Print
فيصل خرتش

شارل خوري.. "شاعر ضائع في المدينة"

12 أكتوبر 2021
استعادات
كنت في اتحاد الكتاب العرب في مدينة حلب لحضور محاضرة عن الكتاب الأجانب الذين كتبوا عن المدينة. كان المحاضر موجودًا يتفحص أوراقه التي سيلقيها بعد قليل، اسمه عبد الله حجار، ويهتم بالآثار والمدينة القديمة. انتبه لوجودي، فأغلق الأوراق، ثم توجه بالكلام إليّ: "لماذا لا تكتبون عن شارل خوري، إنه شاعر مُضيّع، لم يعرفوا قيمته، كنز من الأنغام والموسيقى تصدح في كلماته، وتعزفها الحروف منسجمة متناغمة، هامسة حينًا وصارخة حينًا آخر، وهادرة أحيانًا".

قال أحد الجالسين في الاتحاد: "فعلًا، إن بشارة الخوري شاعر جيّد، فلماذا لا تكتبون عنه". قال الأستاذ عبد الله، وهو يشير بيده إلى المتكلم: "تفضل، وهذا واحد آخر يضيّع اسم الشاعر الذي نتكلم عنه، اسمه شارل خوري، وليس بشارة الخوري، كلاهما أعطى وأجاد، واحد اشتهر، والثاني لم يشتهر، وهذا غنى له كبار المطربين العرب، أمثال محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وغيرهما، وذاك غنت له زكية حمدان، وصباح فخري، في أول صعودهما، فما هو رأيكم". وهنا صار وقت المحاضرة، فقمنا متتابعين إليها.
بعد المحاضرة، رحت أبحث وأنقب، وعثرت على المعلومات التالية: ولد شارل خوري في 20 أيار/ مايو 1912 في مدينة حلب بحي الصليبة. بعد أن توفي والده، التحق ببيت جده لأمه، مع أختين له. التحق بمدرسة الأخوة المريميين، وتعلم اللغتين العربية والفرنسية، ونال شهادة البكالوريا. عمل مدققًا لغويًا في إحدى المطابع، ثم عمل في تدريس اللغتين: العربية والفرنسية في مدرسة الفيوضات الربانية. لم يتزوج، وعاش حياة قاسية بعد موت جده وشقيقتيه. اعتزل الحياة، وأصيب بأمراض نفسية، وأدخل مستشفى الأمراض العصبية حتى نهاية حياته. كان يكتب الشعر فضلًا عن كونه مدرسًا متميزًا. شهد له كثير من رجالات الأدب بتفوقه ونبوغه، لما في شعره من صدق العاطفة، ونبل المشاعر، ورقة الألفاظ. ومن العجب أن يُنسى شاعر حلب الكبير، شارل خوري، الذي كان ذائع الصيت، قوي العبارة، في النصف الأول من القرن العشرين.




من دواوينه المطبوعة: "أطياب"، و"سجايا". وله عدد من القصائد نشرت في مجلة الضاد الحلبية. كما ترجم رواية "خيانة زوجية" لألبيرتو مورافيا.
نستشهد، هنا، بقول الملحن الحلبي أحمد الأوبري: "وإني لأذكر يوم لحنت قصيدة (العذارى) لشارل خوري ورنمتها أمام الشاعر عمر أبو ريشة، قال: لا أستطيع أن أجاري شارل خوري فيها. وهذا بسبب طبعه وحساسيته المفرطة والمشاعر الجياشة التي سببت محنته".
وفي ما يتصل بإبداعه الشعري، كان بحق شاعرًا أصيلًا، يتفجر الشعر منه في كلَ موقف، وحيال كلّ مناسبة، وكانت شخصيته المرهفة الأحاسيس كثيرًا ما تقوده إلى قول الشعر في كل لحظة، تعبيرًا عن مكنون فؤاده، وتطهيرًا لما في نفسه من عواطف جامحة، وتعويضًا عن حرمان مستبد. هذه المعاناة المتعددة الوجوه رققت ألفاظه، وصهرت تجربته، وسمت بروحه، وحلقت بخياله، وأثرت عبارته باللطف والرقة والظرف، فأسلمت له أزمة الشعر قيادها، وأصبحت القصيدة ملك يديه، يفعل بها ما يشاء.
إنه يحاكي رقة العذارى، والتعبير عن أشواقهن وضروب الخفر في نفوسهن. كان يغني شعره قبل التلحين وغناء المطربين له. شعره ينطوي على تلك العناصر الإيقاعية والموسيقية المتناغمة، مما أهله ليكون كله شعرًا غنائيًا. إستمع إليه في أبيات "ليلى" التي أصبحت نشيد كل عاشق، وقد لحَنها له أحمد الأوبري، وغنتها المطربة زكية حمدان:
"أريج الزهر من عرفك ومعنى السحر في طرفك
نسيم الصبح من لطفك يحار الشــعر في وصفك
فأنت الكل يا ليلى
وصال الغــــــيد أهواه وقلبــــــــــــي منك يأباه
ولا يرضــى إلاه أيخشى مـــــــــــا تمناه
أجيبي القلب يا ليلى
أريحي قلبي العاني على عطف وتحنــــــان
على هدي وألحان فطول البعد أضنانــــي
وأدمى القلب يا ليلى".

وانظر قصيدته إلى "العذارى"، التي نظمها متجاوزًا فيها نمط القصيدة التقليدية، مضيفًا إليها ما أملته نظرته وتجربته الإبداعية، فشاكلت القصيدة فن الموشح، وخرجت غنائية خالصة، يقول منها:
"العذارى ناعسات الطرف بالحلم سكارى
تارة يبدو هواهن وطـــــــــورًا يتوارى
خلف ألوان الأماني والصبا لجّ وجــارا
أنا أخشى فتنة الأهواء يومًا أن تثـــــارا
يا عذارى
منهل الطهر وردنا منه شهدًا وغرامـــــا
والعذارى تنعش النعماء عطفًا وابتسامـــا
ضمّنا الحب كما ضمّ الطلا شمل الندامـى
إن في خمر هوانا نشوة تنسي المدامــــــا
يا هيامــــى
ألفت روحي العذارى فإذا بي في نعيــــم
طائر في جوّ حبي فوق غيمات الهمــــوم
العذارى نفحات النور في مسرى النسيـــم
كلما هب عليلًا ردّ روحًا لسقيــــــــــــــــم
أو كليـــــم
راحت العذراء تروي لي حديثًا مستطابـــا
وتغنيني هواها وأمانيها العذابــــــــــــــــــا
قلت يا حسناء هلا سمت ولهانًا عذابــــــــا
أطرقت حيرى وقالت: صاح دعني والجوابــا
والعتابـــــا".

ومن روائع شعره قصيدة "الناي"، التي ضمنها معاني إنسانية غاية في العمق، فقد غدت لديه مسرى لصوت الروح، وصيحة الإنسان، وتعبيرًا عن آلامه وأحلامه، ومنها يقول:
"الزمان دمعتان من حنان تذرفان
دمعة حلوة باسمة
ودمعة مرة قاتمة
ما على الإنسان لو سوّى الوجود جنة الخلد
ورأت عيناه أنوار الخلود خارج اللحد
أفما تهنا العيون، لحظة قبل المنون.....".
إلى نهاية القصيدة.

لم يكن الشاعر في منأى عما تضطرب به الحياة من حوله، ففي دواوينه المطبوعة وقصائده المنشورة فيض من هذه القصائد المعبرة عن تلك الأحداث. من ذلك، فرحته بيوم جلاء الفرنسيين عن وطنه. وقد ألقى قصيدة بعنوان "الجلاء" في دار الكتب الوطنية، وفيها يقول:
"رددي رددي لنا يا سماء زال عهد الأسى وتمّ الجلاء
إن شعبًا ذاق المصائب ألوانًا لعمري له يحق الهنــــــاء".




إن القارئ يعجب كيف تحوّل شارل خوري من شاعر هامس إلى شاعر ملحمي على نحو يذكر ببطولات الشعر العربي وملاحمه في الفخر والعزة والكرامة، إنه شاعر أصيل، يحسن التعبير عن النفس الإنسانية في أرق أحاسيسها وأدق تفاصيلها، كما يحسن التعبير عن أعظم طموحاتها وآلامها، ويجيد النطق بلسان الجماعة والوطن، شأنه في ذلك شأن الشعراء الأعلام في كل زمان ومكان، فهو يقول من قصيدة "أوهام" ما يلي:
"دعيني في سما وهمي
أنا من عـــالم الأوهام
سأقضي العمر نشوانا
حلّت لي خمرة الأوهام".

وقصيدته "يا بردى" التي يتغنى فيها بالنهر الخالد، وهو مشتاق إلى رشفة ماء من مياهه، ثم يسقي النهر الغوطة الشرقية والغربية، لتنتج أجمل الفواكه والخضروات، ومنها يقول:
"أنا المشتاق يا بـــــردى
وفي قلبي لظى وصدى".

وهذه القصيدة التي غناها صباح فخري، والتي تعبر عن أشواقه للقاء المحبوب، يقول فيها:
"ما لنا يومًا عن حبـــــــكم
أو لنا يومًا غنى عن قلبكم
حدثوا مضناكم عن قربكم
واذكروا صبًا إذا غنى لكم
شرب الدمــع وعاف القدح".

إنه الحظ، فشاعر مثل عمر أبو ريشة طوّف في الأقطار، وجاب البلدان، فلا تجد ندوة، أو منبرًا، أو صحيفة، إلا وهو متربع فيها، وشاعر مثل شارل خوري يجلس في حلب ولم يغادرها. لقد قتلت المدينة موهبته، ولم يسمع به أحد سوى سكانها. هكذا يضيع الشعر، ويضيّع الشعراء، في زمن لم تكن وسائل الاتصال الاجتماعي متاحة.


مراجع:

ـ أدباء من حلب ـ مجموعة من الأدباء، دار الثريا 2004.
ـ حلب بيت النغم ـ جميل ولاية ـ دار طلاس 2008.
ـ الموسيقى في سورية ـ صميم الشريف ـ وزارة الثقافة 1991.