويجمعون المال بالاحتيال... لصوص يسرحون ويمرحون وتحميهم الشرائع التي تعززها الحكومات".
كان شبلي كاتبًا موسوعيًا وجدليًّا. آمن بالرأي والرأي الآخر وحرية الفكر. ولم  يترك مسألة سياسية أو اجتماعية أو إصلاحية أو علمية إلا وتصدى لها.
وصف مارون عبود أدبه "بالصوفية العلمية... وإذا كان الأدب يغلب على ألوانه جميعًا". ووصفه ألبرت حوراني في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة" بأنه "طليعة العلمانيين في المشرق العربي".
وقالت عنه مي زيادة بأنه "كان فيلسوفًا على الرغم منه وشاعرًا رغم إرادته".
وفي إحدى رسائله إلى مي زيادة يكتب عنه جبران: "أنا معجب مثلك بالدكتور شميّل فهذا واحد من القليلين الذين أنبتهم لبنان ليقوموا بالنهضة الحديثة في الشرق الأدنى وعندي أن الشرقيين يحتاجون إلى أمثال الدكتور شميّل حاجة ماسة كردّ فعل للتأثير الذي أوجده الصوفيون والمتعبّدون في القطرين مصر وسورية".
لبث شبلي الشميل يكتب ويفكر ويجتهد حتى اللحظة الأخيرة من حياته، حتى كان آخر مقال كتبه في "الأهرام" وذلك قبل أيام من وفاته في 1 كانون الثاني/ يناير 1917 ولكنه انتزع قبل ذلك تقدير الجميع، الأصدقاء والحضور ورجال الدين. وفي رثائه كتب الأفغاني مشيدًا بجرأته "على بث ما يعتقده من الحكمة وعدم تهيبه من سخط الجموع".
بقي شبلي الشميل أمينًا للشعار الذي رفعه وعاش في ظلاله "الحقيقة أن تقال لا أن تعلم".
عام 2017 احتفلنا بمئوية وفاته في معرض بيروت للكتاب العربي والدولي بندوة بالتعاون مع بلدية كفرشيما وأصدرت له  دار نلسن  كتابًا في المناسبة من خارج  المجموعة بعنوان "رسالة في الهواء الأصفر والوقاية منه وعلاجه ورسالة المعاطس لابن جلا" تحقيق حسن شمص. ولا أزال أذكر ردة فعل الملحق الثقافي المصري في لبنان حين قال لي: "خود بال سيادتك... ده مصري. أنشأ أول مجلة طبية في مصر اسمها "الشفاء" وأسس أول نقابة أطباء في مصر". وأردفت: "بل فخرنا جميعًا في لبنان ومصر والعالم العربي".




دخل شبلي الشميل في قلب السجال الدائر حول العلم والدين. وحاول نقل انتباه
الإنسان بعيدًا عن الماورائيات والغيبيات وتركيزه في قضايا العالم
الحقيقي ووقائعه. وبرأيه "أن الأمم تقوى حين يضعف الدين"


أخيرًا كتب شبلي الشميل عصر النهضة بالموقف الحضاري والمعرفي والأخلاقي والملتزم بالمجتمع. وبيّن لنا أنّ التقدّم هو أمامنا وليس وراءنا. وأننا إذا لم نستند إلى العلم فإنما نعلن التهافت والاندثار.
دفن في القاهرة ولم تنقل رفاته إلى وطنه لبنان!! ولم يترك خلفه غير سيرته الناصعة ودوره النهضوي الكبير وكتبه المضيئة ولافتة صغيرة على البيت الذي سكنه تقول: "هنا عاش شبلي الشميل" في حي حارة الدير، كفرشيما.