Print
عبد الكريم قادري

في ذكرى ميلاده الـ108.. ألبير كامو تحت مجهر النقد

24 نوفمبر 2021
استعادات


تصادف في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام، ذكرى ميلاد الكاتب والفيلسوف والروائي الفرنسي (الجزائري المولد والمنشأ) ألبير كامو (1913-1960) المتوج بجائزة نوبل للآداب (1957)، وعادة ما تكون هذه المناسبة السنوية فرصة مهمة لكل عشاق هذا الكاتب المهم في كل نقطة في العالم، لتقليب تلك الأعمال ووضعها مرة أخرى تحت مجهر النقد والنقاشات والمواجهات الفكرية الجديدة القديمة، وعادة ما يلجأ معارضو كامو في كل مناسبة للرفوف المتآكلة التي رتبها خصومه القدامى واضعين عليها العديد من التهم الجاهزة التي أفسدوا بها بهجة حياته وسكينة موته، انطلاقًا من مواقف غير مؤسسة من الناحية الفكرية والفلسفية، بل اتخذوا من المواقف الإنسانية (ظاهريًا) والتأويلات المغرضة منطلقًا حادًا لتلك الهجمات المتتالية والمدروسة، لحجب نور توهجه وسيطرته على المشهد الأدبي والفكري بشكل متسارع، وبروزه وانتشاره بين القراء وعشاق الأدب قي كل نقطة من العالم، وهو القادم من القاع، حيث البؤس والشقاء وشظف العيش وكدره، فوالده توفي في الحرب العالمية الثانية بعد عام فقط من ولادته، تركه يتيمًا مع أم صمّاء جزئيًا، لا تملك في رصيدها اللغوي سوى حوالي 400 كلمة، ومن رصيد الحياة سوى قبو بيت في مزرعة ريفية لصناعة النبيذ تسمى سان بول (شبيطة مختار حاليًا)، تحاصرهم الرطوبة والحشرات والجوع ورائحة النبيذ المعتق، تبعد عن أقرب تجمع سكاني حوالي 8 كم وهي بلدية موندوفي (الذرعان حاليًا)، وقد قُيّد في دفاتر حالتها المدنية كمولود فيها، وكانت وقتها تابعة لمحافظة بون (عنابة) التي تبعد عنها حوالي 34 كم.

 

بين أب مات في الحرب وأم صمّاء فقيرة

لم تقدر الأم كاترين سينتيس (1882-1960) على تحمل الواقع المر الذي تركها فيه زوجها لوسيان أوغست كامو (1885-1914)، لهذا أخذت طفليها لوسيان وألبير ورحلت إلى العاصمة (تبعد حوالي 600 كم من مسقط رأس ألبير كامو) لتقيم بحي بلكور (بلوزداد حاليًا)، وهناك بدأت حياة جديدة بين أقاربها، وإن كان واقع الفقر لم يتغير وقتها، لكن فرص الحياة كانت أقرب لألبير كامو الذي بدأ يعرف طريقه جيدًا، من خلال التوفيق في مراحل الدراسة والرياضة والجامعة والدخول في عالم الصحافة والأدب.

هذه المرجعية القاسية التي تقتات من البؤس والفقر كوّنت شخصية ألبير كامو الذي خرج منها يساريًا معارضًا لأنظمة الاستبداد والاحتلال، لهذا انخرط بشكل سري في المقاومة أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا، من خلال الكتابة في صحيفة "المعركة" التي كانت تنشط وتصدر بشكل سري، وأنجز في الجزائر العديد من التحقيقات الصحافية الجريئة التي نشرها في حلقات بجريدة "الجزائر الجمهورية" ذات الخط اليساري المعروف بشهر حزيران/يونيو 1939، تطرق فيها بالتفصيل لحياة البؤس والشقاء والمرض والجوع التي كان يعيشها الجزائريون الذين يعيشون في منطقة القبائل والجزائر بشكل عام، ولقد بدأ ألبير تحقيقه المكتوب بكلمات قوية وموحية ومعبّرة جدا بقوله: "ذات صباح باكر، رأيت في تيزي وزو أطفالًا بألبسة ممزقة يتنافسون مع الكلاب على محتويات القمامة..."!

ألبير كامو مع أخيه لوسيان سنة 1920 وفي الصورة الثانية مكان ولادته، التقطها صديقه إدموند بروا سنة 1960



واقع مر كان يجهله الفرنسيون، خاصة أولئك الذين يعيشون في البلد الأم، كما تجهله حتى الطبقة الفرنسية المثقفة ومن خلفها العالم، من الذين تعودوا شرب القهوة في شوارع باريس، يطالعون الجرائد، ويحسبون بأن الواقع هو ما تنقله الصحف الباريسية أو ما يحدث في شارع الشانزيليزيه، لكن كامو وضع المستعمر الفرنسي في صورته الحقيقية وسياقه الصحيح، وحرّض اليسار بكل أشكاله للوقوف في وجه هذا الواقع وهذه الآلة القمعية التي تحاول دائمًا أن تداريه، وأكثر من هذا أن تجمله بشعاراتها الكاذبة.

الرجم بالكلام والافتراء وإخراج المعنى عن السياق

هذه المعطيات المضيئة صنعت الأحقاد لشريحة واسعة من المثقفين النبلاء الذين ورثوا الأمجاد والثقافة والقصور وحتى الأدب في بعض الأحيان، ساءهم أن يتجاوزهم الفتى القادم من القاع، ما جعلهم ينتظرون عثرة واحدة من ألبير كامو ليهيلوا عليه التراب ويرجموه بالكلام وهو حي، وشنوا عليه حملات مسعورة مليئة بالكذب والحقد والافتراء، أدخلته في حالة نفسية حادة، وقد أجبر على الصمت حتى لا يتم تأويل أي تصريح وإخراجه عن سياقه، ما جعل مدير صحيفة "لوموند" يقول: "أعرف كامو سيقول وقاحة يومًا ما"، وكأنه ينتظر بفارغ الصبر سقطة منه ليبدأ هجومًا عليه، خاصة وأن المدير هذا الذي اسمه هيربرت بيوف ميرى كان قريبًا في وقت مضى من حكومة فيشي الموالية للاستعمار الألماني والنازية، أي أن ماضيه مشبع بالعمالة والخيانة، لكن شارل ديغول كلفه بعد استقلال فرنسا بتأسيس الجريدة، وبالتالي أعطاه الشرعية ونفض عنه غبار الماضي الأسود، على عكس ألبير كامو الوطني والمقاوم، صاحب المواقف النبيلة، ولقد انتظر هيربرت الفرصة المناسبة لينقض عليه، وقد قدّم له مراسل صحيفته "لوموند" من السويد هذا الانتقام على طبق من ذهب، بعد أن استل جملة من تصريح واسع لألبير كامو كان قد قاله في ندوة نظمت مع الطلبة في ستوكهولم، على هامش حصوله على جائزة نوبل للآداب، بعد أن وجّه له طالب جزائري اسمه سعيد كسّال جملة من الأسئلة المصبوغة بلوم شديد على خلفية صمته عن حرب الجزائر وما يحدث للأهالي من مجازر جماعية على يد الاستعمار الفرنسي، ليكون رد كامو عقلانيًا، لكن المراسل استل جملة من الرد جاء فيها "لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ العَدَالَةِ وأمِّي لاخْتَرْتُ أمِّي" ونشرها مجزأة، وهو الأمر الذي أفسد معناها وغايتها وسياقها الكامل، من هنا تبدأ سلسلة الهجومات التي انطلقت من "لوموند" عن طريق مديرها الحاقد الذي كان يبحث عن حماقة لألبير كامو، وهو ما وجده ونفخه على صدور الذين كانوا ينتظرون مثل هذه السقطات ليستلوا أقلامهم النارية ويبدأوا سلسلة هجماتهم المنسقة والحاقدة، سواء من الجرائد اليسارية أو المحافظة، فقد كان عدوهم واحدا، وهو ألبير كامو، وعليه قاموا بتأويل هذه الجملة على ما يناسب هواهم واتجاهاتهم ورؤاهم الفكرية عن طريق مناورات خبيثة وغير أخلاقية، مثل سيمون دي بوفوار التي اختلط معها الشخصي بالعملي، وكذلك جان بول سارتر وغيرهما كثر، كتبوا بأن ألبير كامو ينتصر لـ"الأقدام السوداء" و"الرجل الأبيض"، على حساب الأهالي والسكان الأصليين، من هنا صوروه على أنه كاتب عنصري، من أجل الانتقاص من إنجازاته الأدبية والفكرية والفلسفية وحتى الحياتية.

قبر ألبير كامو 



لهذه الأسباب اختار كامو أمه

ذكر الكاتب والباحث الجزائري حميد زناز هذه الحادثة في كتابه "والفيلسوف إذا سئل/ لماذا اختار ألبير كامو أمه" الصادر عن الدار الجزائرية 2017، وأكد عليها من خلال الحوار الصحافي الذي أجرته معه الصحافية نوار لحرش والمنشور بمجلة الدوحة في عددها 116، وساق زناز رد ألبير كامو على سعيد كسال بقوله: "لقد فرضتُ على نفسي الصمت خلال عام وثمانية أشهر وهذا لا يعني أنّني توقفت عن الفعل. لقد كنتُ ولا أزال دائمًا نصير جزائر عادلة ينبغي أن يعيش فيها الشعبان في سلام ومساواة. لقد قلتُ ورددتُ أنّه يجبُ أن ينعم الشعب الجزائري بالعدالة، لقد بدا لي أنّه من الأحسن انتظار وقت مناسب لأجمع بدل أن أفرّق… لقد نددت دائمًا بالرعب. ويجب عليّ أن أندد بالإرهاب الذي يُمارس بلا أدنى تبصر في شوارع مدينة الجزائر مثلًا والذي يمكن أن يضرب أمي أو عائلتي في يوم من الأيام. أؤمن بالعدالة ولكنّني أدافع عن أمي قبل العدالة". ويعلق حميد زناز بقوله: "اغتنم بعض المعادين الفرنسيين لكامو الفرصة فرأوا أنّه برهن أنّه يفضل أمه على 10 ملايين من العرب. ولم تترك سيمون دو بوفوار الفرصة تمر للانتقام منه بسبب رفضه أن يكون عشيقًا لها في زمن مضى، فكتبت أنه بقوله هذه الجملة قد انحاز صاحب نوبل الجديد لمعسكر الأقدام السوداء".

لا يمكن لأي شخص في أي نقطة من العالم أن يزايد على حب ألبير كامو، وكان يعتبر نفسه دائمًا ابن الأرض، يرى بأن سماء الجزائر تختلف عن باقي السموات، وكذلك ترابها وهواءها وخضرتها ومناظرها المختلفة، وقد أكد هذا الأمر الباحث والمترجم حميد زناز الذي نقل ما قاله كامو عن بلاده بقوله: "الجزائر هي بالنسبة لي بلاد السعادة، والطاقة الحيوية والإبداع. لم أكتب شيئًا في حياتي غير متعلق من قريب أو من بعيد بالأرض التي رأيت عليها النور. في الجزائر يوجد الجمال والقهر. ومهما كانت صعوبة المهمة، فلن أقبل أن أخون لا الجمال ولا المقهورين". وهذا ما حدث فعلًا، لم يتخلّ كامو مطلقًا عن المقهورين الذين كتب عنهم وعن أوجاعهم وآلامهم وأحلامهم وكوابيسهم، كانوا بالنسبة له الهاجس الأبدي الذي لا يجب أن يتخلى عنه مهما وصلت به الرتب، لهذا كان يذكر فرنسا والعالم أجمع بأن الجزائر تختلف عن فرنسا: "يجب تذكير الفرنسيين أن الجزائر موجودة، وأقصد بهذا أنّها موجودة خارج فرنسا، الشعب الجزائري ليس ذلك الحشد المغفل والمعدم والذي لا يرى فيه الغرب ما يستحق الدفاع أو الاحترام. إنّه على العكس من ذلك، شعب يملك تقاليد عظيمة على رأسها الفضيلة"، كما أكد في أكثر من مناسبة بأن لا يحس بموطنه سوى عندما يكون في الجزائر، ويحس دائمًا بالغربة عندما يبتعد عنها: "لا أستطيع العيش بعيدًا عن مدينة الجزائر. سأسافر لأنّني أحب اكتشاف العالم ولكن أنا مقتنع تمام الاقتناع بأنّني سأكون دائمًا في المنفى حينما أكون بعيدًا عن الجزائر".

اللافتة التي كتبها إدموند بروا بخط يده



الذكرى الثامنة بعد المئة.. لا حدث يعلو فوق الصمت

من المؤسف أن تمر الذكرى الثامنة بعد المئة لميلاد هذا الكاتب الاستثنائي في الجزائر بدون أي احتفالية أو استذكار، سواء من المدونة الرسمية أو غيرها، مرت مرور الكرام وكأنهم ينفون جزائرية هذا الكاتب الذي ولد على هذه الأرض وفي هذه الجغرافيا، ما زالوا يستندون على حائط جماعة باريس التي ترى في ألبير كامو متعاليا على الجزائر وعلى المكون البشري في الجزائر، وحجتهم الجاهزة دائمًا هي الجملة المستلة من الرد الطويل "لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ العَدَالَةِ وأمِّي لاخْتَرْتُ أمِّي"، دون أن يكلفوا أنفسهم تحليلها وفق سياقها الصحيح، أو البحث في تفاصيلها وفهمها وفقًا لشرطها التاريخي، وأكثر من هذا هناك دائمًا من ينصب المشانق لألبير كامو لقتله في السنة مئات المرات، يحاكمونه لأنه لم يخلق مساحة في منجزه الروائي للعربي الجزائري، ويكتفي دائمًا بوضعه في الهامش والإشارة له بـ"العربي" فقط حتى يتركه بلا ذات وشخصية، على عكس المجتمع الفرنسي الذي كان يأخذ الصدر من مدونته، يخلق الأشخاص وفق مكونها وأسمائها وتفاصيلها، لتدب فيها الحياة وتصبح ذات مواقف، كـ"ميرسو" في رواية "الغريب" مثلًا، يقابله في نفس هذه الرواية "العربي"، أي أنهم يحاكمون كامو انطلاقًا من التخييل، من الشخصيات الهلامية التي كانت في رأسه، وعادة لا تستند إلى واقع ولا تبني موقفًا، وفي المقابل يتناسون مثلا التحقيقات الميدانية التي أنجزها حول منطقة القبائل، نقل فيها البؤس والشقاء والعنصرية، ويتجاوزون عن تصريحاتها التي تنادي بالعدالة والمساواة بين جميع المكونات التي كانت تعيش في الجزائر، وأكثر من هذا يقولون بأن كامو لم ينخرط في صفوف الثورة الجزائرية، لكنهم في المقابل لا يدرسون توجهه الفكري الذي يعادي العنف والحروب والثورات، فقط يؤمن بأن الكلمة وحدها هي القادرة على التغير والتأثير، بعيدًا عن كونه كان مخطئًا أو مصيبًا في هذا الطرح، لكنه وجب احترامه وفهمه بطريقة صحيحة. 

حقيقة أن ألبير كامو ولد في الجزائر لا يستطيع أن يغيرها أي فرد، سواء كان محبًا أو كارهًا له، لكن ما يجرح القلب فعلًا هو أن هناك فئة واسعة من الطبقة المثقفة الجزائرية وحتى الفرنسية لا تزال تجهل إلى غاية اليوم البيت الحقيقي الذي ولد فيه ألبير كامو في منطقة موندوفي (الذرعان حاليًا)، ويتم الترويج لبيت زائف على أنه مسقط رأس كامو، وقد زار السفير الفرنسي رفقة وفد بشهر جانفي/كانون الثاني سنة 2012 ووضع لافتة مخلدة له بهذه المناسبة في هذا المنزل المزيف، لكن تم نزعها من قبل مجهولين في اليوم الموالي، وعليه انتشرت الصورة في مواقع الإنترنت وأصبحت هي المرجع الأساسي، ليأخذ هذا الزيف مكان الحقيقية تمامًا، ولكن الحقيقة شيء مختلف تمامًا، وهذا ما أكده الكاتب والباحث في المنطقة توفيق بوقرة في وقت سابق، على أن كامو لم يولد في ذلك البيت، وان المقر الحقيقي الذي ولد فيه هو في قبو بيت بمزرعة سان بول (شبيطة مختار حاليًا) التي تبعد حوالي 8 كم عن بلدية الذرعان، ولقد تأكدت شخصيًا من هذا الأمر عن طريق العديد من المراجع القديمة وصور الأرشيف، خاصة من تحقيق أنجزه الكاتب والشاعر والصحافي ادموند بروا (Edmond Brua) (1901-1977) الذي زار بلدية موندوفي (الذرعان) بعد موت ألبير كامو بحوالي 6 شهور، ونشر تحقيقًا شاملًا، ويعود سبب هذا اللغط بالأساس إلى أنه كانت هناك مرسلات شخصية بين رئيس بلدية موندوفي (الذرعان) والصحافي ادموند بروا سنة 1960 من أجل إيجاد صيغة تكريمية لألبير كامو في البلدية، وعليه أنجز ادموند مخطط اللافتة لتعليقها في المزرعة، كما تم تسمية شارع في مندوفي باسم ألبير كامو، من هنا بات يعتقد فيما بعد بأن ذلك هو الشارع الذي ولد فيه، وقد رفضت زوجة كامو سابقًا تعليق لافتات باسم زوجها، لأنها قرأت المشهد السياسي الجزائري في ذلك الوقت بطريقة جيدة، عرفت بأن الجزائر في طريقها للاستقلال وسيتم نزع اللافتة في وقت سابقا وتسمية الشوارع بأسماء المناضلين والشهداء الجزائريين، لهذا لم يتم تعليق اللافتة في المزرعة التي تم تهديمها بعد فيما بعد.