Print
بهاء إيعالي

في ذكرى رحيلهما.. بياف وكوكتو "النقيضان المتناغمان"

11 أكتوبر 2021
استعادات


"إنّها القارب الذي غرق للتو. إنّه آخر يومٍ لي على الأرض... لم أعرف في حياتي روحًا تزخرُ بالعطاء كروحها، فهي لم تستهلكها، بل أغدقتها، ولم تبخل بشيءٍ على الإطلاق. مثل أولئك الذين يهيشون بشجاعة، لم تتوقّع الموت، بل هزمته في بعض الأحيان..."- كلامٌ لن يكون القارئ مخطئًا إن اعتقد أنّه كلام شاعرٍ لعشيقةٍ له رحلت عن الدنيا، غير أنّه سيصدمُ حقًّا حين يعرف أنّ هذا الكلام لم يقله أيّ شاعر، بل جان كوكتو، أمير شعراء فرنسا، والمخرج والفنان والناقد الأدبي الكبير، وذلك حين علم بوفاة صديقته. أيّ صديقة؟ إنّها مغنّية الكونترالتو، وأيقونة الأغنية الفرنسيّة، إديت بياف.
إنّه الموت الذي لم ينتظره ليلحق به، ربّما كان كذلك تمامًا، فمع معرفته بخبر وفاة صديقته صبيحة 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1963، والتي كان على علاقةٍ حميمةٍ معها منذ ما يقارب ربع قرن، يحبس مخرج Le Testament d’Orphée نفسه في مكتبه لكتابة مقالٍ كلّفته به مجلّة Paris Match كي ينعي به صاحبة La Vie en Rose ويكرّمها، وهو المقال الذي لم يستطع إنهاءه، إذ لم يلبث أن فارق الحياة بعدها ببضع ساعات، لتولد أسطورة جديدة في المجتمع الفرنسي عن العلاقة التي جمعت بينهما، وانتهت بعدم الافتراق إلى درجة موتهما معًا.



ما بين هدوء العالم البرجوازيّ وصخب نظيره السفلي

بيكاسو في فالوريس/ فرنسا، وعلى يمينه جاكلين روك، وإلى يساره جان كوكتو (11/ 8/ 1955/ Getty)


ولد جان كوكتو (واسمه الكامل كليمان أوجين جان موريس كوكتو) في 5 تموز/ يوليو 1889، في بلدة "ميزون لافيت" الواقعة على بعد 18 كم شمال غربي باريس، منحدرًا من عائلةٍ برجوازيّة، فوالده، جورج ألفرد كوكتو، محامٍ ورسّام هاوٍ ومتذوّق للفنون والآداب، وجدّه لوالده، أثاناس كوكتو، كاتب بالعدل، وعمدة لبلدة مولان، فيما كان جدّه لوالدته، أوجين لوكونت، جامع تحف. غير أنّ طفولة كوكتو لم تمرّ من دون صعوبات، فأوّل حادثةٍ جرت وأثرت في حياته كانت وفاة والده عام 1898، ولم يكن قد بلغ التاسعة بعد، غير أنّ جان الصغير لم يستسلم، فتابع دروسه في مدرسة الكونكورديه، وبدأ بالتعرّف على عالم المسرح واكتشافه، وكذلك تفتّحت موهبته الشعريّة في سنّ مبكرة. هذه الموهبة انتبه إليها الممثّل المسرحي إدوار دو ماكس، ولأجل ذلك، أقام أصبوحةً شعريّةً في مسرح فيمينا، قرأ خلالها كوكتو صاحب الـ 19 عامًا أولى قصائده، وتعرّف فيها على العديد من وجوه باريس الثقافيّة آنذاك.
لم يكن قد بلغ عامه العشرين حتّى أصدر أولى مجموعاته الشعريّة "مصباح علاء الدين"، وهو العمل الذي لاقى قبولًا طيّبًا لدى النقاد والقراء، لتتوالى بعد ذلك إصداراته الأدبيّة أهمّها مسرحيّة "الإله الأزرق" عام 1912، وديوان "رقصة سوفوكليس" عام 1913 (وبه نال جائزة جول دافان)، ورواية "بوتوماك" عام 1919. كما اتّسعت خلال ذلك دائرة علاقاته الأدبيّة بتعرّفه على العديد من الوجوه الثقافيّة والأوروبيّة، أمثال مارسيل بروست، أندريه جيد، بابلو بيكاسو، ماكس جاكوب، ريمون راديغيه، وغيرهم.




هذا الأخير كان شاعرًا وكاتبًا تعرّف عليه كوكتو عن طريق ماكس جاكوب، وقد نشأت بينهما علاقة عاطفيّة حميمة كانت بمثابة أولى علاقات كوكتو التي كشفت عن ميوله المثليّة الواضحة. ولعلّ وفاته عام 1923 بصورة مفاجئة كانت بمثابة أولى الضربات العاطفيّة التي تلقّاها كوكتو، لدرجة أنّه أعلن توقّفه عن الكتابة، وانغمس في تعاطي الأفيون؛ لكنّه لم يلبث أن عاد إلى العمل في مجال الأدب والفن، وتتالت إصداراته الأدبية والفنيّة، لعلّ أبرزها رواية "الأطفال الرهيبون" عام 1929، ومسرحيّة "الآلة الجهنّميّة" عام 1936، كما أصدر عام 1930 مجلّته الخاصّة Opium، وكتب وأخرج فيلمه الشهير Le Sang du Poète.
لعل الحياة الهادئة نسبيًّا لجان كوكتو قد قوبلت بحياةٍ صاخبةٍ لدى إديت بياف (واسمها الحقيقي إديت جيوفانا غاسيون)، التي أبصرت النور في 19 كانون الأول/ ديسمبر 1915، في الحيّ الصيني، أحد أحياء باريس الفقيرة، بين عائلةٍ فقيرة، فوالدها لوي غاسيون مهرّجٌ ولاعب سيرك فرنسي، وأمّها لين مارسا مغنّية حاناتٍ من أصولٍ إيطاليّة ومغربيّة. وبعد ولادتها ببضعة أشهرٍ يلتحق الأب بالجيش إبّان الحرب العالميّة الأولى، وبالتالي عهدت الأم، التي غادرت ملاحقةً شهرتها، بإديت الطفلة إلى جدتها لوالدتها، "آمنة سعيد بنت محمّد"، التي كانت راقصة سيرك ومدمنة على الكحول، ومن بعدها إلى جدّتها لوالدها لويز غاسيون، التي كانت إحدى قوادات بيوت الدعارة في نورماندي، قبل أن تنتقل لكنف والدها الذي استغلّ صوتها الجميل وأجبرها على حياة لاعبي سيرك الشوارع والعمل كمغنّية.
عند بلوغها عامها الـ 15، وبعد عدّة محاولاتٍ للهرب، تركت إديت المراهقة حياتها رفقة والدها، وبدأت بحياة غناء الشوارع مع صديقتها سيمون بيرتو، التي تقاسمت معها حياة القسوة والشقاء، كما عملت في متجرٍ للألبان والأجبان، وهو الحال الذي استمرّت عليه حتى اكتشفها لويس لوبليه، مدير ملهى Le Gerny، وبدوره أصبح لويس بمثابة مرشدها، واختار لها اسمها الفنّي La Môme Piaf (أي العصفورة الصغيرة)، ومعه انتقلت إلى الغناء في الحانات والملاهي الليلية.
لعلّ عام 1936 كان بمثابة تحوّلٍ دراماتيكيّ في حياة بياف الصاخبة، ودخولها في مجال الفن الغنائي بشكلٍ أكثر أهميّة، إذ عرضها الموسيقي جان فيينير على المخرج جان دوليمور لأداء دورٍ صغيرٍ في فيلم La Garçonne، وكذلك تسجيل أوّل أشرطتها الغنائيّة Les Mômes de la Cloche عبر شركة بوليدور، وهو الشريط الذي حقّق نجاحًا جماهيريًّا كبيرًا، وأبرز اسم بياف في عالم الأغنية الفرنسيّة. غير أنّ مقتل مرشدها لوبليه كان بمثابة ضربة قويّةٍ لها، إذ كاد ذلك أن يطيح بحياتها كمغنيّةٍ مرموقةٍ ويعيدها إلى غناء الشوارع لو لم ينقذها Radio Cité، والذي كان مُدارًا من قبل مارسيل بلوستين وجاك كانيتي، ويحتضنها ويفتح لها أبوابه، ولاحقًا انتبه لها الشاعر الغنائي والمنتج ريمون آسو والذي انتشلها نهائيًّا من عالم الشوارع وانطلقت معه إلى غناء الصالات الفنيّة والشهرة الواسعة.



"الوسيم اللامبالي".. حجر الأساس لعلاقة طويلة

 إديت بياف  تتدرب مع جاك بيلز على مسرحية LE BEL INDIFFERENT من إخراج جان كوكتو (1/ 4/ 1958/ Getty)






في كتابه Piaf et Cocteau: La Môme et le Poète، يقدّم الباحث في تاريخ الأغنية الفرنسيّة برنار لونجون سيرة ذاتيّة واحدة لشخصيّتين مختلفتين عن بعضهما بعضًا، ودأب في عمله على رسم الصورتين المتعاكستين لكلّ منهما: كوكتو ذو الأصول البرجوازيّة والأكاديميّ الشاعر الفنّان، وبياف ابنة المهرّجين ومغنية الشوارع والحانات. وقد بنى لونجون عمله على محاولة فهم كيفيّة تقلّب المسارات المتعارضة للفنّانَين وتلاقيها، وذلك من خلال استعانته بمراسلاتٍ متبادلةٍ بينهما وشهادات عنهما في ذلك الوقت. ولعلّ أبرز سؤالٍ طرحه هو التالي: كيف يمكن لذلك المثلي المثقّف، ذو القيمة الأدبيّة والفنيّة الكبيرة، والصديق الأكاديمي لبيكاسو وسترافنسكي، أن ينسجم مع امرأةٍ ولدت ونشأت في حالةٍ من البؤس وسط البغايا والقوّادين، وتحوّلت في ما بعد إلى أيقونة للأغنية الفرنسيّة؟
لم يكن اللقاء بين الشاعر والمغنية قد حصل من قبيل الصدفة، فكلاهما كانا يعرفان بعضهما بعضًا قبل ذلك، وقد أُعجِب الشاعر بصوت المغنية الرهيب، وكان له وقار خاصٌّ في قلبه، ويُذكر أنّه حضر العرض الافتتاحي لفيلم La Garçonne، كعادته ودأبه على متابعة النشاطات الفنيّة والأدبيّة، ولفته حضور بياف الساحر بدورها في الفيلم، رغم صغر سنّها، وحجم دورها فيه. أمّا المغنّية ففي قلبها اكتسب كوكتو مكانة خاصّة، إذ تعرّفت عليه عن طريق كتبه التي أهداها إيّاها عشيقها جاك بورغيه، وهو ما فتح أمامها باب القراءة والثقافة التي لم تكن توليهما اهتمامًا كبيرًا في ما مضى من حياتها، وبالتالي كان لحضور كوكتو دوره في تغيير الكثير من حياتها، وتجلّى أثر ذلك واضحًا في مسار حياة بياف ومسارها الفنّي أيضًا.
لا تذكر المصادر التاريخ الدقيق للقاء بياف وكوكتو، لكن الأكيد أنّ هذا اللقاء حصل في أوائل عام 1940، ويقال إن الشاعر هو من طلب لقاء المغنّية، وذلك ما اعتبر امتيازًا لها، فجان كوكتو كان في أوج شهرته وعطاءاته آنذاك، فيما لم تكن إديت بياف قد مرّ على خروجها من أتون حياة الشوارع وبيوت الدعارة إلا قليلًا. ولعلّ الجميع اعتقدوا في ذلك الحين أنّ ثمّة تعاونًا سيحصلُ بين الفنّانين، كأن يكتب كوكتو بعض الأغاني لبياف؛ غير أنّ صاحب "الجليّ والمعتم" لم يكتب أيّة أغنية للمغنّية، ولن يكتب في وقتٍ لاحق، بل كانت أولى ثمرات هذه العلاقة هو تعاونٌ في مسرحيّةٍ كتبها الشاعر للمغنّية، ألا وهي "الوسيم اللامبالي" (Le Bel Indifférent).
هذه المسرحيّة جاءت في فصلٍ واحد، وهي عبارة عن مونولوغ استوحاه الشاعر من العلاقة المتوتّرة والعاصفة التي قامت ما بين إديت بياف وعشيقها خلال تلك الفترة، بول موريس، الممثّل الشاب الذي عُرِف عنه علاقاته النسائيّة المتعدّدة والعابرة. ويمكن اختصار هذه المونودراما كالتالي: مغنّية ذائعة الصيت تعود إلى غرفتها في الفندق بعد منتصف الليل، فلا تجد عشيقها "إميل" زير النساء، ممّا يصيبها بحالةٍ هستيريّة من الغضب والهذيان؛ وعندما يعود يرتمي على سريره ويفتح جريدته من دون أيّ مبالاةٍ تجاه عشيقته، ويتظاهر بأنّه يقرأها، فيما نوبات عصبيّتها وجنونها تتضاعف أثناء مواجهتها إياه بخيانته، وهو متوارٍ خلف جريدته لا يحرّك ساكنًا، قبل أن ينهض ويرتدي ثيابه ويذهب إلى موعدٍ غراميّ جديد.
عُرضت هذه المسرحيّة عام 1940 على مسرح دي بوف باريزيان، وقام بأداء بطولتها كلّ من إديت بياف وعشيقها بول موريس، وأخرجها جان كوكتو. وحقق العرض نجاحاتٍ جيّدة وجرى تحويلها في السنوات اللاحقة إلى العديد من الأفلام السينمائيّة والتلفزيونيّة على يد عدّة مخرجين أهمّهم جاك ديمي عام 1957، وماريون سارّو عام 1978، كما جرت دبلجتها بالعربيّة وعرضت على مسرح الجميزة في بيروت عام 2014، من إخراج فاديا أبي شاهين.




هذا العمل المشترك كان بمثابة بداية علاقةٍ وطيدةٍ بين "عاشق الفنّانين"، و"زيرة الرجال"، كما يورد لونجون، فقد نشأت صداقة حميمة بينهما استمرّت حتى وفاتهما معًا بعد 23 عامًا. وعلى الرغم من قلّة اللقاءات التي جمعت بينهما، وعلى الرغم من دخولهما في العديد من العلاقات العاطفيّة المتقلّبة، إلا أنّ هذه الصداقة كان لها ذلك الوهج الذي استمرّ لفترة طويلةٍ بينهما، وقد تخللتها محادثاتٌ هاتفيّة متكرّرة ورسائل متبادلة أكّدها كلٌّ من تيو سارابو، آخر عشّاق المغنّية، وروبير بيلريه كاتب سيرتها، وهذه الرسائل محفوظة ضمن مجموعة كوكتو في مكتبة باريس التاريخيّة، وغير منشورة بعد.



توازيات المرض والموت

إديت بياف وبول موريس في فيلم "Le Bel indifferent" لجان كوكتو (1940/ Getty)


ما انطبق على المغنّية والشاعر في حياتهما لم ينطبق عليهما في مرضهما وموتهما، فذلك التناقض الطبيعي في حياة بياف الصاخبة قبالة حياة كوكتو الهادئة تحوّل إلى ضربٍ من التوازي الغريب في مراحل مرضهما ومن بعده وفاتهما، وكأنّ انسجامًا حقيقيًّا حصل بينهما عقب "الوسيم اللامبالي".
كان لحادثة تحطّم الطائرة التي يستقلّها مارسيل سيردان، الملاكم الفرنسي البارز، وعشيق إديت بياف، أثره البالغ على سني حياتها الأخيرة، إذ دخلت في أزمةٍ نفسيّة حادة أعادتها إلى إدمان الكحول، ودخولها في العديد من العلاقات العاطفيّة العابرة مع العديد من وجوه الفنّ الفرنسي آنذاك، أمثال شارل أزنافور، جورج موستاكي، جاك بيلز، وتيو سارابو، وغيرهم، كما كانت تتعاطى جرعات كبيرة من الهيرويين، وحقن الكورتيزون، لتهدئة آلامها. كلّ هذا أدى إلى معاناتها من العديد من المشاكل الصحيّة والبدنية، بحيث ظهر ذلك واضحًا للعيان أثناء انهيارها على المسرح في مدينة درو عام 1959. بعد ذلك، أجريت لها عمليّات جراحيّة في المعدة والكبد. غير أنّ ذلك لم يمنعها من مواصلة الغناء على المسرح، وتقديم أفضل ما لديها، إذ أدّت في أيّامها الأخيرة العديد من أغانيها الخالدة، كأغنية Non, Je ne Regrette Rien التي كانت مثالًا واضحًا لتفوّقها على نفسها واستمرار تألّقها رغم معاناتها.
إلا أن صحّتها ما لبثت أن استمرّت في التدهور، ما جعلها تمضي أيّامها الأخيرة في بلدة بروفنسيّة صغيرة اسمها بلاكاسييه، بالقرب من مدينة غراس. ويورد المؤرخ بيير لوبلافيك أن وفاتها كانت مساء العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1963، غير أنّ رغبتها في الموت في باريس أجبر المقرّبين منها على نقل جثّتها سرًّا إلى باريس في الليل، حيث أعلنت وفاتها رسميًا صبيحة اليوم التالي الموافق لـ11 تشرين الأول/ أكتوبر 1963 عن عمرٍ يناهز 47 عامًا.





أمّا كوكتو فعانى في سنواته الأخيرة من أمراضٍ مختلفة في القلب والرئة، وهو المرض الذي ظهرت عوارضه في مطلع عام 1959، أثناء التحضير لمسرحيّة "الصوت الإنساني" (La Voix Humaine)، وهو ما أكّده في رسائله إلى الكاتب والناقد جان ماري مانيان، إذ يقول له في إحدى رسائله: جاء هذا التوقّف البسيط جراء أزمة ضيقٍ في التنفّس، ولأنّ الأطبّاء منعوني من الزيارات والاتصالات الهاتفيّة. وكان لأثر أمراضه هذه أن عاش أيّامه الأخيرة متنقّلًا بين سانتو سوسبير، وميلي لا فوريه. ومع ذلك، فنشاطه المحموم في الفنّ والأدب ظلّ مستمرًّا، إذ كتب خلال ذلك ديوانه الأخير "القداس" (Le Requiem)، وأخرج فيلمه الشهير Le Testament d’Orphée، كما حاز لقب أمير الشعراء عام 1960 خلفًا لجول سوبرفيل؛ ولعلّ أكثر ما ركّز عليه في أيّامه الأخيرة هو تزيين جدران الكنائس وزخرفتها، ككنيسة سان بيير في فيلفرانش، وكنيسة سان بليز دو سيمبل في ميلي.
لكن من الواضح أنّه كان مدركًا لدنوّ أجله، ففي رسالة أخرى إلى مانيان يقول: يأخذ قاربي المسكين الماء من ألواحه ويكرّر لي: مت، أنت لا تبحر نحو المنزل. ومع معرفته بخبر وفاة بياف عند الساعة السابعة من صبيحة 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1963، عادت إليه نوبات ضيق التنفّس بصورةٍ أشدّ وطأةً، ليرحل ظهيرة اليوم نفسه بعد ستّ ساعاتٍ على علمه بوفاة "فم الظل"، كما سمّاها، عن عمرٍ يناهز 74 سنة.



رحيلٌ أسطوري: هل قتلت بياف كوكتو؟
لم يمرّ خبر وفاة لا موم، والشاعر، على فرنسا، من دون ضجّة صاخبة، فقد بكت بلاد الأنوار من كبيرها إلى صغيرها وفاة اثنين من أبرز أعلامها الثقافيّة والفنيّة في القرن العشرين. عندها سارعت الصحافة الفرنسيّة لتلقّف هذا الخبر، وكرّست مساحة كبيرة له، ووصفت رحيل كليهما في يومٍ واحد بـ"الأسطورة"، مسلّطةً الضوء على الجوانب المشتركة التي جمعتهما رغم تناقضهما في مسيرة حياتهما، بحيث ركّزت على تلاقي أقدارهما خلال أواخر أيّامهما، وذلك على علاقاتهما العاطفيّة المتقلّبة والمضطربة مع العديد من المغنين والممثّلين والأدباء، وأخيرًا مع توازيات المرض الذي أدى إلى رحيلهما معًا في اليوم نفسه.
غير أنّ صحيفة Le Parisien أثارت الجدل في المانشيت الصحافي الذي طرحته في عدد اليوم الذي تلا يوم وفاتهما، والذي حمل عنوان "وفاة إديت بياف قتلت جان كوكتو"، وهي الرواية التي تبنّاها كلود أرنو في كتابه عن سيرة كوكتو، فبعد أن علم الشاعر عن طريق وصيفته جولييت بوفاة المغنية قال: إنّه آخر يومٍ لي على الأرض. وهناك رواية أخرى نقلتها فيوليت موران، الأستاذة في المدرسة التطبيقيّة للدراسات العليا، ضمن مقالٍ لها في مجلّة Communications عام 1964، وفيه أكّدت أن كوكتو قال في يومه الأخير: موت بياف زاد من اختناقي.




غير أنّ هذه الرواية جوبهت بالرفض من قبل أصدقاء كوكتو، وتحديدًا من شريكه العاطفي الممثّل جان ماريه، ففي مداخلةٍ للأخير على التلفزيون الرسمي الفرنسي في اليوم التالي لوفاة الشاعر، أكّد أن كوكتو أحبّ إديت بياف، وأعجب بها بشدّة، غير أنّه نفى فكرة وفاته متأثّرًا بوفاة المغنيّة، فهو كان يعاني من تورّمٍ في رئتيه، وتراجعٍ في نشاط قلبه، وبالتالي كانت أيّامه معدودة.
ما يمكن تأكيده هو أنّ كوكتو تأثّر كثيرًا بوفاة بياف، وانكسرت روحه بكلّ معنى الكلمة، وأنّ هذا التوازي الغريب في المرض والموت انتهى في مراسم الجنازة، فجنازة المغنّية كانت صاخبة كحياتها، إذ حضر لرؤية تابوتها قرابة 40 ألف شخص، وحضر الدفن نحو نصف مليون شخصٍ، كافحت الشرطة كثيرًا لاحتوائهم في مقبرة بيير لاشيز في باريس. فيما كانت جنازة الشاعر هادئة كحياته، إذ تمّت مراسمها بصمتٍ وهدوءٍ شديدين في بلدة ميلي لا فوريه، ولم يحضرها سوى بعض أصدقائه.
لربّما كان تصادف وفاتهما في اليوم نفسه ليمرّ مرور الكرام لولا العلاقة الحميمة التي جمعت بينهما، والتي كانت كفيلةً بطرح ذلك التساؤل الغريب الذي طرأ حول مدى تأثير وفاة المغنّية على الشاعر. غير أنّ كلّ ما يمكن قوله هو أنّهما رحلا تاركين خلفهما أعمالًا خالدة، وعلاقةً ستظلّ مثارًا للنقاش لوقتٍ طويل.



المصادر والمراجع:
Maurice Maillet, Edith Piaf Inconnu, Editions Au Clair de Lune, Paris 1970.
Pierre Pernez, Edith Piaf – Une Vie Vraie, City Editions, Paris 2013.
Claude Arnaud, Jean Cocteau, Gallimard, Paris 2003.
Bernard Lonjon, Piaf – Cocteau : La Môme et le Poète, l’Archipel, 2013.
Mémoire de Jean Cocteau – Lettres à Jean Marie Magnan, Editions Autre Temps, Paris 2007.
Après la mort de Piaf et de Cocteau, Intervention Télé avec Jean Marais, Radiodiffusion Télévision Française, 12 octobre 1963.
Link : https://www.ina.fr/ina-eclaire-actu/video/caf88031191/apres-la-mort-de-piaf-et-de-cocteau
L'histoire de la fausse mort d'Edith Piaf à Paris, Article sur le site « Actu-Paris », 19 Décembre 2020.
Link : https://actu.fr/ile-de-france/paris_75056/l-histoire-de-la-fausse-mort-d-edith-piaf-a-paris_38240539.html#:~:text=Us%C3%A9e%20par%20la%20vie%20et,elle%20qu'%C3%A0%2017%20heures.
Jean-Christopher Hay, Edith Piaf et Jean Cocteau : la légende du siècle, Article sur le site « Gala », 10 Octobre 2013.
Link : gala.fr/l_actu/news_de_stars/edith_piaf_et_jean_cocteau_la_legende_du_siecle_299564
Cocteau : Quelques Eléments de biographie, Galerie Michel Fillion.
Link : https://www.michelfillion.com/oeuvres.php?artiste=COCTEAU