Print
فريد الزاهي

إدمون عمران المليح.. نورس البرازخ العميقة

5 مارس 2021
استعادات
لا يمكن لأحد أن ينصت لنبض الساحة الفنية في المغرب من غير أن يطرق سمعه اسم إدمون عمران المليح (1917 ـ 2010)، لا لأن الرجل ناقد فني منتظم الكتابة، ولا لأنه يتابع الحركة التشكيلية مثل باقي المهتمين بها، ولكن لفرادة شخصيته الثقافية والجمالية، ولغرابة مسيره وتقلبات حياته التي ظلت تحافظ على نبرتها الخاصة. كان الزائر للمعارض لا يمكن إلا أن يلاحظ دخول الرجل بخطواته الوئيدة، وعكازته التي لا تفارقه. وفي آخر أيام حياته، كان من الضروري أن نهرع للإمساك بيديه ومساعدته على زيارة المعرض، لكي ينذر جسده الشائخ المتوقد إلى أريكة يتلقى فيها التحيات، ويتبادل كلماته الذكية مع هذا وذاك من الأصدقاء.
الكتابة على مشارف الشيخوخة
إدمون شخصية ذات فرادة خاصة. فهو كان في شبابه أحد المناضلين اليساريين الأشاوس، وأحد مؤسسي الحزب الشيوعي المغربي. وهو بمعية بعض المثقفين اليهود المغاربة، كشمعون ليفي (الأستاذ والباحث)، وأبراهام السرفاتي (المهندس المناضل اليساري)، وسيمون أسيدون، وأندري أزولاي (مستشار الملك المغربي)، وغيرهم، يشكلون نخبة من المثقفين والفاعلين اليهود في الحياة السياسية والثقافية المغربية، المعادين اللدودين للصهيونية، والمدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني الكاملة؛ نخبة سوف تترك بصمتها واضحة في جسد هذا المجتمع المتعدد.
لم يطرق الرجل دروب الكتابة في شبابه، كباقي مجايليه. بل كان يكتفي في منفاه بباريس بالنضال، وبتدريس الفلسفة، وببعض المساهمات الصحافية. ولم ينشر الرجل شيئًا يذكر قبل هذا العمر، كما لو أنه كان يسير بخطى حثيثة نحو اكتمال من نوع آخر، أو بالأحرى في اتجاه قطيعة تمكنه من التحول والانعطاف نحو الأثر. لقد أدرك الرجل أن الممارسة السياسية خاضعة للعرضي والزائل، وأن الكتابة آثار خطو تظل ثابتة في الأرض، كما لو أنها نحتت في الصخر... يذكر أصدقاؤه أنه قبل أن ينشر روايته الأولى "المجرى الثابت" (التي ترجمها إلى العربية محمد برادة) كان منذورًا للكتابة من غير أن يمارسها في شبابه، وأنه ربما كان يقاومها بهمة المناضل السياسي المنغمس في حمأة اليومي. تتابعت "الروايات"، وأبدى الكهل حركية ثقافية مذهلة جاوزت مجال الكتابة الحكائية، لتلج مجال الإبداع الفني والتشكيلي في وقت كانت الأقلام المتابعة له قليلة ونادرة.
كانت إحدى مفارقات الكتابة لدى المليح تتمثل في كونه، منذ نصه الروائي (أو بالأصح الحكائي) الأول، ينحو إلى سرد مركب محمول على هوى التقلبات والتحولات والفتنة الأسلوبية واللغوية، إلى درجة جعلت أغلب قراء الكاتب ينعتون نصوصه السردية بالكثافة والغموض والتعقد. بل إن صديقه ومترجمه، محمد برادة، يقارنه بجيمس جويس، ومارسيل بروست. أما كتاباته عن الفن، فإنها رغم كثافتها، وتعدد مساربها، تأخذ طابعًا شعريًا وحسيًا، في غالب الأحيان. هذه المفارقة قد تكون نابعة من أن اللغة تمتلك الوقائع، وتترجمها في الكتابة الحكائية، وأنها في المقاربة الجمالية تترك الحس يطوع اللغة كي تضع أناملها على الأشكال والألوان والمواد.
تحبل الكتابة الروائية، كما الدراسات التي نشرها إدمون عمران المليح، بذلك المزيج الذي ظل ينادي به الرجل بين الطابع اليهودي والعربي والأمازيغي والفرنسي. من ثم فاللغة نفسها جعلته (كما الخطيبي، والطاهر بنجلون، كل بتلوينه الخاص) يعيش الازدواج والتعدد، متأرجحا بين الحكاية والفكر، وبين الحس والتعقّل، وبين المادة والبناء الفني. فقد صرح لمجلة الماكزين ليتيرير عام 1999: "وأنا أكتب باللغة الفرنسية كنت أعلم أني لا أكتب بالفرنسية. فلقد كان ثمة ذلك الانْزراع الفريد للغة في أخرى، أي لغتي الأم، بالفرنسية العربية، تلك النار الباطنة".
استكشاف مجهول الفن
لا أعتقد أن إدمون عمران المليح كتب عن الفن رغبة في بناء مسيره كناقد فني. فرأيه في النقد الفني، ونقاد الفن، معروف، كان يسرُّه لي ولأصدقائه، ويصرح به في السّر والعلن. فهو لم يكن يترك فرصة تفلت من غير أن يفضح عوراتهم وعجزهم عن الإفلات من الإخوانيات والمحاباة وسوق التجارة الفنية. وهو حين يطلب منه أحد أصدقائه الكتابة عنه لا يتوانى عن الإفصاح علنًا بمآخذه على الفنان.
إذا كانت أول رواية للمليح قد صدرت عام 1980، والرجل قد جاوز الستين ببضع سنوات، فإن ما لا يعرفه كثيرون هو أنه مارس الكتابة عن الفن قبل ذلك بكثير. فقد أصدر الفنان محمد المليحي عام 1976 أول كتاب فني جميل عن رائد من رواد الفن المغربي الحديث، هو أحمد الشرقاوي، الذي كان قد خطفه الموت عام 1967، وهو لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من عمره. وطبعًا، لم يكن أمام المليحي إلا أن يتوجه إلى كتّاب من قبيل عبدالكبير الخطيبي، وطوني مارايني (الناقدة الفنية ذات الأصل الإيطالي، والأستاذة في مدرسة الفنون الجميلة التي كان يديرها فريد بلكاهية في الدار البيضاء؛ وهي كانت بالمناسبة زوجة المليحي)، ومن ثم لإدمون الذي كان حينها يعيش في باريس منذ 1965، ويعرف جيدًا أعمال الفنان.
يضع المليح في هذا النص لبنات كتابته الجمالية عن الفن المغربي. وحين يقرأ الواحد منا هذا النص المؤسس يلاحظ بشكل مباشر ما يميزه عن كتابة المفكر عبدالكبير الخطيبي في طابعها المفكر والفكري، وعن كتابة الناقدة طوني مارايني في تتبعها لتطور التجربة التشكيلية. إنها كتابة بالمعنى الشخصي، تلج عالم الفنان من الحكاية والعلاقة والتفكير الحسي. تبدأ نصوص المليح عادة بشيء خصوصي يشبه مدخل قصة، أو رواية. وهي بذلك تؤسس لحكي جمالي يستعيد العلاقة البنيوية والمعنوية بين الإستطيقا والأيسطيزيس، أي بين الذوق الجمالي، وبين الحس الجمالي. يبدأ النص هكذا: "المكان: أبو الجعد (موطن ولادة أحمد الشرقاوي). الزمان: فصل الصيف. وكأن الشمس تعرض على مسرح الوجود الكائنات الحية والأشياء، عارية جرداء، فتبدو للعيان واضحة لا يكتنفها غموض، جلية في أدق تكويناتها. أما الزمن فقد انمحى وسط السكون المطبق، وكأنْ لم يعد له وجود. وأما الحياة فقد تعلقت كالعادة بنهايتها بخيط وهي منطوية على نفسها تتأمل اللانهائي والسكون معًا. في مثل هذه الأجواء التي تؤجج الشعور، وتلهب العواطف، أتخيل طفلًا... مراهقًا يسرح ويمرح في رحاب الحرية، ويشب عن الطوق في جنباتها... إنها رؤية باهرة تكشف لنا في لمحة عن أثر الحياة، وعن أصل هذه الحياة، وكأن النبض الخلاق الذي ينبض به عمل فني من أعمال الفنان قد أضحى فجأة أسير رؤية هوجاء تنطلق متجاوزة كل علامة يمكنها أن تحدّد لنا مسيرًا فكريًا معينًا... هكذا هو عالم أحمد الشرقاوي، يبدو وكأنه أفق حلم تفتحت عليه العين وهو خصب، أخصبته تلك الأرض على مهل ....".
يتابع النص عالم الشرقاوي في حداثته، وفي نزوعه في آخر حياته نحو التصوف والنظرة الوجودية الكونية. إنه نص مؤسس يغور في تحول الخط (فالشرقاوي كان خطاطًا في الأصل)، في قداسته إلى علامة، وإلى حرية تنحت في اللوحة شجرة الحياة. وكما لو أن المليح لا يكتفي بالتحليل انطلاقًا من مرجعيات تحيل إلى بول كلي، ونيتشه، نلفيه يحلل لوحات بعينها، ممحصًا فيها بعين المفكر الفيلسوف الناقد. هكذا سوف يكتب المليح، أيضًا، في ما بعد، بالطريقة نفسها، وبالمداورة ذاتها، مؤسسًا ما يجاوز نقد الفن باعتباره مهنة، أي ما أسميه الكتابة عن الفن النابعة من كاتب يعانق رحابة الوجود بالكتابة. والحقيقة أن نصوص هذا الكتاب (الذي أعيد طبعه أواسط التسعينيات) هي من أجمل النصوص "النقدية" التي يمكن قراءتها عن الفن الحديث في المغرب.
بيد أن إدمون عمران المليح إذا كان من المولعين بفن الشرقاوي سوف ينحو منذ التسعينيات إلى استكشاف فنانين "مغمورين" يشتغلون بطرائق جديدة ومبتكرة من قبيل التيباري كنتور، الذي يصنع ورقه من بقايا الجرائد وسعف النخيل، ويخلق على صفحته غير المستوية عالمًا "إقلاليًا/ minimalist" بمواد وخامات طبيعية كلية، تمتزج بذاكرة المادة؛ ومن قبيل حسان بورقية، ذلك الناقد الأدبي والمترجم، الذي بدأ وهو يشارف الخمسين في التعبير التشكيلي من خلال تحويل اللوحة إلى مجال للآثار واللقى التي يلتقطها من حواليه في مدينته الفلاحية وسط المغرب، فيثبتها في اللوحة خالقًا بها عالمًا يتشكل بالتراب والطين والتبن والورق المستعمل. وبالأخص من قبيل خليل الغريب، الذي يمكن اعتبار تجربته الفنية هامشًا يقظًا وفريدًا في التجربة التشكيلية العربية.
ولقد كان الرجل من أوائل من خصصوا كتابًا كاملًا لفنان. فبعنوان "العين واليد" (باريس، 1993)، منح الكاتب للفنان خليل الغريب مكانة خاصة في التجربة التشكيلية المغربية، مموقعًا إياها في صلب التاريخ الفني المحلي والعالمي، ممتدحًا طرائقها في التعامل مع المواد والألوان. وهو كتاب عبارة عن نص مفتوح يحكي اللقاء والجاذبية، ويرسم صورة لمحترف الفنان المميز، الذي فيه يشكل عوالمه "السحرية"، ليخصص في الأخير لأعماله ومساعيه تحليلًا من الدقة، بحيث يكاد يساير تكون العمل الفني.
لا يكتفي المليح بسن كتابة خاصة عن الفن تكون هي في دورها رديفًا فنيًا للوحة، أو التجربة الفنية، يمكن قراءتها كنص مكتف بذاته، وإنما أيضًا بتحويل الفنان وتجربته إلى حلبة للاستكشاف، ومساءلة الوجود والكتابة والتصوير. وهو من ناحية أخرى، يستعيد فكره النقدي الذي لم يتخلّ عنه أبدًا، ليبني لنا "نظرية" جمالية تقوم على الانتباه للهوامش في الكتابة، كما في الفن. ولعل أهم ما ندين به له (هو وزوجته الفيلسوفة ماري سيسيل ديفور) هو ذلك الدفاع العميق عن أهمية التراث الصنائعي التقليدي artisanat الموروث، وعدم جعله فنًا "قاصرًا"... لا فقط لأن بعض التجارب الفنية (كتجربة فريد بلكاهية) تستوحيه، ولا فحسب لأنه يشكل مصدرًا من مصادر المغامرة التشكيلية والمعارة، ولكن في الأساس لأنه يشكل بذاته فنًا كاملًا مكتملًا. فالمليح يبدو مفتونًا بتواري الفنان وراء عمله، كما هو خليل الغريب مثلًا، أو التيباري كنتور، وغيرهما. وكأن هذا التواري الفاتن ليس سوى صدى لتواري الفنان الصانع أمام لوحة للخط، أو جدارية زليج، أو تواريق مصنوعة من الخشب، أو الجبس، أو الحجر...  فالعمل الفني في منظوره هو ذلك الذي "يقتل" صاحبه، ويعيد إحياءه وبعثه بشكل مغاير في العمل الفني.
هكذا، نجد أنفسنا أمام درس نقدي وفكري وحكائي في الفن قل نظيره في العالم العربي، ينكتب بلغة الآخر، وبوجدان متعدد تتمازج فيه العربية والأمازيغية والعبرية. إنه فعلًا درس لا يمكننا محاكاته، أو مضاهاته، في عمقه وأصالته وطابعه المبتكر، بيد أنه يمنحنا سبلًا لتأصيل الكتابة عن الفن في بلداننا العربية. وكم سيكون الأمر خصبًا لو أن هذه الكتابات ترجمت إلى لغة الضاد، تلك اللغة التي كان يتقنها عمران المليح أفضل من كثير من كتابنا الفرنكفونيين المغاربيين.