Print
عماد فؤاد

خمسون عامًا على انتحار يوكيو ميشيما.. ساموراي اليابان الأخير

27 فبراير 2021
استعادات

لم يكن الرّوائي الياباني يوكيو ميشيما (1925 ـ 1970) أوّل الأدباء المنتحرين، ولن يكون آخرهم، فقد سبقه العديد ممن تجرّأوا على اتّخاذ قرار إنهاء حياتهم، من كُتَّاب وشعراء في أنحاء مختلفة من العالم، وبنظرة سريعة إلى الوراء، سيرد على أذهاننا عديد من الأسماء، بدءًا من فرجينيا وولف، التي انتحرت غرقًا يوم 28 آذار/ مارس 1941 عن عمر ناهز 59 عامًا، وأرنست هيمنغواي الذي فجّر رأسه بطلقة في الثاني من تموز/ يوليو 1961، وسيلفيا بلاث، التي انتحرت خنقًا بالغاز، وهي في الثلاثين من عمرها ذات صباح لندني بارد، وافق الحادي عشر من شباط/ فبراير 1963. لكن تظلّ للانتحار في اليابان مكانة تاريخية تعود إلى تقاليد ضاربة بجذورها عميقًا في الرّوح اليابانية. فبشكل عام، يحتل البلد الصناعي مرتبة متقدّمة اليوم في نسبة انتحار سكّانه، ووفقًا للإحصائيات فقد بلغ عدد المنتحرين في اليابان خلال عام 2014 وحده ما يزيد عن 25 ألف حالة انتحار، وهي النسبة الأقل خلال السّنوات العشر الأخيرة!

ميشيما في آخر لحظات حياته مخاطبا قوات الجيش الياباني قبل انتحاره (يمين). ويحمل سيف الساموراي (يسار)


من أدباء اليابان الذين انتحروا، أيضًا، ياسوناري كاواباتا (1899 ـ 1972)، صاحب رواية "منزل الجميلات النّائمات"، إحدى أجمل قطع الأدب العالمي المعاصر، التي أهّلته لنيل جائزة نوبل للآداب عام 1968. وضع كاواباتا حدًّا لحياته في 16 نيسان/ أبريل 1972، باستنشاق الغاز، وكان أحد أهمّ أسباب انتحاره هو انتحار صديقه الأقرب يوكيو ميشيما، صبيحة 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970. خمسون عامًا ونيّف مرت الآن على انتحاره المفجع، في ذلك اليوم، وبعد أن انتهى من كتابة مخطوط آخر روايات رباعيته الأخيرة "بحر الخصوبة"، ارتدى يوكيو ميشيما، الرّوائي وكاتب المسرح الياباني الأشهر في بلاده بعد الحرب العالمية الثانية، ثيابه العسكرية، وبدأ في الاتصال بعدد من الصحافيين لدعوتهم للّحاق به بعد ساعة في مقرّ القيادة الشّرقية لقوات الدّفاع الذّاتي في طوكيو، واعدًا إياهم بالحصول على أخبار "شيّقة" ستتصدّر صفحاتهم الأولى!

في هذه اللحظة، كان يوكيو ميشيما في قمّة مجده الأدبي، وكان كواباتا مرشدًا وصديقًا مقرّبًا له، لكن بحصول كاواباتا على جائزة نوبل سنة 1968، تبخّر حلم ميشيما في أن يكون أوّل كاتب ياباني يحصل عليها. ويرى كثيرون أن حصول كاواباتا على نوبل عجّل في انتحار ميشيما. وقتها، كان ميشيما قد رُشح ثلاث مرّات لنيل نوبل في الآداب، ويعرفه القاصي والداني بوصفه أشهر كُتّاب اليابان، بفضل التّرجمات التي نقلت أعماله إلى اللغات الرئيسية الأخرى: الإنكليزية، والفرنسية، والإسبانية، وغيرها.
كان اسم ميشيما في حدّ ذاته مثارًا للجدل، فهو من ناحية يكتب أدبًا طليعيًا وتجريبيًا معاصرًا، ومن ناحية أخرى يتمسّك بالقيم اليابانية التقليدية تمسّك المتزمّتين. قدّم ما يقرب من 40 رواية، و80 عملًا مسرحيًا، و20 مجموعة قصصية، وما لا يقل عن 20 كتابًا في المقالة الصحافية. لكن تظلّ رباعيته الرّوائية الأخيرة "بحر الخصوبة" هي مشروعه الرّوائي الأشمل والأضخم، يغطّي فيها ميشيما تاريخ اليابان في الفترة ما بين 1912 و1970، متتبّعًا الرّحلة الرّوحية لبطله "شيجوني هوندا"، وهو يمرّ عبر اضطرابات تاريخ اليابان الحديث، وتتألّف هذه الرّباعية من روايات (ترجمت جميعها إلى العربية عن الإنكليزية بتوقيع كامل يوسف حسين): "ثلج الرّبيع"، "الجياد الهاربة"، "معبد الفجر" و"سقوط الملاك"، والرواية الأخيرة هي التي أكملها ميشيما وترك مخطوطها في مظروف يحمل عنوان ناشره يوم انتحاره. مكّنته الرّوايات الثّلاث الأولى من هذه الرّباعية من التّرشح بقوّة لجائزة نوبل للآداب ثلاث مرّات قبل انتحاره، لكنّنا لن نستطيع فهم عالم يوكيو ميشيما الأدبي والنّفسي إلا برجوعنا إلى كتابه الأهم "اعترافات قناع"، الذي نشره عام 1949. وقتها، لم يكن ميشيما قد تخطّى عامه الـ 24 بعد!



اعترافات قناع
في "اعترافات قناع"، وهو الكتاب الذي صنع شهرة ميشيما الأدبية، والذي وقف فيه الكاتب بين برزخي الرواية والسيرة الذاتية، يكشف ميشيما عن طفولته التي عاشها تحت سيطرة جدته المريضة، التي أخذته عنوة من والديه بعد أسابيع قليلة من ولادته عام 1925، وأبقته معها في غرفتها المعتمة حتى بلغ الثانية عشرة من عمره، امّحت شخصية الطفل منذ الصغر أمام سطوة جدته غير المحدودة. يقول ميشيما في "اعترافات قناع"، بترجمة كامل يوسف حسين: "كان والداي يقيمان في الطابق الثاني من الدار، وبدعوى أنه ممّا ينطوي على مخاطرة أن تتمّ تربية طفل في طابق علوي، انتزعتني جدتي من أحضان أمي في اليوم التاسع والأربعين لمولدي، وُضع فراشي في غرفة مرض جدتي الموصدة الأبواب دائمًا، والمفعمة بروائح المرض والشيخوخة، فنشأتُ هناك إلى جانب فراش مرضها".

ميشيما في مكتبه يستعرض أحد سيوفه


ربما هربًا من تعاليم الجدة الصارمة، وجد ميشيما في الأدب منذ صغره ملاذًا آمنًا يستطيع أن يلجأ إليه في الغرفة الواسعة، التي تتردد في عتمتها أنفاس جدته النائمة، فتعلّق منذ الصغر بعوالم أوسكار وايلد، وراينر ماريا ريلكه، وهانس كريستيان أندرسن، ونيتشه، إلى جوار أعمال الأدب الياباني التقليدية، وبدأ ميشيما في كتابة القصص في سنّ مبكرة، كما اقترب قليلًا من الشِّعر الياباني وأشكاله التقليدية في شبابه، قبل أن يكثّف وقته في الرّواية والمسرح. منذ صغره، عانى ميشيما من الضّعف الجسدي، لكن كانت قريحته متيقّظة على الدّوام، وربّما من هنا تولّدت حربه الضّروس طوال حياته للتوفيق بين ثقافة العقل وثقافة الجسد، وهو ما تجلّى بشكل واضح في أغلب أعماله الأدبية الأخرى، ومن بينها: "البحّار الذي لفظه البحر"، و"خيانة الفضيلة"، و"المعبد الذهبي"، و"حب محرّم"، حتى أن كثيرين اعتبروا أن انتحار ميشيما كان في حدّ ذاته عملًا أدبيًا، يكمّل ويتمّم ما دعا إليه في أعماله الروائية والقصصية التي حقّقت شهرته ومكانته الكبيرة عالميًا.

بدأ ميشيما برنامجًا صارمًا في رياضة كمال الأجسام منذ عام 1955، كجزء من رغبته في الوصول إلى الجمال التّام جسمانيًا وفكريًا، وأصبح مفتونًا على نحو متزايد بفنون الدفاع عن النفس، والضاربة بجذورها عميقًا في ثقافته التي تشرّبها طفلًا على يد جدته التي خنقته بحبّها له، كان هاجس جماليّات الجسد، وعلاقته بالموت، من الموضوعات المحبّبة لميشيما في أغلب أعماله الروائية والمسرحية، هو المفتون بما وراء الحياة، منذ كان طفلًا يتوق إلى الموت ببسالة في المعارك الحربية. لكنّه، في الوقت نفسه، يركض خوفًا حين تدوّي صفارات الإنذار معلنة عن الغارات الجوية الأميركية أثناء الحرب. من هنا، أصبح ميشيما ينجذب بشكل متزايد إلى مفاهيم رومانسية عن المأساة البطولية، وكتب العديد من أعماله وهو يضع نصب عينيه عشقه للجمال في أي صورة كان، خاصة الجمال القابل للتحطّم والانهيار، أو الموت في أية لحظة. وهكذا؛ مُحمّلًا بكثير من المُثل العليا النابعة من آرائه الفلسفية عن الجمال والروح والذكورة المطلقة، ورفضه للقيم الاستهلاكية الغربية، بل وتمجيده الموت العنيف، وبصور لا تخلو من المازوشية والسادية في أحيان كثيرة، أوصل يوكيو ميشيما نفسه إلى نهايته المحتومة التي جرت صباح 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، على مسمع ومرأى من اليابان، والعالم كله.



روح السّاموراي
في اليوم الأخير، توجّه ميشيما برفقة أربعة من أعضاء حركته العسكرية الفاشية التي أطلق عليه "قوات الدرع"، أو "تاتينوكاي"، إلى مقرّ قيادة قوات الدّفاع الذاتي في طوكيو، بحجة زيارة ودّية لجنرالها، وبدلًا من ذلك، اتّخذ ميشيما ورفاقه من الجنرال رهينة، وأجبروه على استدعاء قوات الوحدة العسكرية، ليسمعوا خطاب ميشيما إليهم، وهو ما حدث بالفعل، وعلى مسمع ومرأى من ألف جندي في منتصف النّهار، أطلّ ميشيما من شرفة المبنى العسكري، بينما حلّقت مروحيات الشرطة والأخبار في السماء، وألقى ميشيما خطابًا حثّ فيه الجيش على الإطاحة بالحكومة، وإعادة تنصيب الإمبراطور، باعتباره الحاكم الإلهي لليابان!

وهي الدعوة التي ووجهت باستهجان الجنود الذين سخروا منه علانية، ليعود ميشيما إلى الداخل ويقوم بفعل الانتحار على الطريقة اليابانية القديمة، والتي تبدأ بأن يبقر المنتحر بطنه بخنجر صغير، فيما يقوم شخص آخر بقطع رأس المنتحر كي لا يطيل عذابه، وهي الطريقة التي تعرف باسم "سيبّوكو". لكن رفيق ميشيما فشل في توجيه الضربة القاضية ثلاث مرات، فانتحر هو الآخر، واضطر رجل ثالث إلى قطع رأس ميشيما كي ينهي عذاباته.

يوكيو ميشيما في المشهد الأخير من حياته


فشلت خطّة ميشيما بالطبع، ويرى كثيرون أن ميشيما نفسه كان يعلم بفشل خطته، فأيّ انقلاب هذا الذي ينجح بخمسة أشخاص اتّخذوا من جنرال رهينة؟! وحتى اليوم، ما يزال النقاش حول دوافع ميشيما للانتحار قائمًا، بل وكشفت مذكّراته لاحقًا نيته الانتحارية، وقال فيها بوضوح إنّه كان يتوقّع أن يفشل، لكنّه كان يأمل في أن يكون انتحاره: "سببًا ليستفيق اليابان من غفوته، ويعود إلى تقاليده القديمة". يقول: "أردت إحياء بعض روح السّاموراي. لم أكن أرغب في إحياء فعل الانتحار ذاته، بقدر ما أردت أن أُلهم الشباب وأُحفزّهم إلى إعادة اليابان إلى ما كانت عليه قبل الحرب". اعتبر ميشيما أن انتحاره الدرامي هو موقفه الأخير ضد اتجاه اليابان إلى العصرنة المتسارعة بعد الحرب العالمية الثانية.

يبدو الأمر وكأنّ هناك خطأ ما قد حدث في المسرح العبثي الذي صمّمه ميشيما لمسرحية انتحاره، حتى أنّ رؤساء تحرير الصّحف رفضوا طباعة ما أرسله مراسليهم من موقع الحدث، بل إنّ إيساكو ساتو، رئيس الوزراء الياباني حينها، وكان صديقًا شخصيًا لميشيما، قال عندما علم بالحادث البشع: "يبدو أنه جنّ قبل أن يفعلها"! وبالرّغم من الصدمة التي ألمّت بالجميع بعد سماعهم خبر انتحار ميشيما، إلا أن الانتحار يبقى هو النهاية التي كان يعرف الجميع أن ميشيما قد خطّها لنفسه، فلطالما تمنّى موتًا مأساويًا. يقول في "اعترافات قناع": "على الرّغم من أنني في طفولتي طالعت كل الأقاصيص الخرافية التي استطاعت يداي الوصول إليها. فلم يحدث أبدًا أن أحببت الأميرات، كنت مولعًا بالأمراء فحسب، وأكثر ولعًا بالأمراء الذين يلقون مصرعهم، أو قدّر لهم الموت، أحببت حبًا جمًا أي شاب يلقى منيته صريعًا".



اختفاء اليابان
لم يستطع ميشيما تحرير نفسه من السحر بالموت، في أحد مقالاته المكتوبة عام 1963، أقرّ قائلًا: "بدأت أشعر بالفعل أن الفتوّة والشباب ليسا سوى حماقة، يبقى الموت هو الأبهى". مستفيدًا من شهرته في الأوساط الأدبية اليابانية، خضع ميشيما عام 1967 إلى تدريب أساسي مع قوات الدفاع الذاتي اليابانية، وهي خطوة تدعو إلى السخرية إلى حد ما، بالنظر إلى ادّعاء ميشيما إصابته بالسّل لتفادي التجنيد الإجباري خلال الحرب العالمية الثانية، وهو "الفعل الجبان" الذي ظلّ يطارد ميشيما طيلة عمره، ويشعر تجاهه بالدونية، لكن تماشيًا مع إعادة صحوة ميشيما، كرجل فعل، أنشأ عام 1968 ميليشيا خاصة به تسمّى "قوات الدرع"، تكوّنت من صحافيين شباب وطلبة في الجامعات اليمينية المتعصّبة، كوّن ميشيما لنفسه جيشًا صغيرًا قوامه 100 فرد مهمّتهم الأساسية حماية الإمبراطور، والعودة إلى الانضباط العسكري في عصر ما قبل ميجي في اليابان. لم يكن هذا التفاني لإمبراطور اليابان من قبل ميشيما مستغربًا، على الرغم من انتقاد ميشيما اللاذع للإمبراطور بعد استسلامه المخزي في الحرب ضد الأميركيين، وتخلّيه عن مبدأ "ألوهية الإمبراطور" بعد الحرب العالمية الثانية.

وبالتوازي مع هذا الولع بألعاب الحركة والقوة، بدأ يوكيو ميشيما انتقاد انسحاق بلاده بعد الحرب، ورفض بشكل قاطع ما أسماه "تغريب اليابان"، وأعلن وقتها أن "البلاد تتخلّى عن قيمها التقليدية، وتحيا في فراغ روحي بشع"، وهو ما صاغه في موضع آخر قائلًا: "سيختفي اليابان، وبدلًا منه، سيتم صنع عملاق اقتصادي بارد، فارغ، محايد، فخم، داهية، واقفًا في زاوية ما من الشرق الأقصى". لم يكن ميشيما وحده بين كُتّاب اليابان الذي امتلك هذا الموقف السلبي تجاه الحياة الحديثة، التي حوّلت اليابان إلى عملاق اقتصادي "مسالم"، بل شاركه آخرون كان على رأسهم معاصريه: جونيتشيرو تانيزاكي، وياسوناري كواباتا.



الجمال المأساوي
كتب ميشيما "اعترافات قناع" في محاولة منه لمواجهة نقائص شخصيته، وخلقها من جديد، ولكن من خلف قناع. كان دستور اليابان ـ الذي كتبه محامون عسكريون أميركيون ـ قد تغيّر بعد الحرب، وتخلّى إلى الأبد عن حقوق اليابان في الحفاظ على قواته المسلحة، أو شنّ الحرب. في أرض "الساموراي"، أصبح من غير الدستوري الآن أن تكون "محاربًا"! وبناءً عليه، أعيد تصفيف الجيش الياباني باعتباره "قوة للدفاع عن النفس فقط"، وأصبح وضع معاهدة الأمن اليابانية مع الولايات المتحدة مثارًا للجدل. وفي الوقت ذاته، كان المثقفون اليابانيون يناقشون مدى "التغريب" الذي قوّض الثقافة اليابانية وتقاليدها العريقة، وقامت احتجاجات عنيفة في الجامعات من قبل الطلاب الذين يشكون من عدم وجود "معنى" في المجتمع الياباني الجديد، واكتسبت الشيوعية مؤمنين لها في طوكيو، وبدأت تتعالى أصوات متطرّفة تدعو للثّورة وتفكيك النظام الإمبراطوري.
ألقى ميشيما بنفسه في خضم هذه القضايا، معزّزًا أجندة رجعية قوية، فسخر من مسالمة دستور ما بعد الحرب، وزار الحرم الجامعي المحاصر، وحاول إقناع الطّلاب بأهمية الميراث الثقافي، واقفًا معهم ضد الفردانية والأنانية في الثقافة الغربية، ومشيدًا بروح الساموراي للتضحية بالنفس، و"الجمال المأساوي" لأسراب الانتحاريين، حتى أن روايته الأولى "السارقون"، التي ظهرت عام 1949، كانت تدور "حول نشوة الموت البالغة الحضور التي يحسّها فتى وفتاة من أصول أرستقراطية، فيقرران الزواج، لينتحرا معًا في ليلة زفافهما"، بحسب كامل يوسف حسين في تقديمه لـ"اعترافات قناع" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004)، كما لا ننسى أن ميشما قدّم عام 1966 فيلمًا قصيرًا بعنوان Patriotism، لعب فيه ميشيما بنفسه دور ضابط في الجيش يقوم بالانتحار (بالطريقة نفسها التي انتحر فيها لاحقًا) بدلًا من عصيان قيادته.

انتحر كثير من كُتاب العالم، لكن انتحار ميشيما كان عملًا غير اعتيادي، وله دوافع سياسية. لم يكن يريد الموت بوصفه كاتبًا فقط، بل موتًا يوحّد فيه بين "الفن" و"الفعل"، كان ميشيما يأمل كمحارب أن يؤدّي انتحاره إلى ثورة في الفكر والسّلوك، ولفت انتحاره آنذاك الأنظار بقوة إلى أعماله الأدبية من جديد: "كان انتحاره خطوة مهنيّة جيّدة"، على حدّ تعبير الشّاعرة الأميركية، آن سكستون، التي انتحرت هي الأخرى لاحقًا، وبالتحديد في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1974، مختنقة بعادم سيارتها في مرآب بيتها.
في محاولته لفهم انتحار ميشيما المأساوي، يقول داميان فلاناغان، كاتب سيرة ميشيما: "وبدلًا من النّظر إلى تلك الصّورة المرعبة لرأس ميشيما المقطوع، كخاتمة مروّعة لدعوته لإصلاح دستوري، أو رغبته في الموت مثل الساموراي، يمكننا أن ننظر إليها باعتبارها الهدف النهائي لميشيما، الذي طالما سعى إلى تحقيقه، لحظة تحوّل فيها هو نفسه ـ بضربة من نصل حبيب ـ إلى نسخة حقيقيّة من يوحنّا المعمدان".